الرئيسية / صوت الوطن / الحصة الواحدة: إصلاح تربوي أم مقامرة جديدة؟ أم مقترح على قياس خيارات المنظومة الشعبوية اللاشعبية؟
الحصة الواحدة:  إصلاح تربوي أم مقامرة جديدة؟ أم مقترح على قياس خيارات المنظومة الشعبوية اللاشعبية؟

الحصة الواحدة: إصلاح تربوي أم مقامرة جديدة؟ أم مقترح على قياس خيارات المنظومة الشعبوية اللاشعبية؟

بقلم ألفة بعزاوي

تقدم عدد من أعضاء مجلس النواب بمشروع قانون تحت عنوان “تنظيم العمل بنظام الحصة الواحدة في المؤسسات التربوية العمومية وحوكمة الزمن المدرسي”. وقد تمّ تقديم المقترح إلى مكتب المجلس الذي أحاله على لجنة التربية والتكوين المهني بالبرلمان بتاريخ 16 جويلية 2025 ممّا يجعله من أولى مشاريع القوانين التي سيقع النظر فيها في افتتاح السنة البرلمانية الجديدة. ومع عودة المدرسة التونسية إلى واجهة النقاش العام في الفترة الأخيرة باعتبار استعدادات العائلات التونسية للعودة من جهة وتصاعد وتيرة التحركات والاحتجاجات التي تخوضها نقابات مختلف الأسلاك التربوية في جميع أنحاء البلاد والتي تعرّي كمّ المشاكل التي تعاني منها منظومة التعليم العمومي وتراكمها من جهة ثانية، أطلّ علينا مشروع القانون من أدراج المجلس وكثر حوله الجدل.

أصحاب المبادرة التشريعية يسوّقون لها كإصلاح تربوي من شأنه أن يخفف العبء اليومي على التلميذ ويحدّ من الهدر المدرسي ويحسّن جودة التعليم ويعزز ظروف عمل الأسرة التربوية كما من شأنه أيضا ترشيد استهلاك الطاقة داخل المؤسسات التربوية بحسب ما ورد في وثيقة شرح الأسباب التي تمّ إرفاقها بالمقترح، والتي تتضمن أيضا إحالة على عدد من التجارب في دول أخرى من بينها فنلندا وكندا وفرنسا… لكن في وجه هذا “الحل المبتكر” تطرح العديد من الأسئلة الجوهرية حول مدى جدية المقترح والإعداد له ومدى واقعيته وإن كان لا يمثل مقامرة جديدة أو مغامرة مرتجلة تضع على المحك مستقبل مئات الآلاف من التلاميذ.

غياب الأسس العلمية للمقترح

أول ما يجب التوقف عنده هو غياب دراسة علمية شاملة تستند إلى بحوث ميدانية وإحصاءات دقيقة قبل إطلاق المقترح. إنّ أيّ عملية إصلاح يفترض أن تكون نتيجة لدراسة معمقة وأن تبنى على بحوث علمية وتقارير خبراء وورشات عمل وطنية… غير أن مقترح الحصة الواحدة طرح بطريقة سريعة وارتجالية دون دراسة وطنية أو تقييم شامل، وهو ما يجعله أقرب إلى التجربة الظرفية منه إلى رؤية متكاملة. فهل نتعامل مع مصير مئات الآلاف من التلاميذ وفق سياسة تجريبية مبنية على الارتجال لا على أسس علمية؟

من جهة أخرى لم تقع استشارة مختصين في علم نفس الطفل ولا متفقدين بيداغوجيين لتقييم أثر تقليص اليوم الدراسي وتغييره في السياق التونسي تحديدا قبل تقديم المقترح. فالتلميذ ليس مجرد متلقّ لساعات دراسية بل هو كائن يعيش إيقاعا يوميا يؤثر في تركيزه، في صحته النفسية وفي علاقته بالمؤسسة التربوية. ولطالما ارتبطت تجارب الإصلاح التربوي في العالم بما يسمّى بالإيقاع المدرسي الذي يعني التوازن بين زمن التعلم وزمن الراحة، بين مجهود العقل وحاجات الجسد، بين متطلبات البرنامج وقدرات الطفل النفسية والمعرفية التي تختلف باختلاف مراحل نموّه… هذا المفهوم تطور بفضل دراسات علم نفس الطفل والبيداغوجيا الحديثة التي أثبتت أن تنظيم الوقت المدرسي ليس مجرد توزيع للساعات بل هو علم قائم على احترام إيقاع نموّ التلميذ وانتباهه. في فرنسا مثلا، وهي إحدى التجارب المقارنة التي قدّمها أصحاب المبادرة في الوثيقة التفسيرية، يشكل الإيقاع المدرسي موضوعا لنقاش عمومي واسع. وقد أدخلت إصلاحات منذ سنة 2013 تراعي طاقة التلميذ وقدرته على الانتباه في توزيع الحصص مع فسح المجال للأنشطة الثقافية والرياضية مستندة إلى أبحاث أكاديمية واستشارة موسّعة للأخصائيين.

