بقلم سمير جراي
السيف أصدق أنباء من الكتب *** في حدّه الحد بين الجدّ واللّعب
يسخر الشاعر أبو تمّام في هذا البيت من المنجمّين والمتنبّئين ويؤكد أن السيف هو السبيل الوحيد لتحقيق الغاية، وهو الوسيلة الأصدق لمعرفة النتائج والحقيقة الكاملة عكس تنبؤات المنجّمين ورُؤاهم، يقول أبو تمام إن السيف هو الأصدق وإن في حدّه حدٌّ بين الجدّ واللعب، ولو أسقطنا هذا المعنى عن واقعنا اليوم في تونس، سنجد أن السيف المسلّط على الصحافيين والمدوّنين والنشطاء وكل المعارضين هو المرسوم عدد 54 سيء الذكر، ولنا أن نقول إن المرسوم أكثر إيذاءً من أيّ قانون آخر وهو الأشد تنكيلا والأمضى تشفيا، في فصله (24) الحدّ بين الحرية والقمع، وقد أُشهر هذا السيف منذ ثلاث سنوات يبطش يمينا ويسارا، فلا ينجو من حدّه صحافيّ ولا معارض ولا حتى مواطن جالس في مقهى يدوّن في هاتفه كلمات عن الشأن العام.
ولئن سخر أبو تمام من المنجّمين فقد سخر قيس سعيد من كل الصحافيين والنشطاء وكل من يتجرّأ على الكتابة نقدا أو معارضةً وجعل “سيف” الـ 54 حَكما ووسيلة لتحقيق الغاية المرجوّة وهي إسكات كل الأقلام الحرّة، وإرضاخ كل من تسوّل له نفسه الحديث عن الشأن العام وإبداء الرأي المعارض أو حتى مجّد النقد لتوجهات المسار. ففي نظر الرئيس كل من عارضه الرأي والفكرة هو من المنجّمين المتآمرين المحبِطين لعزائم الأحرار في “حرب التحرير” ولا مناص من إشهار المرسوم في وجوههم فهو أصدق من نواياهم الخبيثة وأفكارهم الهدّامة التي يسعون من خلالها لإظهار الحقائق وتنوير الرأي العام، أو حتى في ممارسة حقهم في التعبير وحق الصحافيين في العمل بحرية والتحليل الحرّ ونقل المعلومة التي هي حقٌّ للمواطن.
إدانات واسعة لمواصلة العمل بالـ54 ومطالب بإنصاف الضحايا
تمرّ إذا الذكرى الثالثة لإصدار هذا المرسوم وقد سقط من ضحاياه المئات في ظرف ثلاث سنوات، وأكدت النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين بمناسبة ذكرى إصدار هذا القانون أنه شكّل مصدر قلق بالغ لدى الهياكل المهنية والمنظمات الحقوقية والصحفية الوطنية والدولية، لما يحتويه من صياغات فضفاضة وغامضة، تمنح السلطات صلاحيات واسعة في الملاحقة القضائية لمجرّد التعبير عن آراء مخالفة أو نشر معطيات تتعلّق بالشأن العام. معتبرة أنه صدر في سياق سياسي واجتماعي يتّسم بتصاعد الانتهاكات الممنهجة لحرية التعبير ومحاولات إخضاع الصحافة وترهيب الصحفيين والناشطين، واستخدم خلال السنوات الثلاث بشكل ممنهج لاستهداف الصحفيين والمدونين والسياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان.
منذ صدوره حوكم بموجبه وبالتحديد استنادا إلى الفصل 24 منه المئات بتهم تتعلق بنشر “أخبار زائفة” أو “الإساءة إلى الغير”، وهو ما خلّف مناخا من الخوف والرقابة الذاتية لدى الصحافيين والمؤسسات الإعلامية.
وأدانت عدة جمعيات حقوقية مواصلة العمل بهذا المرسوم وتوظيفه كسلاح ضدّ المعارضين والمدافعين عن الحقوق والحريات، مطالبة بإسقاط التهم عن جميع الملاحقين، وإنصاف الضحايا وعائلاتهم، وضرورة المراجعة الشاملة للترسانة القانونية بما ينسجم مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
تعمل النقابة الوطنية للصحافيين على دفع مجلس النواب إلى تنقيح هذا المرسوم بإلغاء الفصول 19 و24 و25 وإدخال تعديلات على فصول أخرى أهمّها 6 و9 و10 و28 والتي أثارت جدلا واسعا والمتعلقة بحفظ البيانات الشخصية التي تمكّن السلط من تحديد هوية مستعملي خدمة الأنترنيت أو الاتصالات وتحديد موقعهم الجغرافي والتي نصّ الفصل 6 على أنه لا يجب أن تقلّ مدة تخزينها عن سنتين.
