الرئيسية / صوت العالم / غزة: المجاعة سلاحًا وذريعة
غزة: المجاعة سلاحًا وذريعة

غزة: المجاعة سلاحًا وذريعة

صدر في العدد 186 لصحيفة “أكتوبر”، اللسان المركزي للحزب الشيوعي الاسباني الماركسي اللينيني، سبتمبر 2025

رسميًا: إسرائيل تسببت في مجاعة في غزة، وهي الأولى من نوعها في المنطقة. الآن، لم يعد الأمر مجرد “نصف عام” من الأدلة التي تُبث وتُضاعفها كل وسيلة إعلامية ممكنة؛ لم يعد بإمكان البيروقراطيين والخدم غض الطرف، لأن الأمر أصبح رسميًا.

أصبح رسميًا أن “أكثر من نصف مليون شخص” يواجهون الجوع والعوز والموت.

ورسميًا أن إسرائيل تمنع وصول الإمدادات الغذائية إلى القطاع.

ورسميًا أن إسرائيل تستخدم الجوع سلاحًا في الحرب.

ورسميًا أن الحكومات “الغربية” تسمح بالمجاعة في غزة وتدعمها.

أصبح واقع الإبادة الجماعية المنتشر الآن رسميًا لدرجة أن حتى إنسان الغاب في البيت الأبيض اضطر للاعتراف بذلك، بأسلوبه المعتاد الذي يجمع بين السخرية والغباء: “يبدو هؤلاء الأطفال جائعين جدًا”.

من الواضح أيضًا أن الحكومة الصهيونية، برئاسة مجرم الحرب نتنياهو، تكذب كذبًا ممنهجًا، كما دأبت على ذلك منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كلما أنكرت وحشيتها وادّعت أنها ضحية “حماس”. ومن الواضح أيضًا أنه منذ إطلاق “المساعدات الإنسانية” الأمريكية-الإسرائيلية من صندوق الإغاثة الإنسانية العالمي في مايو/أيار (وهو “إنجاز مذهل”، وفقًا للسفير الأمريكي، ولكنه غير كافٍ لدرجة أنه كان سيتسبب في مجاعة حتى لو حقق هدفه المنشود)، قُتل أكثر من ألفي فلسطيني أعزل، بينهم أطفال، على يد جيش الدفاع الإسرائيلي والمرتزقة الأمريكيين أثناء بحثهم عن الطعام، وهي ممارسة أكدتها منظمة أطباء بلا حدود. ويُضاف هذا الرقم المرعب إلى العدد الذي لا يقل رعبًا، وهو ثلاثمائة حالة وفاة بسبب الجوع.

بالطبع، ليس الإسرائيليون وحدهم من يحاولون إخفاء مسؤوليتهم. فقد استأنفت حكومات مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة ومصر، و”أكثر حكومات العالم تقدمية في تاريخ إسبانيا”، وغيرها، عمليات الإنزال الجوي للغذاء باهظة التكلفة وغير فعالة وغير كافية وقاتلة، والتي تسببت بالفعل في وفاة ما لا يقل عن سبعة عشر شخصًا. ويبدو أنهم يريدوننا أن نصدق أن هذا هو الحل الوحيد في مواجهة الحصار الشامل الذي يفرضه صديقهم الإسرائيلي (والذي سبقه، دعونا لا ننسى، حصار غزة منذ عام ٢٠٠٧)، كما لو كان مجرد كارثة أخرى من كوارث التوراة التي يعشقها الصهاينة. وبالطبع، لم يبقَ أدنى أثر للتهديدات الصاخبة والصارخة التي صدرت في مايو (انظر أكتوبر، العدد ١٨٥، يونيو ٢٠٢٥).

لعلّ من أكثر جوانب الخطة الإسرائيلية إثارةً للصدمة هو التخطيط المُتعمّد والحسابات الدقيقة التي اعتمدتها في استخدام المجاعة، مما يجعل أهداف الإبادة الجماعية جليةً بشكل متزايد (إلا لمناصري الليبرالية الأطلسية المجتهدين): ليس فقط من خلال التحكم في استهلاك سكان غزة من السعرات الحرارية منذ عام ٢٠٠٧، بل أيضاً من خلال الآثار البيولوجية متوسطة وطويلة الأجل التي سيُخلّفها الجوع على صحة الناجين وذريتهم، وعواقبه المؤلمة، وتأثيره المُدمّر على الروابط المجتمعية، المُشابه لما أحدثه قمع فرانكو و”سنوات الجوع” في إسبانيا في أربعينيات القرن الماضي. وهكذا، تتخذ محاولة التدمير المتعمد والممنهج للشعب الفلسطيني (أي الإبادة الجماعية) أبعاداً جديدة، كل منها أشدّ شراً من سابقتها.