في تونس، يسمح القانون التوجيهي المتعلق بالتربية والتعليم لسلطة الإشراف باعتماد أيّ نظام توقيت تراه مناسبا، وهو ما جعل عديد المدارس الابتدائية – أساسا في الأرياف – تعمل وفق نظام الحصة الواحدة لاعتبارات عديدة على رأسها صعوبة التنقل… لكن هذا لم يؤدي إلى ازدهار للأنشطة الثقافية والرياضية التي ظلت منعدمة في هذه المؤسسات التربوية ما عدى بعض الحالات الاستثنائية، بل تحوّل الوقت المتبقي إلى مجال لعمالة الأطفال في النشاط الفلاحي سواء لمساعدة عائلاتهم في الحقول أو في حالات كثيرة مقابل أجر زهيد وهو ما يحرمهم من حقهم الطبيعي في اللعب والتعلم المتكامل. إن الاعتماد على نماذج تعليمية ناجحة في دول أخرى دون مراعاة الخصوصيات المحلية سيتحول إلى استنساخ مشوّه يؤدي بالضرورة إلى إضعاف تكوين التلميذ ونموّه السليم وإلى إعادة إنتاج الفقر والتمييز الطبقي ويضرب مبدأ تكافؤ الفرص.

إغفال البنية التحتية والعدالة بين الجهات

في نفس السياق وبالحديث عن الإسقاطات وعن “استيراد” تجارب غير ملائمة للواقع التونسي، هل هناك وجه للمقارنة بين حالة المؤسسات التربوية في فنلندا وفرنسا وكندا وغيرها وبين حالتها في تونس؟ وهل أخذ أصحاب المبادرة بعين الاعتبار البنية التحتية المهترئة للمؤسسات التربوية؟ وهل قاموا بدراسة لواقع النقل المدرسي في مختلف جهات البلاد؟…

قبل إطلاق مبادرة نظام الحصة الواحدة، كان من الأجدى البدء بمواجهة الواقع البنيوي الذي تعيشه مئات المؤسسات التعليمية التونسية إذ تفيد دراسات للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتقارير اليونيسيف أنّ 527 مدرسة ابتدائية أي ما يعادل 12% غير مرتبطة إطلاقا بشبكات المياه ويقع تزويدها عبر طرق غير آمنة كالصهاريج والخزانات ممّا يهدّد صحة التلاميذ ويخالف الحق الدستوري في الماء الصالح للشراب. كذلك تعاني 128 مدرسة ابتدائية من غياب وحدات صحية يتركز 74% منها في الوسط الغربي، ما يعكس تباينات جهوية كبيرة ويضرب في الصميم مبدأ العدالة في النفاذ للتعليم. بالإضافة إلى ذلك، تشير العديد من التقارير إلى تدهور كبير للبنية التحتية للمؤسسات التعليمية من الأسطح المتسربة إلى الجدران المتشققة والقاعات الآيلة للسقوط… ولا توجد إحصائيات دقيقة في الغرض بسبب تكتم الوزارة وتهرّبها وتهرّب المنظومة عموما من تحمل مسؤوليتها تجاه هذه المعضلة ومواصلتها في سياسة ضرب التعليم العمومي لفائدة التعليم الخاص. وقد جاءت حادثة الجدار بالمزونة لتعرّي مشاكل البنية التحتية المتراكمة واستهتار الدولة لا فقط بالمدرسة العمومية بل بحياة الآلاف من أبنائنا التلاميذ في مختلف جهات البلاد. فحادثة الجدار ليست حادثة معزولة أو استثناء شاذا عن واقع التعليم العمومي في تونس بل هو نتيجة حتمية لسياسة الدولة وخياراتها اللاشعبية واللاوطنية. حيث أنّ المربين وهياكلهم النقابية يقومون على العموم بواجبهم في الإشعار بوجود أخطار مماثلة، وتقع مراسلة الوزارة في أغلب الحالات لكن الاستجابة ضعيفة جدا. عديدة هي الحالات التي يتمّ فيها استدعاء خبير يقدر ضرورة غلق قاعة آيلة للسقوط ويتمّ استعمال القاعة لسنوات بعد ذلك بتعلة “عدم توفر عدد كافي من القاعات” والزيادة في عدد التلاميذ… ويصوّر الأمر في صيغة الإجبار على المفاضلة بين خيارين أحلاهما مرّ، وكأنه لا يوجد خيار ثالث يتمثل في تحمل الدولة مسؤوليتها وصيانتها للمؤسسات التربوية بشكل استباقي وبشكل دوري… ووصلت الوقاحة إلى اعتماد الحاويات “les conteneurs” كقاعات للتدريس في عديد المؤسسات على اعتبار أنه حلّ مؤقت ليدوم هذا المؤقت لسنوات دون تغيير.

