يتابع العالم في المدة الأخيرة الحملة التي نظمها وقادها رؤساء دول امبريالية عُرفت بعلاقتها العضوية مع الصهيونية، مشروعا وكيانا، مثل فرنسا وبريطانيا اللتين لعبتا دورا نشيطا وحاسما في قيام كيان العصابات الصهيونية المجرمة. قادت فرنسا والسعودية هذه الحملة بمساندة من بريطانيا وكندا وبالطبع محمود عباس للاعتراف بـ”دولة فلسطين” وهو ما وافقت عليه 154 دولة عضوة في الأمم المتحدة واعترضت عليه 10 دول بزعامة الولايات المتحدة والكيان الصهيوني طبعا.
لقد ترافق مع حملة الاعتراف جدلٌ سياسي شَمِل عديد الأوساط بما فيها المُنَاصرة لفلسطين وحتى فصائل المقاومة التي أصْدر جميعُها مواقف تعتبر هذا الاعتراف، الذي ما كان ليحصل لولا صمود غزة والمقاومة الأسطوري ولولا التضامن الأممي الرائع، خطوة مهمّة من جهة الرمزية والتوقيت بما يشكل إسنادا سياسيا ومعنويا هاما في وجه كيان الجريمة الذي يعيش عزلة دولية متزايدة بسبب حرب الإبادة الوحشية التي يواصل شنّها على الشعب الفلسطيني منذ عامين في تحدّ سافر لأبسط القوانين الدّوليّة.
لكن الاطلاع على المضامين والسياقات هو أمرٌ ضروري حتى لا يُشكّل هذا الاعتراف خطوة التفافية جديدة تُفِيد معسكر الأعداء أكثر ممّا تُفِيد القضية والشعب الفلسطيني الذي ظلَّ من أكبر ضحايا هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن منذ انبعاثهما. لذلك يجبُ الانتباه إلى أنّ المقصود اليومَ بـ”الدولة الفلسطينية” هو الكيان المُمَزَّقُ بالمستوطنات والذي يَعسُر على أطفال فلسطين تصويره إن أرادوا رسمَ صورةِ الوطن.
إنّ ما يُروِّج له ماكرون وأضرابه ليس “دولة فلسطين” على أساس قرار التقسيم 181 الصادر في 29 نوفمبر 1947 والذي لم يمنح الشعب الفلسطيني سوى 45 بالمائة من أرضه اغْتَصَبَتْ منها العصابات الصهيونية مباشرة حوالي النصف، وليس دولة فلسطين على أساس القرار 242 الذي تلا عدوان 5 جوان 1967، ولا هي حتى دولة فلسطين المذكورة في اتّفاقيات أوسلو ولكنها دولة هلاميّة غيرَ مضبوطة الحدود بل دولةٌ مترتبةٌ عن وضع استمرَّ 77 عاما منذ قيام كيان العصابات الصهيونية المرتبط بالتشريد والتقتيل واغتصاب الأرض ومصادرتها.
إنّ الدولة التي يروِّجُ لها ماكرون ومحمد بن سلمان ومحمود عباس هي خِرْقة ممزقة ومحاطة بالتمام والكمال بقطعان المستوطنين المدجّجين بالسلاح والمحميين من خامس أكبر جيش في العالم من جهة القدرات والتجهيزات بما فيها السلاح النووي. علما وأنّ الخائن محمود عباس لا يتورّع عن الإصْداح بأنّ الدولة التي يريدها ستكون كما يريدها قادة الإمبرياليّات الأوروبيّة، منزوعة السلاح، بلا مخالب، لقمة سائغة لكل من هبّ ودب، كما لن يكون لحركة حماس وقوى المقاومة أي دور فيها.
إنّ محمود عباس يؤكّد بموقعه هذا الذي اختاره منذ عقود، موقع الخادم الذليل للكيان وللإمبريالي الأمريكي اللذين لا يتوانيان رغم ذلك عن تمْريغ أنفه في التراب معلنين أنّهما لم يعودا في حاجة إليه اليوم بل لم يعودا في حاجة ملحّة حتّى إلى دور أدواتهما في السعودية والخليج التي تسند عباس، وهما يعملان على الالتفاف على اغتصاب كامل فلسطين وفي مقدمتها الضفّة.
