الرئيسية / صوت النقابة / الاتحاد العام التونسي للشغل: هل وصلت عدوى العبث الشعبوي إلى القيادة النقابية؟
الاتحاد العام التونسي للشغل: هل وصلت عدوى العبث الشعبوي إلى القيادة النقابية؟

الاتحاد العام التونسي للشغل: هل وصلت عدوى العبث الشعبوي إلى القيادة النقابية؟

بقلم رؤوف أنور

لم يدم الاطمئنان النسبي لدى النقابيات والنقابيين طويلا بعد إقرار عقد المؤتمر الاستثنائي للمنظمة في مارس 2026 إذ سرعان ما تبيّن أنّ الأزمة النقابية التي ضربت أوصال الاتحاد أعمق من مجرد تقديم مؤتمر أو تأخيره وهو ما كشفه الأداء والسلوك النقابي للمكتب التنفيذي الوطني الذي أصبح عاجزا حتى عن عقد اجتماعه الدوري بكامل أعضائه وتحوّل اجتماع المكتب إلى حلبة للتقاذف بالتهم والتنابز والسبّ والشتم بين الأمناء العامين المساعدين وانسحاب عدد منهم في أكثر من مناسبة في الوقت الذي تتعرض فيه المنظمة إلى حصار واستهداف يهدد كيانها برمته.

أزمة قيادية أم أزمة هيكلية

يختزل طيف واسع من النقابيين والمتابعين للشأن النقابي أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل في قيادته التنفيذية المنبثقة عن المؤتمر الاستثنائي بصفاقس في فيفري 2022، ومثل هذا الطرح يعكس في الحقيقة بعدا آخر من أبعاد الأزمة النقابية يتمثل في أزمة الوعي النقابي وتدهور الملكات الفكرية والسياسية داخل المنظمة وحولها القادرة على التشخيص والتحليل وطرح البدائل، الأمر الذي ساهم في بسط البيروقراطية النقابية لهيمنتها من جديد على المنظمة بعد أن اضطرت سابقا لتقديم تنازلات جزئية تحت ضغط المعارضة النقابية الديمقراطية المناضلة، فالقيادة النقابية البيروقراطية لا تختزل أزمة الاتحاد العام التونسي للشغل وإن كانت التعبيرة المكثفة عنها، ففيها تتفاقم علاقات الزبونية النقابية والتعامل الانتهازي مع قوانين المنظمة والبحث عن تحقيق المصالح الذاتية على حساب القيم النقابية والعمالية الأصيلة القائمة على التواضع والنضالية ونكران الذات مثلما تفشت في هياكل الاتحاد النزعات الفردانية والقطاعية والخطية على حساب قيم التضامن العمالي والنقابي، لقد ترعرعت مختلف هذه الأمراض في صفوف المنظمة هياكلا وأفرادا برعاية القيادات البيروقراطية المتعاقبة على المنظمة لضمان السيطرة عليها وعدم المساس بالعقد الاجتماعي غير المعلن الذي يجمعها بالسلطة الحاكمة والقائم على سياسة الوفاق الطبقي رغم الهزات والصدامات التي عرفتها العلاقة بين الطرفين والتي لا تتجاوز كونها صراعات حول تحسين شروط التفاوض ومواقع كل طرف في البلاد، ولكن رغم إن الصراع الدائر اليوم بين السلطة والاتحاد هو صراع وجود بحكم غلق السلطة التنفيذية لباب المفاوضات مع المنظمة الشغيلة وهو بمثابة إعدام غير معلن للعمل النقابي فإن ردة فعل القيادة النقابية لم ترتق إلى حجم هذا التهديد بل إنها غرقت في صراعات التموقع داخل المنظمة وتبادل التهم حول المسؤولية عن الوضع الذي وصل إليه الاتحاد، بل إن بعض الأمناء العامين المساعدين ما زال ينكر إلى حدّ اللحظة وجود أزمة داخل المنظمة ويتبجّح “بالنجاحات” التي حققها قسمه وكأن الاتحاد تحوّل إلى جزر معزولة عن بعضها البعض أو شركة عبر قطرية تتوزع فروعها على بلدان مختلفة فتنجح فروع في تحقيق أرباح وتفشل أخرى.