علاوة على ذلك، وفيما يتعلق بالقانون الدولي، يُعدّ استخدام الجوع سلاحًا في الحرب علامة فارقة أخرى، وإن كانت وحشية للغاية، في العملية الطويلة لتدمير “النظام” الدولي على يد الدولة الصهيونية حتى قبل إنشائها، والتي جرت في خضمّ تطهير عرقي خالف النوايا الحسنة التي أعلنها الحلفاء بعد هزيمة النازية الألمانية. في الواقع، إذا كان العدوان الوحشي المستمر على غزة والضفة الغربية قد حطّم نهائيًا البنية الزائفة للعلاقات الدولية، فليس أقلّ صدقًا أن هذا الانفجار قد أُعلن عنه بإصرار من خلال انتهاك إسرائيل لعشرات قرارات الأمم المتحدة. لذلك، قد يكون انهيار “نظام” عام ١٩٤٥ مفاجئًا للكثيرين، ولكنه لن يُفاجئ أحدًا تقريبًا.

التقرير الذي رعته الأمم المتحدة، والذي أعلن رسميًا أخيرًا عن مجاعة لطالما شكّلت تهديدًا ملموسًا لسكان غزة، يُحذّر من أن 132 ألف طفل دون سن الخامسة قد يموتون بين الآن ويونيو المقبل. لذا، فإنّ الحاجة المُلِحّة لتحرير القطاع تزداد إلحاحًا. ومع ذلك، فإنّ الحكومات البرجوازية “الغربية”، المُنشغلة بحساباتها السياسية الدنيئة، تُصرّ على دورها كأتباع مُدبّرين، وتُوزّع اهتمامها بين ضرب النشطاء، وحظر المنظمات (مع تصميم حزب العمال البريطاني على مُحاكاة اليمين الفرنسي)، وفي “أفضل” الحالات، استخدام الجوع ذريعة. وهكذا، فإنّ دونالد ترامب، الحريص على أن يُعترف به كرجل دولة عظيم، يُوزّع مصالحه بين غزة وأوكرانيا، مُحاولًا استغلال كل مجزرة جديدة لتصويره كصانع سلام ومستحقّ لجائزة نوبل التي يطمح إليها، وفي الوقت نفسه، يُتيح له تبرير سيطرته الكاملة على القطاع لتحويله إلى ريفييرا أحلامه لمرتكبي الإبادة الجماعية.

في هذه الأثناء، في هولندا، يكتشف خمسة وزراء وأربعة أمناء دولة من مجلس الأمن القومي اليميني أهمية المعاهدات الدولية، قبل شهرين من الانتخابات، للتخلي عن حكومة متعفنة تقاسموها حتى يونيو/حزيران مع حزب الحرية الفاشي. من جانبها، اعترفت عشر دول، من بينها إسبانيا، بالدولة الفلسطينية: “مجرد مسرحية هزلية”، كما نددت بها أصوات مختلفة، وتهدف فقط إلى إظهار هذه الحكومات لناخبيها كمدافعة عن حقوق الإنسان. في الواقع، أثبت “حل” الدولتين فشله منذ بدايته، باستثناء ما ثبت على مدى هذه العقود الثلاثة أنه الهدف الحقيقي لاتفاقيات أوسلو (1993): حفظ ماء الوجه إسرائيل، فرّق المقاومة الفلسطينية، وأكمل النكبة. بالطبع، ترفض الحكومات الأوروبية، بما فيها إدارة سانشيز ودياز “التقدمية”، ممارسة أي ضغط حقيقي على الدولة النازية الصهيونية؛ والأخطر من ذلك، أنها تُغذّي صناعة الأسلحة لديها بلا هوادة، مموّلةً ومُكثّفةً الإبادة الجماعية، مع استمرارها في تعزيز حضورها في كل مؤسسة وحدث دولي، مُطبّقةً دورها كمحاور. لا يُمكن توقع أي شيء آخر من حلفاء الإمبريالية.

لا شك، كما أشار العديد من الخبراء، أن هناك تدابير عديدة ومتنوعة يمكن، بل ينبغي، على الدول والمؤسسات والمواطنين عمومًا اتخاذها فورًا للضغط على إسرائيل، ووقف الإبادة الجماعية، وإنهاء نظام الفصل العنصري الذي فرضه الصهاينة في فلسطين: من عقوبات حكومية فورية إلى مقاطعات واحتجاجات شعبية. ومع ذلك، لن يكون أيٌّ منها متماسكًا، ولن تكون آثاره النهائية دائمة وعميقة، ما لم تسترشد بقوة دافعة واحدة: مكافحة الإمبريالية والاستعمار بجميع أشكالهما. وقد تجلى ذلك في شعار “لن يتكرر أبدًا” الذي أُعلن قبل ستين عامًا باسم الشعب نفسه الذي تدّعي دولة إسرائيل الإرهابية والإبادة الجماعية تمثيله اليوم: إما أن نواجه الوحش بحزم ووحدة، أو أن يفقس بيض الثعبان، مرارًا وتكرارًا، على شكل دمار ومعاناة وموت.

إلى الأعلى
×