بقلم منيار معلى
تعيش قطاعات التربية في الآونة الأخيرة على وقع أزمة حادّة وتصاعد وتيرة التّوتّر بينها وبين سلطة الإشراف بسبب انتهاج وزارة التّربية سياسة الهروب إلى الأمام وغلق باب التّفاوض والتّمادي في سياسة الانفراد بالقرارات في إقصاء ممنهج للشريك الاجتماعي. والجدير بالذّكر أنّ عنوان الأزمة لم يعد يقتصر على خلاف في طريقة التّعاطي مع المطالب المادية والمهنية للقطاعات بل تجاوز ذلك نحو مواجهة مفتوحة حول فرض الحقّ النّقابي والحقّ في المفاوضات ضدّ سلطة أحكمت إغلاق كلّ قنوات الحوار في تماه تامّ مع توجّهاتها السّياسية في القضاء على الأجسام الوسيطة وفي مقدّمتها الطّرف الاجتماعي. وهو ما يجعل نقابات التربية في صدام مع السّلطة على واجهتين، فهي تدافع عن استحقاقات منظوريها وعن المدرسة العمومية بكلّ أركانها وثوابتها من جهة وعن الحق النقابي وفتح باب المفاوضات الجادة من جهة أخرى.
أطوار الخلاف وعودة متعثّرة
شهدت مختلف قطاعات التربية المنضوية تحت الاتحاد العام التونسي للشغل وقفة احتجاجية مشتركة يوم الأربعاء 17 سبتمبر 2025، من الساعة العاشرة صباحا إلى الساعة منتصف النّهار توّجت بوقفات احتجاجية أمام مندوبيّات التّربية في مراكز الولايات وذلك تنفيذا لتوصيات الاجتماع المشترك لأسلاك التربية المنعقد يوم 5 سبتمبر تحت إشراف قسم الوظيفة العمومية، في إطار الدّفاع المشترك عن الحقّ النّقابي وحقّ التّفاوض.
يأتي هذا التّحرّك في شكل صرخة احتجاج بعد أن أغلقت وزارة الإشراف باب التفاوض في وجه الجامعة العامة للتعليم الثانوي منذ فيفري 2025 والتعليم الأساسي منذ مارس 2025، على سبيل الذّكر لا الحصر، إضافة إلى بقيّة قطاعات التّربية، في ضرب مفضوح للدّستور ولكلّ الاتفاقيات الدّولية التي أمضت عليها الدّولة التونسية والخاصة بحق التفاوض والحقّ النّقابي وعمدت إلى إصدار قرارات أحاديّة الجانب من قبيل عدم تشريك الطرف الاجتماعي في حركة نقل منظوري الأسلاك التربوية خاصة الحالات الإنسانية وضرب اتفاقية 8 جويلية 2011 الخاصة بتعيين المديرين والنظّار والاستفراد بملف الشغورات وملف الإحالة على العمل الإداري لأسباب صحية وغير ذلك من الملفات.
هذا وقد أسدت وزارة التربية تعليماتها إلى المندوبيات الجهوية بعدم التعامل بشكل رسمي وبالاعتماد على محاضر جلسات مع الأطراف الاجتماعية جهويّا. الأمر الذي أدّى إلى تنسيق يوم غضب وطني بين التعليم الأساسي والتعليم الثانوي يوم 28 أوت 2025، سبقه عقد هيئة إدارية قطاعية إقليمية مشتركة بين القطاعين يوم 25 أوت. وفي ظلّ الصّمت المطبق لوزارة الإشراف وتماديها في لامبالاتها بالتّحركات الاحتجاجية وتجاهلها لكلّ المطالب المرفوعة ولكل الاتفاقيات ومحاضر الجلسات المبرمة السّابقة وتأزيمها المفضوح للأوضاع التربوية دخلت عدّة فروع جامعية لأسلاك التربية في اعتصامات في مقرات المندوبيات الجهوية للتربية. وقامت بقية الأسلاك بوقفات احتجاجية دورية. كلّ هذا ووزارة الإشراف لا تحرّك ساكنا في ظلّ وضع يشهد الكثير من الاحتقان بسبب الاكتظاظ غير المسبوق للتلاميذ بعد أن عمدت المندوبيات إلى الضغط على عدد الأقسام وتكبيل الأساتذة بالساعات الإضافية إضافة إلى ما تشهده المؤسسات التربوية من اهتراء في بنيتها التحتية وارتفاع عدد الأقسام الآيلة للسقوط وتعطّل أشغال البناء والصّيانة…
جدير بالذّكر أيضا أنّ مختلف أسلاك التّربية قد خاضت سابقا نضالات متنوّعة على غرار إضراب التعليم الثانوي يوم 26 فيفري 2025، والذي طالب فيه الأساتذة بسنّ القانون الأساسي المعطّل والذي لم ير النّور بعد، وبإنقاذ مقدرتهم الشرائية التي شهدت انهيارا مريعا، وبالإسراع بفتح التفاوض حول مطالب القطاع العالقة من اتفاقيتي 2019 و2023 والمطالب الواردة باللائحة المهنية لمؤتمر 1و2 أكتوبر 2023، وبالصّرف الفوري للمتخلدات المالية جميعا، إضافة إلى رفض تدخّل القضاء في مسائل تربوية وبيداغوجية صرفة… أمّا قطاع التعليم الأساسي فهو يستعدّ بدوره لخوض إضراب وطني يوم 7 أكتوبر 2025، وتتمحور أهمّ مطالبه حول الزيادة في الأجور وتسوية وضعيات المعلمين المنتمين إلى السلم المهني أ3 وفتح التفاوض حول المطالب المهنية إضافة إلى الاحتجاج على حركة المديرين التي تمّت خارج الصيغ القانونية المعمول بها.
