الرئيسية / صوت الوطن / معضلة البطالة: الاختبار الحقيقي الذي يعرّي منظومة الشعبوية ويسقط كل الأوهام
معضلة البطالة: الاختبار الحقيقي الذي يعرّي منظومة الشعبوية ويسقط كل الأوهام

معضلة البطالة: الاختبار الحقيقي الذي يعرّي منظومة الشعبوية ويسقط كل الأوهام

بقلم محمد صالح الماجري

تُعدّ البطالة في تونس من أبرز التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجه البلاد منذ عقود، لكنها تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى مؤشر سياسي عميق يعرّي فشل منظومة الحكم ويكشف حدود السياسات الشعبوية. فوفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء بلغت نسبة البطالة في الربع الثاني من سنة 2024 حوالي 16.9% على المستوى الوطني، لترتفع في بعض الولايات الداخلية إلى أكثر من 30%. وتُظهر الأرقام أن أكثر من 40% من العاطلين عن العمل هم من حاملي الشهادات العليا، مما يعكس خللاً هيكليًا في العلاقة بين التعليم وسوق الشغل. كما تشير تقارير دولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) إلى أن الاقتصاد التونسي يعاني من ضعف معدل النمو (أقل من 2% في 2023 و2024)، وهو ما لا يسمح بامتصاص أكثر من جزء محدود من الطلب المتزايد على الشغل.

