بقلم عادل ثابت
لا نذيع سرّا إذا قلنا أنّ حكومة “فرانسوا بايرو” (François Bayrou) أصبحت في عداد الماضي، فكل المؤشرات تؤكد أنه سيفشل في نيل ثقة الجمعية الوطنية (assemblée nationale) يوم الإثنين القادم 8 سبتمبر بمناسبة وضع مسؤولية حكومته في الميزان حول السياسة العامة في مجال الدين العمومي. فقد أعلنت كل المعارضات عزمها على إسقاط “بايرو” وحكومته بالتصويت ضدّ تلك السياسة.
حلقة أخرى من مسلسل أزمة منظومة الحكم
لئن شهدت عهدة “ماكرون” الثانية تعاقب حكومات أقلية داخل الجمعية الوطنية، فإن الأزمة السياسية تعمّقت أكثر إثر الانتخابات التشريعية السابقة لأوانها التي جرت في جوان/جويلية 2024 والتي مُنِيَ فيها “ماكرون” بهزيمة نكراء، حيث فقدت الحكومات التي تلت تلك الانتخابات الأغلبية النسبية أي موقع القوة السياسية الأولى داخل الجمعية الوطنية.
فكان التّضييق على النّقاش العام تحت قبّة الجمعية الوطنية باعتماد الفصل 49.3 من الدّستور لتمرير القوانين بالقوّة دون التصويت عليْها وقد كانت تلك الممارسة من أبرز سمات الأزمة السياسية التي طبعت منظومة الحكم منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
ولم يمضِ عام واحد على إسقاط حكومة “ميشال بارنيي” (Michel Barnier) في ديسمبر 2024، بعد أن حصلت لائحة اللوم التي تقدّمت بها الجبهة الشعبية الجديدة بمناسبة تمرير ميزانية 2025 على أغلبية أصوات النواب (58%)، ليجد اليوم خلفه “بايرو” نفسه في وضع مشابه. وهو ما كنا توقعناه بمناسبة تعيينه، فنفس الأسباب تؤدي إلى نفس النتائج. ولئن استمرّت حكومة “بايرو” مدّة أطول، تسعة أشهر مقابل شهرين وأسبوع بالنسبة لحكومة “بارنيي”، فإن ذلك يعود من جهة إلى الانقسام الذي عرفته الجبهة الشعبية الجديدة على خلفية السياسة “المعتدلة” (اقرأ المتواطئة) التي يسلكها الحزب الاشتراكي بصفة خاصة والاستهداف الذي ما فتئ يقوده ضدّ حركة فرنسا الأبية لعزلها وإضعافها طمعا في الوصول إلى سدّة الحكم. ويعود ذلك من جهة ثانية إلى التقارب الذي حصل بين “بايرو” واليمين الفاشي الذي تمكّن من تمرير جزء من مقترحاته المتعلّقة بالهجرة علاوة على كونه يسعى إلى البروز في مظهر الحزب المعتدل الذي يدعم الاستقرار ويؤمّن مصالح رأس المال والذي بإمكانه أن يحكم البلاد.
إنّ أزمة الحكم والديمقراطية ليست سوى الواجهة السياسية للأزمة العامّة للنّظام الرأسمالي في فرنسا وهي في ارتباط وثيق بالأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تسعى البورجوازية ودوائر الحكم إلى تصريفها على حساب العمال وعموم الشعب عبر ميزانيات التّقشّف المتتالية والتقليص في الخدمات العمومية ومراجعة الحقوق والمكاسب الاجتماعية.