ولا يمكن أن نمرّ دون التعريج على مشكل جوهري ألا وهو مشكل النقل المدرسي حيث تفيد دراسة تعود للسنة الدراسية 2022-2023 أنّ نسبة التلاميذ المستفيدين من النقل المدرسي لا تتعدى 14% في الإعدادي والثانوي وفقط 2% بالنسبة لتلاميذ الابتدائي. وقد أفادت الوزارة في بداية السنة الدراسية 2024-2025 أنّ عدد التلاميذ المنتفعين بالنقل المدرسي زاد بنحو 8 آلاف تلميذ مقارنة بالسنة الدراسية التي سبقتها وهو ما يقدّر بحوالي 0.1% من إجمالي التلاميذ المسجلين في تلك السنة. ما يضطر عددا كبيرا من التلاميذ إلى السير لأكثر من 30 دقيقة للوصول إلى المؤسسة التربوية، كما أنّ مشهد شاحنات الموت التي تقلّ العاملات في القطاع الفلاحي ليس بعيدا عن مشهد نقل التلاميذ في المناطق الريفية. فشاحنة أحد متساكني “الدوار” أو القرية هو وسيلة النقل الوحيدة لدى تلاميذ تلك المنطقة للذهاب للدراسة. لنرى في كل صباح مشاهد مرعبة لشاحنات تعجّ بما يزيد عن الـ 30 تلميذا، متراصين بعضهم فوق بعض، معرّضين للأمطار شتاء ولأشعة الشمس صيفا متجهين لمدارسهم أو معاهدهم ويبدؤون كل يوم من أيام السنة الدراسية بتحية العلم والنشيد الوطني…

التعليم العمومي في مرمى المقترح

كل هذه المشاكل لم يبوّبها أصحاب المبادرة التشريعية كمشاكل ذات أولوية للحل أو حتى كشرط أساسي لنجاح مقترحهم الذي لا يغدو أن يكون سوى ضربا من ضروب العبث في هذا الواقع المتهالك للمؤسسات التربوية، متناغمين مع طرح المنظومة الشعبوية لرئيسهم والتي تواصل ضرب التعليم العمومي ولا أدلّ على ذلك من ضعف الميزانية المخصصة لوزارة التربية وضآلة الجزء المخصص منها للتنمية والبنية التحتية إذا ما حذفنا الجزء الموجه للتأجير. ودونما معالجة لهذه المشاكل ستكون النتيجة المباشرة لهذا المقترح مزيد إضعاف ثقة الأولياء في المدرسة العمومية ودفعهم قسرا نحو التعليم الخاص لمن استطاع إليه سبيلا. وبهذا المعنى يصبح المقترح جزءا من سياسة ضرب التعليم العمومي وتفريغه من دوره التاريخي كرافعة للعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص.

إنّ الحديث عن النهوض بجودة التعليم كنتيجة لتطبيق نظام الحصة الواحدة هو محض من السريالية التي تقفز على الواقع السالف توصيفه وتجانب المنطق الذي يقول أنّ جودة التعليم ترتبط أيضا بمحتوى البرامج وطرق التدريس وآليات تقييم التلاميذ والتكوين والمرافقة المستمرين للمربين بالإضافة إلى العدالة والمساواة في النفاذ للتعليم. إذ تفيد تقارير اليونيسيف في تونس أنّ 36% من الأطفال بين 7 و14 عاما يفتقرون إلى مهارات القراءة الأساسية، وأن 68.3% منهم لا يمتلكون المهارات الحسابية الأساسية. إضافة إلى ذلك فإن معدلات التمدرس في تراجع مستمر: في الابتدائي تراجعت هذه النسبة من 98% سنة 2012 إلى 92.2% سنة 2023 أمّا في المرحلة الإعدادية فتقدّر نسبة التمدرس بـ 76.5% فقط سنة 2023.

