يتابع الرّأي العام الوطني منذ أيّام التصريحات الصّادرة عن مسؤولين كبار في السّلطة التّشريعيّة الأمريكيّة، أي مجلسي النواب والشيوخ (الكونغرس)، وهي تصريحات تتعلّق بمبادرة تشريعيّة من كتلتي الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي بعنوان “استعادة الديمقراطية في تونس”. وتهدف هذه المبادرة إلى سنّ قانون يشمل مجموعة من الإجراءات للضغط على نظام قيس سعيّد. وتتضمّن هذه الإجراءات عقوبات اقتصادية تشمل عددا من المسؤولين الكبار فضلا عن تجميد ومراجعة بعض الاتفاقيات التي تهمّ أساسا تمويل بعض مؤسّسات الدولة (الجيش خاصّة). وقد قدّم السفير “بازي”، المقترح لتمثيل الولايات المتّحدة في بلادنا، أمام الكونغرس الأمريكي مقاربته لما سيكون عليه سلوكه مع سلطات قيس سعيّد وهي مقاربة تصبّ عموما في محتوى مشروع القانون المشار إليه. وقد اعتبر الكثير من المحلّلين والمتابعين هذا الأمر تحوّلا في السّياسية الأميركية إزاء تونس التي لم تكن خلال المراحل السابقة من بين أولويّاتها في المنطقة.
إنّ تركيز خطاب حكّام أمريكا على أنّ “وضع الحريات وحقوق الإنسان في تونس يهدّد الاستقرار في المنطقة” وهو ما يستوجب تدخّلا منهم تحت غطاء “إنقاذ الدّيمقراطيّة”، وإن كان منخرطا بشكل عام في منطق الصلف والعربدة الذي تصاعدت وتيرته مع ترامب، فإنّه يحمل الكثير من الرسائل الموجّهة إلى نظام قيس سعيّد في الظرف الذي تمرّ به المنطقة والعالم حاليا، كما يحمل من جهة ثانية عديد المخاطر التي تهدّد بلادنا. لكن أنصار سعيّد وأتباعه من سقط متاع الحشد الفاشي لا يهمّهم من الأمر سوى مصالح الحكم الفردي المطلق لذلك يجنحون كالعادة إلى مغالطة الشعب التونسي بالتّرويج إلى أنّ هذا التهديد الأمريكي يعكس “سلامة توجّهات النّظام ووطنيّته” وهو ما يستوجب في نظرهم “رصّ الصفوف” وراء الحاكم بأمره الذي لم تجرؤ وزارته للخارجية على الاحتجاج لا على التصريحات المتتالية للمسؤولين الأمريكيّين ولا على مشروع القانون الذي سيعرض على المشرّع الأمريكي. ومن هذا المنطلق يهمّ حزب العمّال أن يشرح موقفه من هذه المستجدّات ويحدّد ما يراه ضروريّا لمواحهتها قبل فوات الأوان.
إنّ سياسة سعيّد لم تكن في يوم من الأيام سياسة معادية للامبرياليّة إلّا بالخطابات الفضفاضة مثل خطاباته حول فلسطين التي لم تتجاوز ترديد نفس الجمل دون المرور إلى الإجراءات التي تدخّل لإيقافها ونقصد قانون تجريم التطبيع. كما أنّ سعيّد لم يتردد في التطبيق “الوفي” لكل الوصفات الاقتصادية المملاة من قبل هيئات النهب حتّى وإن أصرّ على مغالطة الشّعب بإيقاف التعامل مع صندوق النّقد بينما هو يخضع في الوقت ذاته لإرادة صناديق ومؤسسات مالية أشدّ عنجهية ممّا أغرق البلاد في مزيد التداين والتبعية والشعب في مزيد الفقر والبؤس.
