بقلم الناصر بن رمضان
الحيثيات والوقائع
لم تكد عاملات النسيج بزغوان تنهين يومهن الشاق من العمل حتى نزل عليهن خبر الغلق الفجئي والنهائي لمعمل “سيون” SIOEN INDUSTRIES كالصاعقة لتجد ما يقارب 200 عاملة أنفسهن مطرودات على قارعة أرصفة البطالة بعد ما يقارب عن 25 سنة عمل من امتصاص عرقهن بل دمهن من فرط الاستغلال الرأسمالي الجشع والاضطهاد الطبقي المقيت.
وتفيد العاملات أنّ هذا المعمل البلجيكي المتخصص في صناعة الملابس الواقية والملابس الخاصة الموجهة للتصدير والمنتصب منذ 25 سنة، ظل يشتغل بصفة عادية في مناخ اجتماعي خال من التوتر، ممّا مكنه ذلك من مردودية وربحية فائقة، في حين تقول رواية الإدارة أنّ المعمل لم يعد يحقق المردودية الاقتصادية المطلوبة وهو يعاني من المنافسة المتزايدة خصوصا الآسيوية منها وبالتالي سيغير وجهة الانتصاب.
لقد أغلق المعمل أبوابه نهائيا يوم السبت 20 سبتمبر 2025 ودون سابق إشعار، فلا السلطة المحلية ولا تفقدية الشغل ولا الاتحاد الجهوي أعلم العاملات بهكذا قرار اعتباطي وصادم، وبالتالي لم تجر أيّ عملية تفاوض حول أسباب الغلق الفجئي وشروط التسريح الجماعي القسري وموافقة وزارة الشؤون الاجتماعية والجميع يعرف أنه لا يمكن بتاتا غلق منشأة اقتصادية دون احترام إجراءات الإشعار والمدة القانونية المطلوبة في حالة الغلق النهائي التي قد تصل إلى 3 أشهر، كما لم يقع التفاوض في التعويض عن الطرد التعسفي والحقوق المستحقة وقيمتها المالية أو الوساطات النقابية وخطط الدعم الاجتماعي رغم إقرار التشريعات الاجتماعية بذلك ممّا يفتح الباب للطعن القضائي لدى المحاكم ويشرّع كل أشكال النضال التي ترتئيها العاملات للتعبير عن الظلم والقهر الطبقي في ظرف اجتماعي دقيق ليس أقله العودة المدرسية المكلفة وهو ما دفع العاملات للخروج في مسيرة احتجاجية حاشدة نحو الولاية التي لم تنصفهن ممّا اضطرهن للتجمهر وقطع الطريق يوم الثلاثاء 23 سبتمبر كتعبير عن احتقانهن وغضبهن اللامحدود.
هذه هي الصورة الاجتماعية القاتمة والتي باتت مألوفة على مدى السنوات الأخيرة، إذ تكررت سيناريوهات مشابهة لمؤسسات صناعية تغلق أبوابها فجأة بذريعة الخسائر أو تراجع الطلب لتجد آلاف العائلات نفسها بلا مورد رزق، وإن دلّ ذلك على شيء فهو يدلّ على مسار ممنهج لتفكيك القطاع الصناعي والخاص حيث تحوّلت هشاشة الوضع الاقتصادي والاجتماعي إلى ذريعة جاهزة لتبرير الطرد الجماعي. إنّ ما يحدث ليس قضاء وقدرا بل هو نتاج طبيعي لسياسات المنظومة الشعبوية الفاشلة التي تخلت فيها الدولة عن دورها الرقابي والاجتماعي في حماية الشغالين وفتحت المجال على مصراعيه للرأسمال الأجنبي والمحلي ليعيث فسادا ويمارس كل أنواع الابتزاز والاستغلال والاضطهاد.
في تحديد المسؤولية
إنّ المسؤولية الأساسية في قضية الحال تلقى على عاتق السلطة السياسية، فالدولة التي ظلت تمطرنا بالخطابات حول “تشجيع الاستثمار” و”حماية مناخ الأعمال” هي نفسها التي تغضّ الطرف عن استباحة حقوق العمال وتجرّم احتجاجاتهم وتعمل جاهدة على تجريدهم من أدواتهم النضالية أي النقابات وهي نفسها التي تترك العمال يواجهون مصير الطرد والفقر والفاقة في ظل غياب لجان المراقبة والتفقديات ووزارة الشؤون الاجتماعية التي تحولت كلها إلى إدارات مجردة من كل سلطة حقيقية أمام الحاكم الفردي المطلق بكل الصلاحيات، وهي نفس السلطة التي تحمي أصحاب رؤوس الأموال والشركات وتمنحها الإعفاءات والامتيازات الضريبية الخيالية.