كما أنّ تحسين جودة التعليم لا يمكن أن تكون بأيّ حال من الأحوال بمعزل عن تحسين ظروف عمل المعلمين والأساتذة والأسرة التربوية عموما. إذ يشير الخبراء أن الإرهاق المهني ونقص الموارد وضغط العمل الإداري… كلها عوامل من شأنها أن تؤثر على جودة التعليم. وبالتالي فإن ظروف عمل تضمن كرامة المربين والإداريين والعملة من تحسين في الأجور وفي منظومة التأمين الصحي ومراجعة ساعات العمل وغيرها من شأنها أن تنعكس إيجابا على المتعلمين باعتبار علاقة التأثير والتأثر التي تربط مختلف عناصر العملية التعليمية (المتعلم – المعلم – المحتوى الدراسي) من جهة والتي تربط هده العناصر مجتمعة بالبيئة التعليمية (البنية التحتية – عدد التلاميذ بالقسم الواحد – الملاعب – المكتبات – المبيتات – قاعات المراجعة – المطاعم…) من جهة ثانية. وهو على النقيض تماما ممّا يحاول الترويج له أنصار المنظومة الشعبوية الذين يشيطنون كل المطالب المادية والمهنية للمربين ويتهمونهم بالإضرار بمصلحة التلاميذ والحال أنهم بهذا الخطاب لا يعيرون أيّ اهتمام لهذه المصلحة وإنما يدافعون دفاعا أعمى عن المنظومة وعن خياراتها.

إنّ الحلّ لا يقتصر إذن على تعديل الزمن المدرسي، بل إن إطلاق مثل هذه المبادرات قد يمثل فرصة للمنظومة للتغافل عن المشاكل الجوهرية للمنظومة التربوية ويعطيها المجال للمناورة من خلال إجراءات شكلية وتجريبية.

المنظومة الشعبوية عائق أمام إصلاح تربوي حقيقي

إنّ البديل الذي ينادي به حزب العمال في برنامجه من أجل تعليم عمومي مجاني ولائق، تعليم تقدمي يكرس قيم المساواة والحرية والعدالة ويرتكز على تنمية قدرات التحليل والتقييم والاستنتاج وبناء المعرفة، تعليم يدحض كل الأفكار الدغمائية وأسلوب التلقين ويطلق العنان للتفكير الإبداعي بإدراج الأنشطة الثقافية في المناهج التعليمية لا فقط كأنشطة تكميلية… وإنّ الإصلاح الجذري للمنظومة التربوية الذي ما انفكت تنادي به نقابات التعليم وعديد المنظمات يجب أن يكون محصلة لحوار مجتمعي شامل تشارك فيه كل الأطراف من مربين ونقابيين وخبراء في البيداغوجيا وأخصائيين في علم نفس الطفل و الأهالي والمجتمع المدني… كما يجب أن يندرج ضمن استراتيجيا وطنية تنتصر للمدرسة العمومية، تنطلق من دراسات وإحصائيات علمية ودقيقة للواقع التربوي الراهن وتستهدف كل الأبعاد المتعلقة بالموضوع من بنية تحتية وبرامج ومناهج وصولا إلى الإيقاع المدرسي. وإنّ هذا التغيير الجذري لا يمكن أن يتمّ في ظل المنظومة الشعبوية الحالية التي تواصل في نفس الخيارات اللاشعبية المنتهجة من قبل المنظومات السابقة والتي تعمّق الإشكالات المتراكمة من سنة إلى أخرى بما يزيد من ضرب التعليم العمومي لفائدة التعليم الخاص. كما أنّ منظومة قيس سعيد هي نموذج للتفرد بالقرار ورفض الحوار. وهي لا تطمس فقط أيّ نهج تشاركي أيّا كان الموضوع المطروح على الطاولة بل إنها ماضية قدما في ضرب كل التنظيمات السياسية والنقابية والحقوقية التي من شأنها أن تمثل تعبيرات عن طبقات أو فئات صلب المجتمع. إن التغيير الجذري، سواء كان في مجال التربية والتعليم، كما في غيره من المجالات ليس ممكنا سوى على أنقاض هذه المنظومة التي تثبت يوما بعد يوم أنها لا تعبّر عن تطلعات التونسيات والتونسيين بل تمثل تهديدا حقيقيا لمصالحهم الاقتصادية والاجتماعية.

إلى الأعلى
×