بقلم عماد المناعي
في الماضي غير البعيد، حين كنا لا نمتلك من وسائل الإعلام إلا التلفاز والمذياع والجريدة كانت الأحداث الوطنية أو الإقليمية أو الدولية سرعان ما تدفعنا للنزول إلى الشوارع للتعبير عن الاستنكار والتنديد بما يجري تضامنا ومساندة لمن مسّه ظلم أو اعتداء طالبين حماية حقوقه ومعاقبة المعتدي مهما كان موقع الحدث شرقا أو غربا، شمالا أو جنوبا وخاصة إذا تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية فكانت الشعوب في الدول العربية أو الإسلامية باختلاف تياراتها لا تتوانى عن أداء واجبها بشتى أنواع التعبير من احتجاجات ومسيرات وفعاليات وتبرعات لنصرة الفلسطينيين في معاناتهم فيما يقدم عليه الكيان الصهيوني من جرائم فظيعة في حقهم وكذلك للضغط على حكومات دولهم للتحرك دوليا. هذه الحكومات وإن اختلفت رؤاها وتباينت فإنها لم تكن بمثل هذا السوء الذي نراه اليوم.
لكن وما أن أصبح العالم في قبضة كف واحدة بفضل آليات التواصل الاجتماعي حتى انكشفت للعالم بأسره أكاذيب الكيان وزيف شعاراته خاصة بعد 7 أكتوبر 2023 وسطعت الحقيقة كاملة لتعود القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث وتكشف عن نفسها من جديد لأجيال كادوا أن ينسوها ولأجيال جديدة لا يعرفون عنها شيئا أو الشيء القليل. وينكشف معها الوجه القبيح للكيان الصهيوني الذي يشن حربا طاحنة ضروس بلا رحمة ولا شفقة مستخدما كل الوسائل المروعة من تقتيل وتشريد وتجويع ضد شعب أعزل بغرض القضاء على المقاومة داخل قطاع غزة وخارجها أينما وجدت مثلما تباهى بذلك علنا ودون خجل مندوب الكيان بمجلس الأمن بمناسبة الاعتداء على دولة قطر. وبانكشاف هذا الوجه سقطت أقنعة العديد من المتوارين خلف الكيان لتظهر وجوههم عارية دون حياء لدعمهم له سياسيا وعسكريا وماليا واقتصاديا، فتحول صمت حكامنا المريب إلى تواطئ صارخ.
حينما يتحوّل الصمت إلى تواطئ
57 دولة يحكمها ملوك وأمراء ورؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء وبرلمانات تحرسهم جيوش مدججة بالسلاح وقواعد عسكرية أجنبية على أعلى مستوى يتفرجون من على كراسيهم الملتصقين بها أيما التصاق على شعب يُباد منذ قرابة العامين، لا فعل لهم سوى وصف الحالة بالخطيرة كأنهم مراسلي إحدى القنوات لنقل الخبر لا من ميدان المعركة ولكن عن بعد أو مجرد الاستنكار والشجب والإدانة والتنديد وكأن الأمر من قضاء لا مرد له. هؤلاء الحكام عقدوا عدة مؤتمرات وقمم عربية وإسلامية عادية واستثنائية وطارئة كان آخرها بالدوحة بمناسبة اعتداء الكيان الصهيوني الغاشم على دولة قطر في محاولة لاغتيال قادة حركة حماس السياسيين. وحضر بها المطبّعون مع الكيان الصهيوني والذين في طريق التطبيع، ومن منع دخول المساعدات إلى سكان قطاع غزة، ومن اعترض طريق قافلة الصمود لكسر الحصار. كما حضر فيها من امتنع عن تجريم التطبيع وحضر فيها من موّل الشريك الأمريكي في ضرب قطر وتقتيل الشعب الفلسطيني، وحضر فيها من يدافع على قطر ودولته مستباحة وسيادتها منتهكة من قبل الكيان الغاصب دون ان يحرك ساكنا مثل أحمد الشرع رئيس سوريا، ورئيس لبنان جوزيف عون الذي لم يكتف بعدم الرد على الاعتداء على أراضي دولته واحتلال جزء منها بل سعى الى نزع سلاح المقاومة والتخلص من قادتها نهائيا.