وبالإضافة إلى ذلك كلّه بل وممّا يكشف الطابع المناور للاعتراف الفرنسي البريطاني بالدولة الفلسطينية عدم مرافقة هذا الاعتراف بأيّ إجراءات ملموسة لوقف دعم الكيان بالمال والبضائع والسلاح ولوضع حدّ لحرب الإبادة في غزة وللتوسّع الصهيوني المستمرّ في القدس والضفّة للاستيلاء عليهما بالكامل وإلحاقهما نهائيا بالكيان بدعم من متطرّفي الحكم الفاشيين في الولايات المتحدة الأمريكية.
إنّ حزب العمال رفض منذ تأسيسه تقسيم فلسطين بين أهلها ومحتليها، واعتبر ألّا حلّ بتحرير كامل فلسطين وتفكيك الكيان الصهيوني وعودة المستوطنين إلى بلدانهم الأصلية وبناء الدولة الديمقراطية العلمانية وعاصمتها القدس التي تتعايش فيها كل الأديان والمعتقدات والقناعات. وهذا الحلّ الذي تتبنّاه كل القوى الوطنية والثّورية في فلسطين والمنطقة وفي العالم ما تنفكّ تؤكّده الوقائع وفي مقدّمتها التوسّع المستمرّ للكيان النازي واعتداءاته التي لا تتوقّف على شعوب المنطقة وتصريح قادته الواضح والوقح بأنّهم يريدون استغلال أوضاع اليوم لتحقيق “حلمهم التلمودي” في بناء “إسرائيل الكبرى” بما يعنيه من اغتصاب لأرض عدة دول من المنطقة (مصر، لبنان، سوريا، الأردن، العراق، السعودية…).
إنّ هذا المشروع الاستعماري الاستيطاني التوسّعي يَلْقَى الّدعم الواضح والوقح من قِبَلِ القوى الإمبريالية الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة التي تريد إعادة ترتيب المنطقة على أسس جديدة، طائفية، عرقيّة، قبليّة لتأبيد السيطرة عليها وضمان تفوّق الكيان الصهيوني. إنّ توم براك، هذا الوحش الوقح الذي صرّح قَبْل أيّام بأن واشنطن ستساعد الجيش اللبناني لكي يواجه شعبه ويقضي على حزب الله وليس لكي يتصدى للكيان الصهيوني، لا يتردد اليوم في التصريح بأنّه “لا يوجد شرق أوسط بل توجد قبائل وقرى… تمّ إنشاء دول من قبل الفرنسيين والبريطانيين عام 1916 في إطار سايكس بيكو…” وبالتالي فإن من “حقّ” الولايات المتحدة أن تعيد ترتيبها اليوم وفقا لمصالحها وفي إطار ما تسميه “الشرق الأوسط الجديد”.
كل هذه المعطيات تؤكّد ألّا حلّ إلّا بتفكيك الكيان الغاصب الذي لا يتوقّف عند حدٍّ وطرد الإمبرياليين الغزاة من المنطقة وعلى رأسهم الامبريالي الأمريكي وإقامة الدّولة الفلسطينيّة على كامل أرض فلسطين من النهر إلى البحر. وما من شكّ في أنّ هذا الحلّ سيأخذ وقتا ومن المرجّح أنّه لن يتحقّقَ دفعة واحدة بل ربّما يكون على مراحل ستتولى خلالها حركة التحرّر الوطني بناء سلطتها على كل شبر يتمّ تحريره ومواصلة المراكمة في اتجاه تحقيق الهدف الرئيسي مثلما فعلت أغلب حركات التحرير في العالم وفي التاريخ.
إنّ فضائل المقاومة الوطنية الفلسطينيّة لها من التّجربة كي تعرف كيف تناور وفقا للظروف وكيف تعبّد الطريق نحو الهدف النهائي. في هذا السّياق اعتبرت اليوم كل فصائل المقاومة الفلسطينية الاعتراف بدولة فلسطين على علّاته والتفافاته ومخادعاته ومغالطاته خطوة رمزية هامّة في ظل الأوضاع الحالية التي حوّلت فيها المقاومة بصمودها الأسطوري قضية فلسطين إلى قضية كل العالم طيلة عامي حرب الإبادة. ولكن تلك الفصائل مستمرة في النضال ومُدْرِكة كل الإدراك ما تُخبّئه لها قوى الاستعمار والخيانة والعمالة من مخططات ومشاريع احتواء وتصفية.