كما أنّ المسؤولية تلقى أيضا – وإن بدرجة أقل – على عاتق المركزية النقابية، إذ كم من مرة انتفض العمال المطرودون وتُركوا لوحدهم يواجهون مصيرهم المجهول، بينما تحوّلت البيروقراطية النقابية إلى لعب دور الوسيط الصامت الذي يفاوض على الفتات ويبرر الهزيمة باسم “الممكن” و”الواقعية” وهي ليوم الناس هذا غارقة في خلافاتها الداخلية المنصبّة كلّيا على التشبث بالموقع، علاوة على أنها غير راغبة في المواجهة الجريئة والشجاعة لسلطة الاستبداد والدفاع عن منظوريها، وهو ما ينعكس سلبا على جمهور المنخرطين وعموم الشغالين.
أزمة أعمق من مجرد إغلاقات
إنّ ما يجري في زغوان هو عيّنة فاقعة من أزمة أوسع: أزمة مجتمع كامل يُدفع دفعا نحو البطالة والفقر والتهميش تحت وقع أزمة اقتصادية خانقة وسياسات نيوليبرالية متوحشة، وما لم تتحمل الدولة مسؤوليتها في حماية حق الشغل غير القابل للمساومة، وما لم تتحرر النقابات من بيروقراطيتها المقيتة لتعود أداة فعل نضالي حقيقي، فإن مسلسل الإغلاقات الفجئية سيستمر ويتضاعف وسيبقى العمال لوحدهم من يدفع فاتورة الأزمة. وسواء في نسيج زغوان 2025 أو صفاقس المنطقة الصناعية 2024 أو الساحل (سوسة، المنستير، المهدية) أو بنزرت في مصنع المواد البلاستيكية 2024 أو السبيخة لصناعة الأحذية أو غيرها فإن مصير التسريح الجماعي هو نفسه: طرد تعسفي فاحتجاجات وقطع الطرق وحرق العجلات فمحاكمات فاحتقان اجتماعي وسياسي شامل فانفجار عام غير معلوم العواقب ولا يهمّ الحدث القادح مهما كان شأنه وحجمه وتوقيته… وبالتالي هو ليس مجرد غضب عابر بل إنذار أخير: لا دولة بلا عدالة اجتماعية، ولا استقرار بلا كرامة، ولا كرامة بلا شغل قار. ومرة أخرى فإن العمال المطرودون ليسوا مجرد متظاهرين غاضبين بل هم تعبير عن وجع وطني يتكرر من جهة إلى أخرى وحين يحرقون العجلات فهم يحرقون أوهام المصالحة الاجتماعية والسلم الاجتماعي والشراكة مع المستثمرين، وإذا كانت الدولة الشعبوية عاجزة – وهي فعلا عاجزة – عن حماية حق الشغل، وإذا كانت البيروقراطية النقابية مستمرة في نضالها الصامت فإن القادم أسوأ وأخطر: موجات غضب اجتماعي ينضاف إليها احتقان سياسي وإفلاس اقتصادي ومالي مرشح للانفجار في أيّ لحظة سوف يعصف بكل أركان المنظومة الفاشلة والعاجزة.
أيّ دور للقوى النقابية والتقدمية؟
أمام هكذا أوضاع متفجرة ليس لقوى اليسار النقابي التقدمي مهمة أوكد من مهام تبوّأ صدارة النضالات العمالية ومساعدتها على بلوغ أهدافها المختلفة بل تطويرها وتسليحها بالوعي والتنظيم دون الحلول محلها أو السطو على نتائجها. وإذ تقوم هذه القوى بهذه المهام النبيلة التي تندرج ضمن مهامها التاريخية فهي لا تخشى لومة لائم من تهمة التسييس التي توزعها سلطة الشعبوية اليمينية العميلة يمينا وشمالا بغاية شل هذه النضالات والالتفاف عليها وعزل هذه القوى وتحييدها.
صوت الشعب صوت الحقيقة
