بقلم حبيب الزموري
كانت عدة بلدان في جنوب وشرق آسيا خلال الأيام القليلة الماضية مسرحا لاحتجاجات وانتفاضات شعبية تفاوتت حدتها وجذريتها من بلد إلى آخر. فلئن اختلفت الدوافع والأسباب المباشرة من بلد آخر، فإن الأسباب العميقة وطبيعة هذه الحركات بوصفها حركات شعبية ضد الأنظمة الرأسمالية التابعة المتركزة في تلك البلدان وما أفرزته من مظاهر فساد سياسي واقتصادي وتفاوت طبقي حاد تعتبر واحدة.
ففي أندونيسيا اندلعت في منتصف شهر أوت واحدة من أوسع الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها البلاد منذ سنوات على إثر مصادقة الحكومة الأندونيسية على منحة سكن لنواب البرلمان تقدر بــ 3000 دولار أي ما يعادل حوالي عشرة أضعاف الأجر الأدنى في أندونيسيا في وقت تعاني فيه البلاد من التضخم وارتفاع نسبة البطالة وسن ضرائب جديدة، بالإضافة إلى التخفيض في ميزانية عدة وزارات لتمويل البرامج الشعبوية للرئيس برابوو سوبيانتو، ممّا أدى إلى فقدان آلاف مواطن الشغل لا سيّما في قطاع النسيج وتفاقم حدة التفاوت الطبقي في المجتمع الأندونيسي بتنامي ثروة الأقلية الرأسمالية التي تتولى وكالة أعمال الرأسمالية العالمية في البلاد، وتردي أوضاع أغلبية الشعب الأندونيسي وعلى رأسه الطبقة العاملة التي ترزح تحت نير علاقات الإنتاج الاستغلالية والمجحفة، تلك العلاقات التي أرستها الطغمة الرأسمالية الحاكمة منذ عقود لاستقطاب رأس المال العالمي والشركات عبر القطرية في سياق التقسيم العالمي الجديد للعمل منذ السبعينات وتحقيق ما يصطلح على تسميته بالمعجزة الاقتصادية الآسيوية. توسعت الاحتجاجات في أندونيسيا خلال أيام قليلة بنزول آلاف الطلبة والعمال إلى الشوارع يوم 28 أوت واجهتهم السلطة بالقمع والاعتقالات الجماعية وحملات التخوين وتجريم التظاهر والتعبير عن الرأي، وقد وصل عدد المعتقلين إلى 351 شخصا بينهم أطفال قصر ويرتفع عدد المعتقلين خلال 48 ساعة إلى 3400 معتقل. وأمام توسع الاحتجاجات الشعبية وتجذر شعاراتها لتطال النظام برمته وما أفرزه من ظواهر اقتصادية واجتماعية وسياسية متعفنة، اضطر الرئيس برابوو إلى التراجع عن بعض الامتيازات التي أغدقها على نواب البرلمان في نظام الحكم على غرار المنح ورحلات العمل إلى الخارج دون التنازل عن سياسته القمعية وتجريمه للاحتجاجات الشعبية والتضييق على كافة وسائل الإعلام والتعبير للتعتيم على الاحتجاجات وهو ما دفع الجماهير إلى تجذير شعاراتها ومطالبها لتستهدف النظام القائم برمته متجاوزة مسألة منح السكن للنواب التي أشعلت فتيل الاحتجاجات لتطالب بالرفع في الأجور مراجعة تشريعات العمل، ومكافحة الفساد و رفض البرامج الاستراتيجية الشعبوية المثيرة للجدل (مشاريع البنية التحتية الكبرى).
وأمام تعنّت السلطة الحاكمة وتشبثها بالدفاع عن النظام الاجتماعي المتعلق بتنظيم الإنتاج في أندونيسيا وتعبيرته السياسية واستنفاره لمختلف أجهزته الطبقية لقمع التحركات من إعلام وجيش وشرطة التي تفيد عديد التقارير الصادرة عن منظمات المجتمع المدني بتورطها في عمليات التخريب والتدمير مما دفعا السكان إلى خلق أطرهم التنظيمية الخاصة لمراقبة أحيائهم وحراستها والقبض على المخربين.