في المقابل لم يقع اقتراح تنقيح الفصلين 6 و28 رغم مخالفتهما لمعاهدة بودابست وتونس إحدى الدول الموقعة عليها.
نقابة الصحافيين تدفع نحو تنقيح المرسوم في أقرب وقت
خاضت نقابة الصحافيين ماراطون نقاشات مع عدد كبير من النواب يفوق السبعين نائبا من أجل تقديم مقترح لتنقيح المرسوم، وقد نجحت فعلا في إقناعهم بضرورة التنقيح السريع للحد من “المجازر” المرتكبة في حق الصحافيين والمواطنين على حدّ السواء، وقدم النواب مقترحا للتنقيح إلا أنه ظل حبيس مكتب رئيس البرلمان لأكثر من عام قبل أن يحال مؤخرا إلى لجنة التشريع العام لتبدأ نقاش مقترح التنقيح، ولئن استبشر عدد كبير من الصحافيين والنشطاء بهذا التقدّم إلا أن الشكوك تبقى قائمة في مدى نجاعة فكرة تنقيحه من الأساس مقابل العمل على سحبه نهائيا.
بحسب رؤية النقابة فإن الحل الأقرب عمليا في الظروف الراهنة هو العمل مع النواب على فكرة التنقيح وبالأساس إلغاء الفصول 19 و24 و25 وتنقيح البقية بحيث تلغى كل العقوبات السالبة للحرية وإفراغ القانون من زجريته المفرطة وصياغاته الفضفاضة التي تُؤوّل ضدّ كل من يراد سجنه، إلا أننا وإن كان الإجماع بين النواب متوفرا حاليا لتنقيح القانون، لا نثق كثيرا في لجنة التشريع العام وما ستقدمه للجلسة العامة بقدر عدم ثقتنا في مآل التصويت النهائي. وإن كان هذا التوجه من النقابة بالأساليب القانونية وبالتنسيق والتشاور مع عدد من النواب لإغماد السيف المسلّط على رقاب الجميع قد يكون ناجعا إلا أنه يبقى غير مكتمل، وكما يرى البعض أنّ فكرة التنقيح قد تكون مجرّد مناورة من السلطة بعد الفضائح التي ارتكبتها عبر هذا المرسوم وما رافقه من إحراج داخلي وخارجي جعل سمعة النظام في الحضيض في علاقة بانتهاك الحقوق والحريات.
لماذا لا يدفع الجميع نحو سحب المرسوم نهائيا؟
ربما تلجأ نقابة الصحافيين المعنيّة الأولى بهذا المرسوم إلى حملة في الأيام المقبلة من أجل سحب المرسوم نهائيا كوسيلة ضغط لتحقيق الحد الأدنى وهو التصويت على التنقيحات المطلوبة دون التلاعب بها، وهنا قد يكون للهيئة الجديدة للمحامين دور مهمّ في إسناد هذه الحملة، خاصة وأن العميد الجديد المنتخب للمحامين الأستاذ بوبكر بالثابت عبّر بوضوح عن رفضه للمرسوم 54، فلماذا لا تتوحّد الجهود والنضالات اليوم قبل الغد من أجل سحب المرسوم نهائيا؟ ففكرة الإصلاح والتنقيح من داخل المنظومة لا تبدو ذات مصداقية بالنسبة إلى برلمان كل أعضائه مرتهنون لرأس النظام أي رئيس الوظيفة العمومية رئيس الدولة، وحتى لو نجحت مؤقتا في إيقاف هذا النزيف الذي أحدثه المرسوم إلا أن التوجّه العام للسلطة سيبقى الضرب دون هوادة بسيف هو الأصدق بالنسبة لها من أي حوارات أو نقاشات تعتمد على الأفكار وتدافع عن الحريات وتستند للقوانين والمعاهدات والمواثيق الدولية.
صوت الشعب صوت الحقيقة