أزمة قطاعات التربية مع السّلطة واجهة للصراع مع المنظمة الشغيلة
لعلّ الجميع يدرك أنّ أزمة قطاعات التربية تجاوزت مربّع المطلبية باتّجاه فرض الحقّ النقابي والمفاوضات الاجتماعية وهي بهذا تحوّلت إلى جزء من معركة يخوضها الاتحاد العام التونسي للشغل ضدّ سلطة انتزعت منه مهامّه وأحالت هياكله التنفيذية على البطالة القسرية خاصة في الوظيفة العمومية. والجميع يستحضر محاولة الاعتداء على مقرّه يوم 7 أوت 2025 من قبل مجموعات موالية لقيس سعيد دعت إلى حلّ الاتحاد ومحاسبة قياداته المتورّطة في تهديد السلم الاجتماعي. وهو ما تبناه قيس سعيّد نفسه من خلال دفاعه عنهم وعن حقهم في التظاهر وتبرئتهم من نية اقتحام مقر الاتحاد. ولعلّه من نافلة القول أيضا إنّ هذا الهجوم إنّما يندرج ضمن خطّة سعيد الساعية إلى القضاء على الأجسام الوسيطة وفي مقدّمتها المنظمات الوطنية واتحاد الشغل تخصيصا. لذلك مرّ إلى السرعة القصوى في خرق دستوره وكل الاتفاقيات الدولية وضرب الحقّ النقابي وإيقاف المفاوضات الاجتماعية مركزيّا والتي كان من المفترض أن تنطلق في ماي 2025، إضافة إلى إيقافها قطاعيّا. وهو ما يُعدّ رسالة سياسية واضحة وإصرارا على المضيّ قدما نحو تحجيم دور الاتّحاد لتمرير كل سياساتها دون مواجهة تُذكر.
هكذا تجد قطاعات التعليم نفسها في فوهة البركان وفي مرمى سهام السلطة بالنظّر إلى خصوصيّتها كقطاع ينتمي إلى الوظيفة العمومية. وتجد نفسها مجبرة على خوض الصراع ليس فقط في واجهته المطلبية الصرفة، وفي فضح سياسة التسويف والمماطلة وفي التصدّي لتهميش المدرسة العمومية، بل أيضا من خلال رفض سياسة الإقصاء الممنهج التي تنتهجها السّلطة مع النقابات القطاعية واعتبار معركة أسلاك التربية جزء لا يتجزّأ من معركة الحريات النقابية ومعركة الدّفاع عن العدالة الاجتماعية من خلال الدّفاع عن المدرسة الشعبية والتعليم الدّيمقراطي.
مآلات الصراع
يبدو من خلال سلوك المندوبيات ووزارة الإشراف التي تتلقى تعليماتها مباشرة من رأس السلطة التنفيذية ورغم كلّ الإخلالات التي شابت العودة المدرسية أنّ السّلطة عازمة على التّمادي في نهجها والوصول بالأزمة إلى ذروتها، حيث لا وجود لأيّ مؤشّر لحلحلة الوضع وكأننا بها تسير في اتّجاه فرض سياسة الأمر الواقع على قطاع عنيد ومواصلة ضرب الحق النقابي، لا في قطاعات التربية فقط بل في كلّ قطاعات الوظيفة العموميّة. وهو ما يجعل الاتحاد العام التونسي للشغل في مواجهة شاملة ومباشرة مع السلطة القائمة. على قيادة الاتّحاد أن تخرج من صمتها وأن تدافع عن وجود الاتّحاد المهدّد وألاّ تترك قطاعاتها تواجه مصيرها بمفردها. بل عليها أن تتحمّل مسؤوليّتها كاملة في الدّفاع عن الحريات النقابية وإجهاض مشروع إلغاء الأجسام الوسيطة وأن تضع حدا لصراعاتها الداخلية التي أضعفت المنظمة وأضعفت قطاعاتها وأن تتحمل مسؤوليتها في تنقية الأجواء النقابية وإصلاح أوضاع الجبهة الداخلية.
وبصرف النّظر عن الموقف الذي ستتّخذه المركزية النقابية في علاقة بهذه الأزمة الشّاملة فمن المؤكّد أنّ قطاعات التربية بتاريخها النضالي العنيد لن تتوانى عن الدّفاع عن المدرسة العمومية وعن مكتسباتها كجزء لا يتجزّأ من مكتسبات المجتمع التونسي كما أنّها لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ما يهدّد الحقّ النقابي وحقّ منظوريها.
صوت الشعب صوت الحقيقة
