الواضح والأكيد أنّه لا أدلّ على حجم التدهور الذي يصيب مجمل شروط حياة التونسيين ويثير ضجرهم من افتتاح العام الدراسي الحالي بوقفات احتجاجية لم تبقَ حكرا على نقابات المدرّسين بل عبّأت نقابات كلّ الأسلاك التربوية دون استثناء. لقد انتظمت تجمّعات الاحتجاج يوم 13 سبتمبر بمناسبة استىناف العمل من قبل المربّين، وتزامن ذلك مع تواصل الاعتصامات في مقرّ مندوبيات التربية بالقيروان وسيدي بوزيد ومنّوبة وبنعروس وسليانة وسوسة، فيما انتظمت في بقية المندوبيات وقفات يوم غضب، لتنظّم ذات الأسلاك إضرابا بساعتين في اليوم الثالث للعودة أي يوم الأربعاء 17 سبتمبر. في الوقت نفسه تتواصل تحركات الاحتجاج في عديد المؤسسات التربوية في أكثر من جهة في انتظار الإضراب العام للتّعليم الأساسي يوم 7 أكتوبر القادم.
إنّ هذه الاحتجاجات المتعددة والمتكاثرة تمثّل أبلغ ردّ أوّلا على وزير التربية الذي صرّح أن العودة المدرسية لهذا العام “ناجحة”، وثانيا على قيس سعيّد الذي يصرّ على أنّ أوضاع الشعب “تتحسن” رغم “تآمر المتآمرين”. من الناحية الواقعية تجزم عديد الأوساط التربوية أنّ حجم التدهور الذي يطال المرفق التربوي اليوم غير مسبوق بكل المقاييس في وقت أوقفت فيه السّلطات كل أشكال التواصل مع النقابات ممّا زاد الوضع احتقانا خاصّة مع مرور وزارة التربية إلى السرعة القصوى في تصفية كلّ ما حقّقه المربّون طيلة عقود مثل المشاركة في تنظيم حركة النقل الوطنية والجهوية والإنسانية والمشاركة في عضوية لجان المنح الجامعية ومناقشة الأهرام ومعالجة حالات الزيادة على النصاب انتهاء بتكليف المديرين والنظّار حسب الاتفاقيات الممضاة.
لقد داست سلطة سعيّد على كل ذلك وأغلقت الأبواب أمام المربّين في الوقت الذي تعرف فيه أوضاع المؤسسة التربوية انحدارا رهيبا على مختلف الأصعدة. لقد انتهى العام الدّراسي المنقضي على وقع حادثة المزّونة بانهيار جدار قضى على ثلاثة تلاميذ يافعين ولازال المعهد إلى اليوم دون جدار، ليفتتح العام الحالي على صور بشعة. فقي المدرسة الابتدائية أولاد عاشور ببوحجلة (ولاية القيروان) سقطت قطع من سقف إحدى القاعات مرتين خلال نصف الأسبوع الأوّل من هذا العام الدّراسي، ومن حسن الحظّ أن قاعة الدرس كانت في المرتين خالية من التلاميذ. وفي إعداديّة الفارابي ببازمة (قبلّي) اتّضح أنّ أغلب القاعات غير جاهزة لاستقبال التّلاميذ بعد انتهاء الأشغال ممّا فرض على التّلاميذ البقاء في مكان خال خارج مناطق العمران ومتاخم للسّجن. وفي معهد من معاهد مدنين اضطرّ المدير إلى لملمة الشقوق الغائرة في جدران أحد الاروقة بألواح بسيطة. وفي أحد معاهد مساكن (ولاية سوسة) تم إخراج 23 قاعة عن الخدمة لمشارفتها على الانهيار وتعويضها ببضع قاعات فقط من القاعات الاصطناعية وهو ما واجهه الأساتذة بالإضراب منذ اليوم الاول. وفي مكثر (ولاية سليانة) انهار جدار المدخل في صورة أقرب إلى مدارس غزة التي تنهار تحت وقع القنابل. أمّا الصورة الأكثر فظاعة فقد سُجّلت في معهد غار الدماء (ولاية جندوبة) أين قامت مواطنة وهي وليّة أحد التلاميذ، بحرق نفسها في ساحة المعهد لتفارق الحياة بعد يومين قهرا لأن مسؤولي مندوبية التربية لم ينصتوا إليها، ولا إلى طلبها في نقل ابنها إلى قسم آخر مثل بعض أقرانه.
هذه العينات المحدودة جدا من الوضع التربوي، في مطلع هذا العام الدراسي، التي يضاف إليها الارتفاع المشطّ لأسعار الموادّ المدرسيّة (ما بين 10% و12% هذه السنة) ونقص المدرّسين، تؤكّد حقيقة حجم العجز والفشل الذي يسم أداء منظومة الحكم التي لم يبق في جعبتها سوى تسويق خطاب التضليل والمغالطة للهروب من الإجابة على الأسئلة الحارقة التي تهمّ الناس في معيشهم اليومي وفي حاجياتهم الأساسية. إنّ ردّ فعل أسلاك التربية هو الردّ الذي يجب أن يكون درءا للأوهام والاستكانة والانتظارية التي يروّج لها البعض. وما من شكّ في أنّ هذا الأمر لا يهمّ أهل القطاع فحسب وإنّما يهمّ كل التونسيات والتونسيّين.
إن الطريق الأقصر للدفاع عن المدرسة العموميّة التي تتعرض للتصفية الممنهجة وعن التعليم كاستحقاق شعبي هو طريق النضال الواعي والمنظّم والواسع دفاعا عن الحقوق المشروعة ورفضا لاستهداف النقابات لأجل وئدها في إطار منظومة شعبوية معادية لـ”الأجسام الوسيطة” تعمل على حرمان الطبقات والفئات الشعبيّة من وسائل الدفاع عن نفسها. إنّ نقابات التربية والتعليم ذات الإرث النضالي العريق قادرة على قلب الكفة على الاستبداد وهي مؤهلة لا للدفاع عن مطالبها القطاعية فحسب، بل وكذلك للدفاع عن مجمل مطالب الشعب الخاصّة بالتعليم وعن الحق النقابي.
إنّ القطاع التربوي يضطلع اليوم بشرف الدفاع عن حقوق أبناء الشعب في التمدرس الكريم واللائق وضدّ استبداد السلطة وتغوّل مافيا القطاع الخاص المستفيد الأساسي من تدمير المرفق التربوي مثله مثل مرفق الصحة والنقل والثقافة والبيئة…
إنها معارك الشعب التي يجب الانخراط فيها من قبل كل قوى التقدم دفاعا عن حقوق الشعب التي لن تتحقق مع الخيارات والسياسات المتّبعة من قبل منظومة الحكم اللاوطنية واللاشعبية بل بالنّضال ضدّها وعلى أنقاضها.
صوت الشعب صوت الحقيقة