ومن جهة أخرى فإنّ سعيّد لم يلغ أيّا من الاتّفاقيات غير المتكافئة الاقتصاديّة والسياسيّة والأمنيّة والعسكريّة المعلنة وغير المعلنة مع الدّول الامبريالية وعلى رأسها اتفاقية “الشراكة” مع الاتّحاد الأوروبي واتفاقية “الشريك المميّز” مع حلف الناتو واتفاقيات أخرى لا تحصى ولا تعدّ تهمّ وضع اليد على مقدرات تونس الباطنية والزراعيّة والبحريّة. ولعلّ الاتفاقيات الأخيرة مع رئيسة الحكومة الإيطاليّة، اليمينيّة المتطرّفة “ميلوني”، التي تهمّ الهجرة والتي تحوّل بمقتضاها نظام سعيّد إلى حارس فعلي لحدود أوروبا الجنوبية مقابل حفنة من اليوروات، تشكّل مثالا ساطعا على طبيعة هذا النّظام الذي يعبّر عن مصالح الأقلية البورجوازية العميلة المتحكّمة في مفاصل تونس ماضيا وحاضرا. إنّ ما يميّز هذا النظام هو شعبويّته، بل اختياره مغالطة الشعب بخطاب منافق ظاهره وطني سيادي وجوهره تابع ذليل لإرادة الاحتكارات الرأسمالية الغربية. ولكن لسائل أن يسأل إذا كان نظام سعيّد على هذا النّحو فلماذا يتحرّش به حكّام أمريكا؟
إنّ الجواب على هذا السّؤال يكمن في السياسة التي تعتمدها الولايات المتحدة في العالم وفي منطقتنا في الظرف الحالي. إنّ الإمبريالية الأمريكية المتأزمة هي اليوم في صراع محموم مع بقية الأقطاب الرأسمالية الامبريالية وفي مقدّمتها الصين وروسيا اللتان تهدّدان عرشها وعرش الهيمنة الامبريالية الغربية التي تمتدّ منذ خمسة قرون. وهو ما يدفعها إلى مزيد الغطرسة والوحشية. وفي هذا السياق وفيما يهمّ منطقتنا فإن تكريس خارطة “الشرق الأوسط الجديد” يقتضي اصطفاف كل أنظمة المنطقة دون قيد ولا شرط، وهو ولئن تحقّق بشكل كلّي مع أغلب أنظمة المنطقة، فإن من بقي دون هذا الخضوع سيكون عرضة للتحرّش والتدخّل والضّغط. وغير خاف في هذا الصدد العمل على محاصرة الجزائر مثلا. أمّا تونس فما يريده الامبريالي الأمريكي هو وضع حدّ “للتنطّعات” الخطابيّة لرأس النّظام ولـ”فرفشته” في إدارة الحكم وما يترتّب عنها من فوضى قد تشوّش على مشاريعه كما تشوّش على مصالح الفئات المحلية العميلة، المرتبطة عضويا بالرأسمال الامبريالي الغربي. لذلك يتمّ الابتزاز اليوم باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان وهو ليس بالأمر الجديد في سلوك البلدان الامبريالية الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي هي بدورها في حاجة إلى “استعادة الديمقراطية” وهي التي تنظم حرب إبادة في فلسطين فاقت في فظاعتها جرائم النازية، وهي التي تسند ألدّ أعداء الديمقراطية من الأنظمة الاستبدادية والعائلية والطائفية في منطقتنا وفي العالم، وهي التي تهدّد بالتدخل العسكري لإسقاط نظام فنزويلا لا لشيء سوى لرفضه الخضوع لإرادة “الكوبوي” الأمريكي الذي يريد “استعادة” النفط الفنزويلي مثلما ظل يمتصه لعقود.