أمّا في النيبال، فبعد 17 سنة من الثورة التي أطاحت بالنظام الملكي سنة 2008 شهدت البلاد موجة احتجاجات شعبية على إثر حضر الحكومة النيبالية لمواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت الوسيلة المثالية للشباب النيبالي للتشهير بمظاهر الترف والفساد المالي والإداري والسياسي الذي تردى فيها رموز النظام الحاكم، وهو ما دفع العديد من الصحفيين والمراقبين من الخارج إلى تسمية هذه الانتفاضة الشعبية بانتفاضة الجيل Z كناية على انتماء أغلب المحتجين إلى الجيل الذي نشأ مع نشأة مجتمع الإعلام والمعلومات وانتشار الأنترنات فترعرع في أحضان الثقافة الرقمية وشكلت أداته الرئيسية في التواصل والتفاعل مع العالم ومع النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي المحيط بهم. وقال أحد المتظاهرين في رسالة بريد إلكتروني إلى وكالة رويترز، مُوقّعا باسم “مواطن نيبالي قلق”: “كان الاحتجاج يهدف، في المقام الأول، إلى مكافحة الفساد المستشري في الحكومة” وأضافت الرسالة “أن الشباب النيباليين كانوا ينشرون على وسائل التواصل الاجتماعي منشورات عن الحياة المرفهة التي تعيشها عائلات وأطفال السياسيين والموظفين الحكوميين الفاسدين” إلى أن فرضت الحكومة قيودا على هذه المنصات. لقد تمكنت الجماهير المنتفضة في ظرف سويعات قليلة من تجذير شعاراتها ومطالبها فبعد أن خرجت احتجاجا على حجب مواقع التواصل الاجتماعي استهدفت مباشرة مراكز السلطة ورموزها لتقتحم مقر البرلمان ومقر إقامة رئيس الوزراء وأضرمت فيهما النار، ليدخل الشباب المنتفض مبتهجا إلى مجمع البرلمان فور سماعه نبأ استقالة رئيس الوزراء أولي، ملوحين بأيديهم ومرددين هتافات، بينما تصاعد الدخان من أجزاء من المبنى، وكُتب على جدار مبنى البرلمان بخط برتقالي ضخم: “لقد انتصرنا”. ولكن اتضح بعد ساعات قليلة أن الوقت مازال مبكرا جدا على إعلان النصر على النظام القائم حيث سرعان ما نزلت قوات الجيش إلى شوارع العاصمة كاتماندو واستعادت السيطرة على مبنى البرلمان وبدأ الجيش مشاورات مع ممثلين عن المحتجين، في حين دعت شخصيات بارزة، بينها القاضية السابقة شوشيلا كاركي، إلى حوار وطني لتجاوز الأزمة، وحذرت من الانزلاق إلى الفوضى .وقال المتحدث باسم الجيش “راجا رام باسنيت” إن الجيش يحاول أولا إعادة الوضع لطبيعته، وإنه ملتزم بحماية أرواح الناس وممتلكاتهم. وحذّر الجيش من “الأنشطة التي قد تقود البلاد إلى الاضطرابات وانعدام الاستقرار”، مؤكدا أن التخريب والنهب والإحراق أو الهجمات ضد الأفراد والممتلكات باسم الاحتجاج سيتعامل معها كجرائم تتمّ المعاقبة عليها وهي كلها معطيات تدل على محاولة النظام المتداعي إعادة إنتاج نفس المنظومة الطبقية والالتفاف على الانتفاضة الشعبية التي قادها الشباب.
وجاءت احتجاجات الطلبة الفيلبينيين التي انطلقت يوم الجمعة الفارط ضد سياسات التقشف وتفشي مظاهر الفساد السياسي والاقتصادي في ظل حكم الرئيس فرديناند ماركوس جينيور الابن الثاني لدكتاتور الفيليبين الأسبق فرديناند ماركوس، لتؤكد تحوّل احتجاجات جنوب وشرق آسيا إلى موجة احتجاجية آسيوية يمكن أن تصل إلى بلدان أخرى خلال الأسابيع والأشهر القليلة القادمة في ظل تفاقم أزمة الرأسمالية العالمية التي تعتبر هذه المنطقة إحدى أهم مراكز دفعها إلى جانب أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية.
تبرز الاحتجاجات المندلعة في بلدان جنوب وشرق آسيا أن شعلة النضال والمقاومة لا تنطفئ مهما بلغ جبروت ووحشية النظام الرأسمالي العالمي وتنامي اعتداءاته على حرية وكرامة الشعوب فما أن تخمد الحركة الشعبية المناضلة في جزء من العالم حتى تشتعل في جزء آخر رغم تواضع نتائجها السياسية والاجتماعية إلى حد الآن ولكنها تثبت قدرة الشعوب على التعلم من تجربتها الذاتية ومراكمة هذه التجربة في مسيرتها الطويلة والشاقة نحو التحرر والانعتاق ولعل من أبرز خصائص هذه الحركات في القرن الــ 21 هو توفر وسائل الاتصال والتنسيق بين الشعوب والطبقات المناضلة في اتجاه تحقيق وحدتها في مواجهة آليات الهيمنة والتوحش الامبريالي.
صوت الشعب صوت الحقيقة
