بقلم محمد بلخيرية
تونس، مع اقتراب العودة المدرسية، ينهار حلم الأهل والأطفال على حد سواء. ليست العودة مناسبة للاحتفال بالعلم والمعرفة، بل سباق محموم مع أسعار مشطة لمستلزمات الدراسة: محافظ وأزياء رياضية وكراسات فاخرة تُثقل كاهل العائلات. كل دينار يُصرف على هذه المستلزمات هو صرخة صامتة ضد سياسة شعبوية فاشلة، تكشف عجز الدولة عن حماية حق أبنائنا في التعليم، وعن تأمين أبسط مقومات مجانية التعليم.
إنها لحظة وجع يومي، ليس فقط للأهالي الذين يكدّون لتأمين لقمة العيش، بل للأطفال الذين يُجبرون على مواجهة واقع مدرسي مهترئ، صفوف مكتظة، وأقسام بلا ماء ولا مجموعات صحية، وساحات تتحول في الشتاء إلى مستنقعات. كل يوم يمر على هذا الإهمال هو جريمة بحق أجيال المستقبل، وصرخة في وجه كل مواطن صامت، يختار التواطؤ بالصمت أو الاستمرار في دعم السلطة الشعبوية التي تركت المدرسة العمومية تنهار أمام أعين الجميع.
لقد حان الوقت ليقول الشعب كلمته: إما حماية مستقبل أبنائنا ووطننا، أو الاستسلام لفشل منظومة تدمر التعليم وتقتل الفرص قبل أن تُولد
كلفة العودة المدرسية أرقام صادمة
حسب ما أكده رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك، لطفي الرياحي، فإن أسعار المستلزمات شهدت زيادة جديدة فاقت 12% مقارنة بالسنوات الماضية، باستثناء الكتاب والكراس المدعم. سعر المحفظة، على سبيل المثال، قفز من 90 دينارًا سنة 2019 إلى حدود 350 دينارًا اليوم، فيما بلغ سعر الكراس الفاخر أكثر من 25 دينارًا. وبعملية حسابية بسيطة، يمكن أن تصل كلفة تلميذ المرحلة الابتدائية هذا العام إلى 900 دينار، بينما تتجاوز كلفة تلميذ الثانوي 1000دينار، في بلد لا يتجاوز فيه الحد الأدنى للأجور 500 دينار.
وعود الدولة.. واقع مغاير
تتحدث السلطات عن دعم الكتاب والكراس، لكنها تغض الطرف عن الانفلات في أسعار بقية المستلزمات. فالزي الرياضي يصل إلى 150 دينارًا، والمحفظة قد تبلغ 350 دينارًا، أما الدروس الخصوصية فاقت 120 دينارًا للمادة الواحدة. هذه المعطيات تجعل العودة المدرسية “كابوسًا سنويًا” للأولياء، وتطرح سؤالًا جوهريًا: أي مجانية تعليم بقيت؟
البنية التحتية.. خراب يقتل الحق في التعليم
ما لا يُذكر في بيانات الحكومة هو الواقع الميداني المرعب للمؤسسات التربوية: مدارس بلا ماء صالح للشرب، أقسام آيلة للسقوط، ساحات غير معبدة تتحول في الشتاء إلى مستنقعات، ومؤسسات بلا قاعات مراجعة أو مخابر علمية. آلاف التلاميذ في الأرياف يسلكون مسالك ترابية غير معبدة، يقطعون الكيلومترات مشيًا على الأقدام أو على عربات مهترئة للوصول إلى مدارسهم، بينما النقل المدرسي شبه غائب، ما يحرم أطفالًا من حقهم الطبيعي في الدراسة ويجعل الوصول إلى المدرسة مغامرة يومية.
إلى جانب ذلك، يعاني القطاع من نقص فادح في الإطار التربوي، واضطرار المربين إلى تدريس أقسام مكتظة تتجاوز أحيانًا 45 تلميذًا في الفصل. أما المواد البيداغوجية، فغيابها صار قاعدة: لا قراطيس كافية، لا تجهيزات، ولا حد أدنى من الوسائل التكنولوجية. إنها صورة مدرسة عمومية تُترك لتتآكل ببطء، بينما تُفتح الأبواب أمام التعليم الخاص لمن يملك المال، تاركة الفقراء خلف جدار الفشل والحرمان.
رغم وابل الإعلانات الحكومية وخطط “الإصلاح” المتكررة منذ فيفري 2025، لا تزال المدرسة العمومية تنهار أمام أعين المسؤولين الذين يكتفون بالكلام، فيما شباب البلاد يدفع الثمن. آلاف المدارس الابتدائية تفتقر إلى أبسط مقومات التعليم: 1354 مدرسة بلا ماء صالح للشرب، و839 بلا مجموعات صحية للمعلمين، وبيت تمريض لا يتوفر إلا في 5% من المدارس، و996 مدرسة بلا سياج يضمن سلامة التلاميذ. هذا الواقع المأساوي لم يقتصر على المعاناة اليومية، بل تسبب في حوادث أليمة أودت بحياة تلاميذ، في حين تتجاهل السلطة مسؤوليتها المباشرة عن حماية حياة أبنائنا.
