الرئيسية / صوت الوطن / هل انفرط عقد الدبلوماسية التونسية؟ عزلة قيس سعيد إقليميا ودوليا تهدد بعواقب وخيمة
هل انفرط عقد الدبلوماسية التونسية؟ عزلة قيس سعيد إقليميا ودوليا تهدد بعواقب وخيمة

هل انفرط عقد الدبلوماسية التونسية؟ عزلة قيس سعيد إقليميا ودوليا تهدد بعواقب وخيمة

بقلم سمير جراي

تتزايد ظاهرة الشعبوية التي ميّزت مسار قيس سعيد وكل المنخرطين فيه، مع حساسية الأوضاع السياسية والاقتصادية داخليا وخارجيا، وخاصة تعليقات وتصريحات من يعتبرون أنفسهم مسؤولين في الدولة من وزراء وأعضاء برلمان، وكان آخر شطحات هذه الشعبوية المتفاقمة تصريح “النائبة” بسمة الهمامي التي قالت: “إيمانا منا بكل ما جاء في دستور 25 جويلية 2022، نحن نوّاب الشعب في البرلمان التونسي سنتقدم بمقترح مشروع قانون لاستعادة الديمقراطية الأمريكية، سيكون المقترح أولى أولوياتنا في البرلمان.”

تصريح يأتي ردا على مشروع قانون أمريكي بعنوان “استعادة الديمقراطية في تونس” قدّمه النائبان في الكونغرس الأمريكي، الجمهوري جو ويلسون والديمقراطي جيسون كرو، وحتى إن اعتبرنا “تهديد” بسمة الهمامي صورة رمزية (symbolic response) إلا أنه يفضح حجم “النفاق السياسي” لمنظومة قيس سعيد والتلاعب بمشاعر التونسيين فيما يخص السيادة الوطنية، وتواصل “الانفلات الكلامي” و”الإسهال اللغوي” والخطابات الفجة المنمّقة بتعابير الذود عن السيادة الوطنية في مقابل ما تمارسه فعلا هذه المنظومة من إغراق البلاد في التبعية، وتدمير النسيج المجتمعي والفشل في تحقيق مطالب الشعب، فضلا عن ضرب الحريات والحقوق والسعي إلى إلغاء قوى المجتمع المدني.

وكما جاء في افتتاحية العدد السابق من “صوت الشعب”، لا شك في أننا وكل التونسيات والتونسيين نناهض ونرفض وندين كل أشكال التدخل الإمبريالي الأجنبي، ومن باب أولى وأحرى التدخل الإمبريالي الأمريكي في شؤون بلادنا، لكنّنا لا نكتفي بذلك فنحن ندين أيضا خضوع نظام الحكم للسيطرة الإمبرياليّة واتّباعه سياسة تُفْقِدُ بلادَنا سيادتها واستقلالها وتعرضها باستمرار للمخاطر الخارجيّة.

وقد تأكدت المخاوف من هذه المخاطر بعد أن تعرّض أسطول الصّمود العالمي لكسر الحصار عن غزة، والرّاسي في حوض ميناء سيدي بوسعيد إلى الاعتداء ترجّح كل روايات شهود العيان والفيديوهات أنه بسبب إطلاق طائرات مسيرة تابعة للعدو الصهيوني لأجسام حارقة أو قنابل صغيرة تسببت في اندلاع حرائق في أكبر سفينتين في الأسطول.

كل ما سبق يقودنا إلى الحديث عن الدبلوماسية التونسية وكيف أصبح نظام قيس سعيد يعاني شبه عزلة دولية بسبب سياساته الداخلية القائمة على الاستبداد والقمع الممنهج لكل من يخالفه الرأي، ومساعيه لإحكام القبضة البوليسية على كل مفاصل الدولة، واستهداف كل الأجسام الوسيطة من منظمات وجمعيات ونقابات لإنهاء وجودها وتفكيكها، من جهة، وسياسته الخارجية الاعتباطية التي ليس لها أي توجّه وطني واضح، ولا مشاريع استراتيجية مع دول صديقة تستفيد منها تونس في وضعها الراهن من جهة أخرى.

علاقة متذبذبة ومرتهنة لخيارات الاتحاد الأوروبي فيما يخص ملف الهجرة

عكس ما يدعيه قيس من تمسك بالسيادة الوطنية إلا أنه وفيما يخص الاتحاد الأوروبي بقي مرتهنا لخيارات رئيسة الوزراء الإيطالية اليمينية المتطرفة جورجيا ميلوني، والأوروبيون لا يرون في تونس إلا شريكا أساسيا للحد من تدفق المهاجرين عبر المتوسط. ووقّع سعيد معهم مذكرة تفاهم مريبة مازالات بنودها غير واضحة إلى حد اليوم، تضمّنت مساعدات في شكل تجهيزات لازمة لأعمال المراقبة وبعض الفتات مقابل تعاون تونس في مراقبة حدودهم الجنوبية وهو ما نجح فيه سعيّد بشكل كبير.

وقد عبّرت دول أوروبية في أكثر من مناسبة عن “القلق” من تركيز السلطات بيد قيس سعيّد، خصوصا ألمانيا وفرنسا، اللّتان أبدتا تحفظا على تراجع منسوب الحريات في تونس وسجن المعارضين، وتوتّرت العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، عكس ما كان يرجى من اتباع سياسيات وطنية قائمة على النّدّية والمحافظة على مصالح تونس بالدرجة الأولى.

ظلّت إسطوانة الخطاب السيادي الذي يرفض الإملاءات الخارجية مشروخة، ولم يقدّم سعيّد أي بدائل اقتصادية واقعية، ما زاد من حدة الأزمة المالية، وعمق فقدان الثقة الدولية.