إنّ القضية الفلسطينيّة تُحْظى اليوم، رغم حرب الإبادة والدمار والتوسّع الصّهيوني في الضفّة وعربدته في لبنان وسوريا واليمن وإيران، بتضامن أممي غير مسبوق. لقد كان من نتائج صمود المقاومة وتضحيات أهالي غزة والشّعب الفلسطيني عامّة إلى انبعاث حركة إسناد عظمى في العالم. كما ساعد هولُ العدوان الصهيوني في فتح أعْيُن العالم على حقيقة الدّعاية والتّضليل الصّهيونيين، كما عرّى حقيقةَ العلاقة بين دولة الاحتلال والدّول الامبريالية الغربية، ممّا عزّز تلك الحركة التي أصبحت رقما مهمّا في معادلات الصّراع اليوم مثلما كانت مع المقاومة الفيتنامية والجزائرية والجنوب إفريقية ضدّ نظام “الابارتايد” الذي يعود اليوم مع كيان الاحتلال. وهو ما ينبغي استثماره والحفاظ عليه في مواجهة اللحظة الرّاهنة وفي إفشال مناورات الاعتراف الشكلية والالتفافية.
وما من شكّ في أنّ النقطة الأساسيّة تبقى محدودية إسناد الشّعوب العربية وشعوب المنطقة إذا استثنينا البعض منها. إنّ الشّعوب العربية تمرّ بفترة من أخطر فترات تاريخها. فهي تقْبعُ اليوم بين نارَيْن: نارُ أنظمة الاستبداد والعمالة والخيانة في الدّاخل ونار القوى الإمبريالية وأداتها الصّهيوني من الخارج. ولكننا على يقين أنّ هذه الشعوب ستنهض من جديد مثلما نهضت في السّابق لتحدِّدَ مصيرها بيدها وتواجهَ القمع والاستغلال والاضطهاد والتقسيم والتفتيت فتؤدّي واجبها تُجاه أوطانها من جهة وتجاه شقيقها الشعب الفلسطيني من جهة ثانية، فالمهمتان مرتبطتان بعضهما ببعض. فالشعوب القادرة على الدفاع عن حريتها وحقوقها وأوطانها هي الشعوب القادرة على الدفاع عن حرية الشعب الفلسطيني وحقوقه بل عن حرية وحقوق الشّعوب المضطهدة في مختلف أنحاء العالم.
ولا يمكن أن نُنْهي كلامَنا دون الإشارة إلى سلوك نظام قيس سعيّد. لقد برز هذا النظام بالغياب طيلة هذه الأيام في الأمم المتحدة. وقد حاول أنصار “المسار” تبرير هذا الغياب بكون “قيس سعيّد لا يقبل بغير تحرير فلسطين من النهر إلى البحر وبالتالي لا يهمّه كل ما تمّ من ضجيج حول الدولة”. وهو في الحقيقة موقف تضليلي لا هدف منه سوى محاولة تبرير الجبن الذي يلاحق النظام الشعبوي الحالي الذي عجز حتى عن الردّ على تصريحات عديد الأطراف الدولية والخارجية بما فيها صحف صهيونية حول اعتداء الكيان على أسطول الصمود في ميناء سيدي بوسعيد.
لقد كان من الممكن لممثل نظام قيس سعيّد أن يتكلّم في الأمم المتحدة ويُبْدي كل الملاحظات التي يريد إبداءَها، أوّلا بشأن “الاعتراف بدولة فلسطينيّة” أو بشأن حرب الإبادة التي يتعرّض لها الشعب الفلسطيني أو بشأن كل محاولات التّصفية التي تتعرّض لها القضية الفلسطينية. لكن النظام الذي يعجز حتى عن الدفاع عن نفسه في وَجْه الاعتداءات الصهيونية وعن استصدار قانون يجرّم التّطبيع لنْ يكونَ قادرا على الدفاع عن غزة وعن فلسطين فالخطب الشعبوية الجوفاء لا تُسمن ولا تُغني في النهاية من جوع.
المجد للمقاومة
النصر لفلسطين كامل فلسطين
عاش التضامن الأممي
صوت الشعب صوت الحقيقة