بوادر نهوض للحركة الاجتماعية
بعد حملة “ماتراكاج” إعلامية كبيرة حول الأزمة الاقتصادية وخاصة منها الارتفاع المشطّ للدَّيْن العمومي الذي “يهدّد الدّولة بالإفلاس” ويضع بالتّالي مصيرها تحت رحمة صندوق النّقد الدّولي والبنك العالمي، قدّم “بايرو” خلال شهر جويلية، في إطار إعداد ميزانية 2026، حزمة من الإجراءات تحت عنوان التحكّم في الدين العمومي لتوفير مبلغ 44 مليار يورو. وقد جاءت تلك الإجراءات في أغلبها لتُثْقِلَ أكثر كاهل الكادحين والفقراء بصفة خاصة، نذكر منها التّقليص في أيّام العُطَل بيومين ومراجعة حقوق العاطلين عن العمل لإجبارهم على القَبُول بالأعمال الهشّة وكذلك التّقليص من الاعتمادات الموجّهة لقطاعات الصّحّة والتّعليم والوظيفة العمومية علاوة على توظيف معاليم إضافية على عدد من الخدمات الاجتماعية، كما كان للمهاجرين نصيبهم من الفاتورة عبر مراجعة الإعانة الصحية للدولة (AME – aide médicale d’état).
كان ذلك بمثابة استفزاز جديد يَنْضاف إلى المعاناة اليومية لشرائح واسعة من الفئات الشعبية والمتوسّطة ومن الشّباب والنّساء، وهو ما أعطى إشارة الانطلاق عبر الشّبكة الاجتماعية لحركة ما فتئت تتوسّع تحت عنوان “bloquons tout” تدعو إلى وقف كل نشاط يوم 10 سبتمبر. هذه الحركة تذكّر بحركة “السِّترات الصّفْراء” التي جاءت ردّا على غلاء المعيشة وتدهور المرافق العامّة والتي خلقت تعاطفا شعبيا هامّا حولها واستمرّت لعدّة أشهر. وهي بصدد تجميع الغاضبين والنشطاء من قطاعات مختلفة وأصبحت بذلك تقضّ على حدّ سواء مضاجع دوائر الحكم والمال التي انطلقت في حملة شيطنة وتخويف للرأي العام من “الطابع العنيف” لهذه الحركة الناشئة. كما أنها تذكر أيضا بالحركة التي قادتها النقابات العمالية في 2023 ضدّ قانون مراجعة التّقاعد والذي تمّ تمريره عنوة عبر الفصل 49.3 سيّء الذّكر رغم رفض أغلبية الرأي العام له، ولا يفوتنا في هذا الصدد أن نذكِّرَ بأن “بايرو” ذاته وَعَدَ بإعادة النّظر في بعض أوجه هذا القانون عند توليه رئاسة الحكومة إلا أنه أخلف وعده.
هذه الحركة لقيت تجاوبا إيجابيا من النقابات المناضلة (CGT, Solidaires, FSU …) التي أعلنت عن دعمها والمشاركة فيها، كما أعلنت بدورها تنظيم يوم تحرك واحتجاج في 18 سبتمبر الجاري يمكن أن يتحوّل إلى إضراب عن العمل.
كما أنّ عموم القوى اليسارية وخاصة اليسار الراديكالي أعلنت دعمها وانخراطها في هذا الحراك الناشئ.
ختاما
إذا كانت فرنسا بصدد طيّ صفحة “بايرو”، فإن منظومة الحكم تبدو غير قادرة على إيجاد رئيس حكومة بديل له على ضوء المعطيات الحالية رغم مساعي الحزب الاشتراكي إلى عرض خدماته ومحاولته التقاط الفرصة للعودة إلى سدّة الحكم.
هذا الوضع يجعل ماكرون المتشبث بالبقاء حتى نهاية عهدته في 2027 في موقع ضعيف وحرج وفي مرمى سهام المعارضة التي بدأ بعضها يرفع شعار المطالبة باستقالته، وهو ما يمكن أن يدفعه من جديد إلى حلّ الجمعية الوطنية والدعوة لانتخابات سابقة لأوانها في الأيام القادمة.
هذه الانتخابات في حالة وقوعها وتزامنها مع تصاعد الحراك الاجتماعي ستكون نتائجها مطبوعة بمطالب الحركة وهواجسها وقد تكون، وفقا لذلك، مناسبة لتعديل المشهد السياسي.
صوت الشعب صوت الحقيقة