التوجه غربا دون بوصلة واضحة ولا نتائج حقيقية

على هذا النحو بقيت علاقات قيس سعيد مع الغرب متوترة، حتى أنه لم يتلقّ أي رسالة تهنئة بانتخابه رئيسا في ولايته الثانية، ويحاول سعيّد التوجه غربا وبناء تحالفات جديدة مع المحور الصيني الروسي إضافة إلى إيران التي زار وزير خارجيتها تونس منذ أيام، لكن بقيت هذه العلاقات مبنية على فكرة التشاور والتنسيق المشترك والمجاملات الدبلوماسية، بل دعنا نقول استغلال كل هؤلاء لتونس ومكانتها متوسطيا وأفريقيا لتحقيق أجنداتهم وطموحاتهم دون تحقيق اتفاقيات استثمارية تذكر لدفع الاقتصاد التونسي أو وضع خطط استثمارية كبرى مع هذه الدول وخاصة الصين التي تنافس الولايات المتحدة بشدّة في أفريقيا.

وإن يبدو هذا التوجه في ظاهره يهدف إلى البحث عن خيارات جديدة مع تنويع الشركاء والتخلي الشريك الغربي التقليدي إلا أنه مازال متعثرا ولم يحقق أي تقدّم، كما غابت تونس عن قمة “منظمة شنغهاي للتعاون” التي عقدت منذ أيام، وهي إحدى أبرز القمم الدولية التي يفترض أن تستفيد منها تونس مع الحلفاء الجدد المفترضين.

غياب الجدية والرؤية الضيّقة كلّف فراغا دبلوماسيا باهظ التكلفة

وهنا تُطرح عدة نقاط استفهام حول مدى جدية دبلوماسية قيس سعيد في البحث عن حلول وبناء شراكات قوية، فالتخلي الفعلي عن الشركاء الغربيين له شروط صعبة، وقناعات راسخة وتحديات كثيرة يجب معالجتها وأهمها النجاح في بناء تحالفات قوية ووطنية في فضاءات بديلة، إلا أن قيس سعيد يجد نفسه الآن في منطقة فراغ دبلوماسي باهظ التكلفة، وهو ما يفسّر عجزه عن تقديم رؤية وطنية شاملة وتوجهات استراتيجية، لرسم سياسة خارجية فاعلة ونديّة، وفاقد الشيء لا يعطيه، فمثل هذه التغيّرات الجذرية في التوجهات العامة لأي دولة لا تبنى إلا بالتوازي مع استقرار سياسي داخلي، ووجود حدّ أدنى من الممارسة الديمقراطية والتعددية السياسية والتماسك الوطني.

على الصعيد الإقليمي أيضا يواجه سعيد عزلة واضحة ولم يبق له إلا الجزائر والرئيس تبون ومصر السيسي بدرجة أقل لدعمه سياسيا واقتصاديا، ولكن هل يحسن المستند إلى جدار مائل وقفة شامخة؟ أو فلنستنجد هنا بالمثل المشهور، ظل قيس سعيد كالمستجير من الرمضاء بالنار، فهذا الرضوخ الأعمى للجزائر كلف بلادنا قطيعة شبه كاملة مع المملكة المغربية، وحتى القمة الثلاثية التي يزعم سعيّد أنها استراتيجية مع الجزائر وليبيا ولدت ميتة، ولم تحقق أي شي ولا نظنّ أنها قادرة على تحقيق إنجازات تذكر، مع إقصاء المغرب وموريطانيا، فعوضا عن تفعيل اتحاد المغرب العربي واستغلال الدبلوماسية التونسية لأدواتها لتقريب وجهات النظر لحلحلة مشاكله، يورّط سعيد الدبلوماسية التونسية في خدمة أجندات جزائرية على حساب المملكة وهو ما لم تفعله تونس على امتداد التاريخ.

أما دول الخليج التي عوّل سعيّد عليها كثيرا لدعمه ماليا في ظل تراجع التمويل الغربي، فقد بدت متريثة جدا وبراقماتية في تعاملها مع تونس، واحتجّت بغياب الانفتاح الاقتصادي والرؤية الواضحة، مع استمرار ضبابية الوضع السياسي في البلاد.

وبرغم الخطاب الرسمي المتكرر عن أهمية الانفتاح نحو دول أفريقيا، لم يقدّم سعيّد أي مقترحات عملية مدروسة، ولا مشاريع جدية بمضامين فعلية، ما جعل هذا الخطاب مجرّد كلام بلا معانٍ حقيقية.

عبث دبلوماسي خسرت به تونس مكانتها وتأثيرها المغاربي والعربي

كل هذا العبث الدبلوماسي أدى إلى تراجع تأثير تونس في التوازنات الإقليمية وحتى مع دول الجوار على أقل تقدير، مع فقدان وزنها المغاربي والعربي، فضلا عن خسارة حضورها ولو رمزيا في القضايا الإقليمية والدولية.

لقد جعلت دبلوماسية سعيّد تونس رهينة لتوازنات دولتين أو ثلاثة، ولنقل بأكثر وضوح، رهينة سياسة جزائرية على الصعيد المغاربي ومصر والإمارات إقليميا وبريق عيون ميلوني ونظراتها وأهدافها أوروبيا. وبهذا انحدرت تونس من دولة يحسب لها ألف حساب على الأقل في التوازنات المغاربية والأفريقية إلى دولة فقدت كل قدراتها على أي مناورات خارجية تحقق بها الحد الأدنى من صورتها وحاجياتها الاقتصادية والتنموية.

إلى الأعلى
×