في ظل هذا الواقع، لم تعد البطالة مجرّد قضية اقتصادية واجتماعية، بل تحوّلت إلى مرآة تعكس أزمة منظومة الحكم وعجزها عن بناء منوال تنموي شامل وعادل.
البطالة شجرة تخفي غابة أو أزمة منظومة
في لبنان أُطلقت تسمية حكومة “البانادول” حين كان الناس يتزاحمون على حبة بانادول أمام الصيدليات لإيقاف صداع الرأس وبعض الأوجاع الطارئة دون جدوى. وفي عام 2021، عند تكليف نجيب ميقاتي بـ”مسلسل” تشكيل حكومة لبنانية جديدة، وعد هذا الأخير بحل مشكل البانادول وكل ما يؤلم اللبنانيين. ومنذ ذلك الحين، صار الاسم يطلق على الحكومات التي تأتي لتسكين الأوجاع بدل العلاج الكامل.
هذه التسمية تنطبق على منظومة “الحاكم بأمره” في تونس، وليس في ذلك أي مبالغة. فلا يكاد يمرّ يوم دون أن يرفع فيه صوت شاب يائس يبحث عن فرصة عمل، أو يُغلق شارع احتجاجًا على التهميش والبطالة. إن أزمة التشغيل في تونس هي نتيجة مباشرة لاختلالات هيكلية في نظام الحكم، مما يجعلها “الشجرة التي تخفي الغابة”، أي الأزمة الأوسع لمنظومة الحكم. فالمسألة ليست مجرد مشكلة اقتصادية واجتماعية، بل هي انعكاس لخلل أعمق في بنية الحكم وعجزه المزمن أمام بطالة متفاقمة وحلول غائبة.
في هذا المشهد القاتم، يتحوّل حلم الشباب إلى مجرد “الخروج من البلاد”. لقد باتت الهجرة في نظر الكثيرين الخيار الوحيد المتاح في ظل انسداد آفاق التشغيل وتراجع مؤشرات الأمل. فالمعطلون عن العمل، وفي مقدمتهم أصحاب الشهادات بما يمتلكونه من كفاءات، يعيشون حالة من الإحباط الجماعي. وتتحول البطالة إلى أكثر من مجرد رقم؛ إنها قدر يومي يعيشه الشاب المعطل، ومحرك للهجرة السرية والارتماء في أحضان “الأفيون” و حتى التطرف والإرهاب، وهو ما ينذر بانفجارات اجتماعية خطيرة كما حصل مؤخرًا في سيدي بوزيد والقصرين وقفصة، وقد تتوسع لتشمل جهات أخرى.
وبحسب المعهد الوطني للإحصاء، تجاوزت نسبة البطالة 15%، وقفزت في بعض المناطق الداخلية إلى ما يفوق 30%، وتزداد حدّتها في صفوف حاملي الشهادات العليا. غير أن هذه الأرقام ليست دقيقة، لأنها تعتمد على عدد المسجّلين في مكاتب التشغيل، وهو ما يعكس أزمة في مواءمة مخرجات التعليم مع حاجيات السوق، ويكشف كذلك عمق إخفاقات الدولة في التخطيط والتنفيذ. إنها مرآة لمنظومة حكم غير قادرة على الاستجابة لتطلعات شعبها.
الشعبوية تعمّق البطالة: لا جديد سوى الثرثرة الفارغة
لم تنجح الشعبوية في تقديم بدائل تنموية حقيقية. فقد طغت الخطابات الفضفاضة التي تتسم بالتسلط والغرور والنفاق، وذلك عبر استعمال خطاب سياسي شعبوي هجين، مبني على المجهول ويتحدث عن غرف مظلمة ومؤامرات.
الإشكال الجوهري لا يتعلق فقط بغياب فرص العمل، بل باختلال العلاقة بين التعليم والاقتصاد وسوق الشغل. لقد استمرت منظومة “الحاكم بأمره” في تبنّي سياسات ظرفية وترقيعية عوض التفكير في إصلاح شامل لمنظومة التعليم والتكوين وربطها بمتطلبات السوق الحقيقية.
وقد برز خاصة في الفترة الأخيرة نضال المعطلين من الدكاترة وأصحاب الشهادات العليا في تونس كواحد من أبرز وجوه الأزمة الاجتماعية. فقد نظموا احتجاجات متكررة، واعتصامات في العاصمة والجهات الداخلية، مطالبين بحقهم في التشغيل والاعتراف بقيمتهم العلمية. هؤلاء الشباب الذين أفنوا سنوات طويلة في الدراسة وجدوا أنفسهم في مواجهة انسداد الآفاق وغياب الحلول الجدية. ورغم الوعود المتكررة من قيس سعيّد، فإن السلطة فشلت في تلبية انتظاراتهم، بل تحولت وعود التشغيل إلى مجرد شعارات فضفاضة تعمّق الإحباط وتزيد من الشعور بالخيبة تجاه المنظومة القائمة. إن هذا الفشل يؤكد أن البطالة ليست فقط معطى اقتصادياً بل امتحاناً سياسياً وأخلاقياً للسلطة تثبت الأيام أنها فشلت فيه بامتياز
التشغيل والقضاء على البطالة في قلب برنامج الديمقراطية الشعبية
إن حل أزمة البطالة في تونس لا يمر فقط عبر خلق مواطن شغل جديدة، بل من خلال القطع مع المنوال التنموي اللاوطني واللاشعبي، وبناء منوال تنموي موجَّه للأغلبية، قوامه العدالة الاجتماعية والسيادة الوطنية، بعيدًا عن إملاءات صناديق ومؤسسات النهب الدولية.
لا يمكن الحديث عن حل لأزمة التشغيل في ظل اقتصاد ريعي هش يعتمد على قطاعات غير منتجة أو موسمية مثل السياحة والخدمات، ولا يمنح قيمة حقيقية للصناعة والتكنولوجيا والابتكار.
من هنا نصل إلى قلب الأزمة: فالمسكّنات لم تعد تنفع. ما تحتاجه تونس ليس برامج تشغيل ظرفية أو انتدابات عشوائية، بل استراتيجية اقتصادية وطنية تقوم على تنويع مصادر الدخل، والمراهنة على القطاعات المنتجة والمجالات الرقمية والبيئية، وتقطع مع الفساد، وتمنح الجهات القدرة على تسيير شؤونها الاقتصادية.
لكن كل هذا لن يحدث ما دامت الدولة تفتقر إلى مشروع وطني جامع، حيث تصبح الديمقراطية الشعبية ضرورة ملحّة في ظل فشل المنظومة الحالية في بناء سياسات ناجعة وعقد اجتماعي جديد.

إلى الأعلى
×