لكن المشكل كلّ المشكل في بلادنا هو أنّ نظام سعيّد، بسبب سياساته الاستبدادية، بصدد تدمير قدرات الشعب على التصدي لنوازع التدخل الخارجي. إنّ نظام سعيّد الشعبوي الفاشي أبعد من أن يمثّل السيادة الوطنية والشعبية وهو الذي يدمّر كما أشرنا إلى ذلك أعلاه مقوّمات السيادة الوطنية يوميّا بمزيد إغراق البلاد في التبعية والشعب في الفقر والبؤس والجهل والمرض. كما يدمّر يوميّا النسيج المجتمعي عبر زرع الفتنة والكراهية بين أبناء الشعب التونسي مستعملا خطابا شعبويّا متخلّفا للتغطية على عجزه وفشله في تحقيق مطالب الشعب. وهو من ناحية أخرى يدمّر عناصر المناعة في هذا النسيج عبر ضرب الحريات والحقوق وسعيه المحموم إلى إلغاء قوى المجتمع المدني أو ما يسمّى “الأجسام الوسيطة” التي لعبت دورا حاسما في حماية تونس من التدحرج نحو الانهيار على الشاكلة التي حدثت في أغلب الأقطار العربية التي نجحت أنظمتها الاستبدادية في تفكيك مختلف التنظيمات المدنية والسياسية فيها وتركتها رهن سلوك الأجهزة العسكرية والأمنية القابلة للاختراق في أيّ لحظة (ليبيا وسوريا واليمن والعراق…) فكان مآلها الانقسام والتفتت والحروب الأهلية والتدخلات الأجنبية حال سقوط أنظمتـ « ها ». فقيس سعيّد داس على مكتسبات الثورة الديمقراطيّة وحل الهيئات التمثيلية والرقابية والتعديلية ونصّب نفسه حاكما فرديا مطلقا وملأ السجون من جديد بالمعارضين والمنتقدين وكمّم الإعلام الحرّ وزرع الخوف من جديد في النفوس وهو لا يتوانى عن التحرّش بالاتحاد العام التونسي للشغل وبمنظمات المجتمع المدني بهدف خلق الظروف المناسبة للتخلص منها أو على الأقل تحييدها وتحويلها إلى هياكل شكلية. وهو بلا شك يدمّر بذلك مناعة تونس السياسية مثلما يدمّر مناعتها الاقتصادية والاجتماعية بمواصلة تكريس نفس خيارات منظومات الحكم السابقة اللاوطنية واللاشعبيّة.
إننا في حزب العمّال نناهض ونرفض وندين كل أشكال التدخل الامبريالي الأجنبي ومن باب أولى وأحرى التدخل الامبريالي الأمريكي في شؤون بلادنا وندعو شعبنا وكل القوى الوطنية والتقدمية إلى مواجهته وصدّه. لكنّنا لا نكتفي بذلك فنحن ندين أيضا خضوع نظام الحكم للسيطرة الامبرياليّة واتّباعه سياسة تفقد بلادنا سيادتها واستقلالها وتعرضها باستمرار للمخاطر الخارجيّة. إنّ الفرق واضح بالنسبة إلينا بين سيادة الوطن التي تكمن مقوماتها في الاستقلال الاقتصادي وفي رفاهية الشعب وتمتعه بحريته وحقوقه الأساسية وهو ما يقوّي شعوره بعزّة الانتماء وبين “سيادة الحكم الفردي المطلق” التي لا تعني سوى صيانة سلامة الدكتاتور وعائلته وخدمه والفئات المحلية والأجنبية الرّجعية التي يمثل مصالحها مقابل قمع الشعب وتفقيره وتجويعه. ولا أدلّ على ذلك من أنّ قيس سعيد وأنصار انقلابه لا يرفعون شعار الذود عن “السيادة” إلّا حين تثار في وجوههم مسألة طبيعة الحكم الدكتاتورية والحريات والحقوق سواء من منظمات وهيئات حقوقية دولية أو إقليمية أو من حكومات أجنبية أو غيرها إن من منطلق التضامن مع الشعب التونسي أو من منطلق الضغط والابتزاز الاستعماري. أمّا إغراق البلاد يوميا في التبعية وتفاقم بؤس الشعب وفقره فذلك ما لا حديث عنه. وهنا يكمن كل الفرق بين سيادة الوطن وسيادة النظام.