إنّ هذا السلوك النقابي السائد صلب المكتب التنفيذي الوطني الذي لا يعترف بالنقد الذاتي ومراجعة التقديرات الخاطئة التي رمت المنظمة بين براثن السلطة الشعبوية يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أنّ الأزمة أعمق من مجرد حصرها في 15 عضوا في المكتب التنفيذي أو 5 أو 10 أعضاء أو أمانة عامة، إنها أزمة وعي وممارسة نقابية أصابهما الوهن والترذيل من جراء علاقات الاستزلام والزبونية السائدة في مجتمعنا الذي يعرف كافة أنواع التفسخ القيمي والأخلاقي، أزمة تمكنت من اختراق هياكل الاتحاد العام التونسي للشغل من القمة إلى القاعدة وترسيخ دوره كنقابة مساهمة في إنتاج وإعادة إنتاج علاقات الاستغلال الرأسمالي في بلادنا بما يلائم مصالح الرأسمالية العالمية ووكلائها من الكمبرادور المحلي، تلك هي حقيقة المنظمة للأسف الشديد والتي يحاول النقابيون والنقابيات إخفاءها بالشعارات الرنانة في مواسم التسخين ولكن رغم كل هذه الهنات فإن النقابة وفصيلها الأكثر جماهيرية في بلادنا الاتحاد العام التونسي للشغل تبقى أفضل مدرسة للطبقة العاملة التونسية للتدرب على النضال وعلى الوعي بمصالحها.

إنّ الذهاب إلى مؤتمر وطني استثنائي استماتت أغلبية المكتب التنفيذي الوطني للاتحاد في معارضته والحيلولة دون المصادقة عليه ولو بالدوس على سلطات أخذ القرار داخل المنظمة يعتبر مكسبا في حدّ ذاته، ولكنه مكسب جزئي جدا مقارنة بما تحتاجه المنظمة فعليا لإنقاذ نفسها من براثن التآكل والاندثار في فخّ العطالة والجمود الذي نصبته لها السلطة الشعبوية.

مؤتمر استثنائي لا يكفي دون مضامين استثنائية

رغم إجماع أعضاء المكتب التنفيذي الوطني على الذهاب إلى المؤتمر الاستثنائي في مارس القادم فإن هذا الإجماع لا يعكس في الحقيقة وحدة وعي بخطورة الأزمة واستمرار الوضع على ما هو عليه داخل المنظمة كما لا يعكس إرادة حقيقية لمعالجة جذور الأزمة بقدر ما كان إجماعا هشّا فرضه الأمر الواقع واستحالة مواصلة المكتب التنفيذي الحالي لأداء مهامه، فأكثر من نصف الأمناء العامين المساعدين يمارس إلى حدّ اللحظة دعاية مناهضة للمؤتمر الاستثنائي ويرفض أغلبهم تقديم الحدّ الأدنى من النقد الذاتي وهو ما ينذر بتحويل المؤتمر القادم إلى محطة جديدة لإعادة إنتاج نفس المنظومة النقابية البيروقراطية والاكتفاء ببعض الإصلاحات الشكلية لتجنّب طرح جوهر الأزمة وما تقتضيه من إجراءات وإصلاحات تتعلق بالمحاور الأساسية التي لطالما شكلت محور النقاش والصراع داخل الاتحاد العام التونسي للشغل وهي:

  • مسألة الاستقلالية عن السلطة وهو ما يستوجب القيام بعملية تقييم موضوعي للسلوك السياسي والنقابي للمنظمة منذ سنة 2011 والتركيز على فترة 2019 – 2025 التي شهدت في تقديرنا غياب البوصلة واليقظة عن القيادة النقابية مما أدخل المنظمة في نفق لم تخرج منه إلى حدّ اللحظة.
  • المسألة الديمقراطية وما تقتضيه من تراجع فوري عن الانقلاب على الفصل 20 بالإضافة إلى الفصول التي تكرّس هيمنة المكتب التنفيذي الوطني على سلطات القرار داخل المنظمة وتوسيع صلاحيات الأطر النقابية الواسعة على غرار المجلس الوطني والهيئة الإدارية الوطنية والهيئات القطاعية والمكتب التنفيذي الوطني الموسع.
  • مسألة التسيير الإداري والتصرف المالي داخل المنظمة التي أصبحت بمثابة الصندوق الأسود، بل أصبحنا نشاهد مؤتمرات جامعات عامة تنعقد دون مصادقة على تقاريرها المالية لحسابات نقابية معيّنة في لحظة معيّنة رغم ما يعنيه ذلك من اعتداء فاضح على قوانين المنظمة وما يرسيه من تقاليد انتهازية غير سوية، بالإضافة إلى ملف أملاك الاتحاد.

إنّ مؤتمرا استثنائيا لا يناقش هذه القضايا الثلاث بكل جرأة وشفافية بمختلف الملفات المتفرعة عنها لا يحمل من الاستثنائية سوى الاسم ولن يكون سوى فرصة جديدة لتقاسم الغنائم النقابية والبحث عن كيفية ترميم العقد الاجتماعي بين قيادة المنظمة والسلطة القائمة وإعادة إنتاج نفس العلاقات الاجتماعية المتعلقة بتنظيم الإنتاج في بلادنا القائمة على الوفاق الطبقي والمفاوضات الدورية لمحاصرة أية إمكانية لانفجار الوضع الاجتماعي وتحرك الطبقة العاملة بشكل مستقل رغم إيمان الحاكم بأمره حاليا أنه في غنى عن الدور الذي لعبته القيادة النقابية طيلة عقود وهو ما يثير الدهشة والتساؤل مرة أخرى عن مدى وعي القيادة النقابية بمخططات السلطة الحقيقية نحو المنظمات والأحزاب وعلى رأسها المنظمة الشغيلة وما تمثله من تهديد وجودي على مصيرها رغم ما يعلنه عدد من الأمناء العامين المساعدين والأمين العام نفسه في تصريحاتهم من معارضتهم لتوجهات السلطة الشعبوية لتصفية الأجسام الوسيطة. ورغم إن هذه المخططات لم تعد مجرد نوايا أو “صواريخ في منصاتها مستعدة للإطلاق” بل تحوّلت إلى ممارسة فاشية يومية يكتوي بنارها آلاف العمال والأجراء، فإن ردّة فعل القيادة النقابية لا تكاد تذكر ولم ترتق إلى مستوى المخاطر والتهديدات المحدقة بالمنظمة وهو ما يخفي ترددا وارتباكا ومخاوف حقيقية من مدى القدرة العملية والتنفيذية لهياكل الاتحاد على مواجهة هذه التهديدات وهو ما يطرح على المؤتمر الاستثنائي القادم “أمّ القضايا” في تقديرنا ألا وهي كيفية ترميم الوعي والإرادة النضالية داخل المنظمة وانتشالها من واقع الوظيفية والريع النقابي الذي تردّت فيه.

ينتظر التيار النقابي الديمقراطي المناضل داخل المنظمة وخارجها عمل جبار من أجل فرض هذه المضامين في لوائح المؤتمر ومناقشتها بكل جرأة في قاعة الجلسات عسى أن يكون هذا المؤتمر محطة لانطلاق قاطرة الإصلاح الجذري داخل المنظمة الذي من شأنه حمايتها من التحول إلى “تراث وطني” بمنحها جرعة نضالية وديمقراطية تعيد لها توهجها ودورها الوطني والنقابي ومكانتها في وجدان ملايين التونسيات والتونسيين.

إلى الأعلى
×