نقص التمويل هو الجذر الأساسي لهذه الكارثة، حيث لا تتجاوز حصة وزارة التربية من ميزانية الدولة 13.5% في 2024، أقل من المعايير العالمية التي تحددها اليونسكو بين 15 و20%. أما الزيادة المعلنة في ميزانية 2025 (1.6%) فهي وهمية، إذ إن التضخم البالغ 4% يجعل الموارد الفعلية أقل من العام السابق، فيما يذهب الجزء الأكبر من الميزانية إلى الأجور والتأجير، تاركًا مشاريع التأهيل والاستثمار في خبر كان.
ولا تتوقف مأساة المدرسة العمومية عند نقص الأموال، بل تمتد إلى التعطيلات الإدارية والإجراءات البيروقراطية التي تعرقل أي محاولة لإصلاح أو تطوير. فالمدارس الابتدائية محرومة من استقلالية مالية تمكنها من البحث عن موارد إضافية، على عكس المدارس الإعدادية والثانوية، في مخالفة صريحة للدستور والمواثيق الدولية التي تضمن حق الطفل في التعليم والمياه النظيفة والطعام الصحي وبيئة آمنة.
الواقع اليوم يكشف لعبة السلطة على مستقبل شباب تونس: وعود بالخطط الوطنية والتأهيل الميداني، بينما المدارس تنهار وحياة التلاميذ في خطر. هذا العبث الرسمي يفضح عدم المبالاة بالتعليم ويجعل من المدرسة العمومية حقلًا مفتوحًا للفشل، تاركًا الآلاف من الأطفال في مواجهة معاناة يومية لا تُحتمل، ومستقبل مجهول في بلد يعجز حكامه عن توفير أبسط مقومات الحياة الكريمة للتلاميذ
السوق الموازية.. ملاذ اضطراري
أمام هذا “التسونامي السعري”، يلجأ الكثير من الأولياء إلى السوق الموازية بحثًا عن أسعار أقل، رغم المخاطر المتعلقة بجودة وسلامة الأدوات. وهو مشهد يعكس هشاشة المنظومة الرسمية التي عجزت عن توفير بدائل تراعي القدرة الشرائية للمواطن.
أصوات غاضبة.. وصحوة واجبة
لطفي الرياحي وغيره من المراقبين دعوا إلى توحيد قائمات الأدوات المدرسية للحد من الإنفاق غير المبرر، لكن الواقع يكشف غياب إرادة سياسية حقيقية في معالجة الملف. حتى المربين أنفسهم عبّروا عن استيائهم، مؤكدين أن العودة المدرسية صارت عبئًا نفسيًا وماديًا لا على التلاميذ فقط، بل على الأساتذة الذين هم أيضًا أولياء مثقلون بالتكاليف.
ارتفاع كلفة العودة المدرسية بنسبة تتجاوز 12% هذا العام ليس مجرد مسألة ظرفية، بل هو مرآة لسياسة شعبوية فاشلة تتخفى وراء الشعارات وتترك المواطن وحيدًا أمام صعوبات المعيشة. إن شعار “مجانية التعليم” الذي ظل يُرفع منذ الاستقلال، لم يعد اليوم سوى غطاء هشّ يخفي استقالة الدولة من مسؤولياتها الاجتماعية.
في النهاية
المدرسة العمومية في 2025 ليست مجرد ضحية الغلاء، بل أصبحت ضحية إهمال ممنهج: بنية تحتية مهترئة، غياب النقل المدرسي، نقص فادح في الإطارات والمواد، وأقسام تتآكل أمام أعيننا. هذه ليست أزمة ظرفية، إنها جريمة منظمة بحق الأجيال القادمة.
والمصيبة الكبرى أن صمتنا كمواطنين يجعلنا شركاء في هذه الجريمة. كل يوم يمرّ دون أن نطالب بالحق، كل مرة نغمض أعيننا عن الانهيار ونواصل دعم السلطة الشعبوية الحاكمة، نحن نختار الاستهتار بمصير أبنائنا وبمستقبل وطننا.
آن الأوان لمراجعة خياراتنا: إما أن نقف اليوم للدفاع عن المدرسة العمومية، ونفرض التغيير بإرادتنا الجماعية، أو أن نستسلم للصمت، ونكتب بأيدينا فصلًا جديدًا من تدمير التعليم، مستقبل الوطن، ومستقبل أطفالنا. المعركة لم تعد على “ثمن الكراس” فقط، بل على روح تونس ومستقبلها كله.
صوت الشعب صوت الحقيقة