إن حزب العمال يعتبر أنّ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان هي من مكاسب الإنسانيّة ومن مقومات سيادة الشعوب ومن عوامل نهوضها وازدهارها. وهي لا تهدى من امبريالي أمريكي أو غيره هو معاد لها أصلا ولا تأتي على ظهور الدبابات ولا تمنّ بها أنظمة الاستبداد وإنما تحققها الشعوب بنضالها وتضحياتها في إطار الاستقلالية التامة عن كل تدخل أجنبي. ومن هذا المنطلق فإن إمعان سقط متاع الحشد الفاشي من أنصار الانقلاب في مغالطة الشعب التونسي باستعمال شعارات وطنية زائفة لتحشيده وراء الحاكم الفردي المطلق ينبغي رفضه وفضحه والتصدي له علما وأنّ هذا التحشيد لن يتجاوز واقعيّا إطار الغوغاء والمناورة لإيجاد صفقة مع العدو الامبريالي في الغرف المظلمة أو حتى في وضح النهار على حساب مصالح الوطن والشعب في إطار وضع متقلب جدّا في المنطقة والعالم. هذا إن لم يكن الفرار واللجوء إلى الخارج وترك الشعب يواجه مصييره وحده الخيار النهائي إذا كثر الضغط واشتدت التهديدات. هذا من جهة ومن جهة أخرى من الواجب والضروري التصدي للعمل اليائس من قبل بعض الأوساط السياسية المخلوعة من الحكم، والحقوقوية الناشطة في تونس أو المقيمة في الخارج من أجل جرّ “كل معارضي النظام” إلى حظيرة التبعية والعمالة ظنّا منها أنّ الخلاص لن يأتي إلا بالتعويل على الخارج نتيجة عدم إيمانها بقدرات الشعب التونسي على تحقيق تحرره بنفسه أو نتيجة لغياب طول النفس والعجز عن تكريس الجهد اللازم للارتقاء بوعي الشعب وتنظيمه ليصبح جاهزا للتخلص من مستغليه ومضطهديه.
إنّ تحرر الشعب لن يكون أبدا بوضع اليد مع الغزاة مهما كانوا لأنّهم إذا دخلوا فلن يغادروا، ولنا في العراق بالأمس وسوريا اليوم أحسن الأمثلة. إنّ الطريق الأقصر في نضال الشعب التونسي لتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية هو الربط العضوي بين مختلف مستويات النضال الوطني والديمقراطي والاجتماعي وهو ما لن يتحقق دون إسقاط نظام الاستبداد الشعبوي، خارج ذلك سيبقى شعبنا ضحية التلاعب الشعبوي الذي يميّع الوعي وضحية تجار السياسة الذين يلعبون دور التياس للامبريالية المتوحشة التي لا ترى في شعوبنا وبلداننا سوى مناجم وأسواق وقوة عمل ووسيلة لتحقيق أقصى الأرباح. إنّ درس الدروس الذي قاد حزب العمال في نضاله منذ اليوم الأول لتأسيسه هو أنّ الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان تبقى دائما مكسبا يحققه الشعب بنفسه ولنفسه بمقاومة أعدائه وهي لا تهدى له من مستبدّ أو طرف أجنبي خاصة إذا كان اسمه الامبريالية الأمريكية التي لا يحفل تاريخها إلا بالحروب والمجازر. كما أن هذا المكسب لن يثبت في الأرض ولن يكون له معنى إلّا إذا ارتبط بتوفير العدالة الاجتماعية في إطار اقتصاد وطني متحرر من كل هيمنة ويكون فيه الشعب صاحب السيادة الفعلية على ثروة البلاد مثلما هو صاحب السيادة الفعلية على الدولة.
لا للتدخل الأجنبي في بلادنا
يسقط الاستبداد مدمّر الأوطان
لا حلّ إلّا في النضال والوحدة الشعبية
صوت الشعب صوت الحقيقة