هؤلاء الحكام اجتمعوا في الدوحة واتحدوا حول كلمة واحدة تكررت في جميع لقاءاتهم “نندّد”. ذلك هو أقصي اتحادهم، لا يتجاوز التنديد والاستنكار معرضين عن استخدام العديد من الوسائل التي يمكن أن تردع الكيان وتصدّه وتوقف حرب الإبادة التي يتفنن في ارتكابها في حق شعب أعزل ومن بين هذه الوسائل وأبسطها إيقاف حملة التطبيع وقطع العلاقات مع الكيان أو على الأقل تجميدها إلى أكثرها حسما وردّ العدوان سواء على الأراضي الفلسطينية أو السورية أو اللبنانية أو القطرية أو اليمنية وأينما كان هذا العدوان بالرد العسكري المكفول بالقانون الدولي مثلما فعلت إيران حينما ردت على العدوان الصهيوني الغاشم بالمثل أو أكثر. إلا أن هؤلاء الحكام التزموا الصمت المريب إلى درجة التواطؤ على شعوبهم خدمة لمصالح الامبريالية والصهيونية وحفاظا على بقائهم في السلطة لا مبالين بشعوب المنطقة التي سُلبت منها ثرواتها وقُمعت ثوراتها في بعض دولها بثورة مضادة شارك فيها عملاء وكلاء داخل البلد نفسه بمساعدة أجنبية لوأد الثورات وإنهاء المقاومة فهل مازال لتلك الشعوب نفس لنصرة فلسطين؟
وماذا عن الشعوب في هذه البلدان؟
إن الشعوب في الدول الغربية وإن لم تربطها جغرافيا ولا تاريخ بفلسطين وبعد انكشاف زيف العدو ورواج مشاهد الدمار والخراب ومعاناة سكان غزة فإنها لم تنقطع عن الاحتجاجات والمسيرات والفعاليات دعما للقضية الفلسطينية وسعيا منها في محاولة لإيقاف حرب الإبادة ومعاقبة مرتكبيها وذلك بفرض عدم تعاون وتعامل دولهم مع الكيان خاصة في مجال التسليح إلى أن تغيرت فعلا مواقف بعض تلك الدول التي بدأت باتخاذ بعض الخطوات إلى حد الاعتراف بالدولة الفلسطينية. إلا أن الشعوب في البلدان العربية والإسلامية، فقد كانت تحركاتها محتشمة في بعض الدول ومنعدمة في دول أخرى بالرغم من اتصال جغرافيا وتاريخ هذه الشعوب بفلسطين، فما هو مرد ذلك وهل من استفاقة؟
لقد أتيحت للشعوب العربية فرصة تاريخية لتغيير أوضاعها واسترداد حقوقها بتغيير أنظمة بلدانها الفاسدة والديكتاتورية وإقامة أنظمة قوامها الحرية والعدالة والمساواة فتعالت أمواج الثورة وامتدت انطلاقا من تونس وطالت عدة بلدان أخرى وحلمت الشعوب وطمحت إلى غد أفضل. فسقطت أنظمة ولكن لم يسقط منها إلا شكلها وبقي جوهرها صلبا معادية لشعوبها بفئاتها الضعيفة وطبقاتها المطحونة. أما بخصوص القضية الفلسطينية فإن هذه الشعوب ورغم متابعتها عن قرب للأحداث الجارية، ورغم شعورها بالقهر نتيجة العجز، فقد كانت مساهماتها ضئيلة ومتفرقة وغير ذات فاعلية، خلافا لبقية شعوب العالم الذين شاركوا بكثافة وبصورة قوية تضامنا مع أهل غزة فيما يلاقونه من شتى أنواع التقتيل والتشريد والتجويع من طرف الكيان الصهيوني بمشاركة أمريكية مفضوحة وبتواطؤ عربي إسلامي رسمي خسيس.
إن هذه الشعوب، وإن تحركت وحاولت بشتى الطرق إيقاف العدوان على قطاع غزة وفرض إدخال المساعدات الإنسانية، فان ذلك يبقى دون المستوى المطلوب ويمكن أن يعزى ذلك إلى كونها – وخاصة منها التي طالتها الثورة – عانت الفقر والتهميش في ظل نظام استبدادي يقمع الحريات ويهضم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وضاع أملها في التغيير وتحقيق العيش الكريم وسرعان ما تبخر الحلم وانقلب إلى كوابيس مثلما انقلبت أنظمة ما بعد الثورة على الثورة نفسها وأغرقت شعوبها في مشاكل وأزمات جعلتها تنكفئ على نفسها ولا تُقدم على خطوات حاسمة. إن خبرات هذه الشعوب وتجاربها، القديمة منها والحديثة، كفيلة بأن تجعلها تنفض عنها الغبار لمواجهة ما يُعيقها والمساهمة بشكل أكثر فاعلية في إسناد غزة والمقاومة الفلسطينية عموما والوقوف سدّا منيعا أمام ما يُحاك لها ولكافة شعوب المنطقة من مخططات تدميرية تحت مسمّى “الشرق أوسط الكبير”. إن إرادة الحياة مهما تقهقرت فإنها دائما ما تعود بأكثر قوة وتعود الحناجر للصراخ من جديد في وجه الطغاة وتتقد الأرواح وتنهض الأجسام للمقاومة وطرد الطغاة وإحلال السلام كما قال شاعرنا أبو القاسم الشابي:
“حذار فتحت الرماد اللهيب *** ومن يبذر الشوك يجني الجراح
سيجرفك السيل سيل الدماء *** ويأكلك العاصف المشتعل”
هكذا هي الحياة تأبى الظلام وتولد من رحم الموت فلا بد لهذه الشعوب من استفاقة ونهوض من سباتها العميق وتقرير مصيرها باستقلالية دونما وصاية عليها ولن يكون ذلك ألا بإسقاط أنظمتنا الرجعية العميلة وتغيير جوهر السلطة ولا تكتفي بتغيير شكلها نحو إرساء نظام وطني شعبي ديمقراطي يواجه الاستعمار والاستغلال الامبريالي والصهيوني وإلا فإننا لن نجد وطنا حرا يأوينا مثلما قال شاعرنا أبو القاسم الشابي:
“ومن لم يعانقه شوق الحياة *** تبخر في جوّها واندثر”
صوت الشعب صوت الحقيقة
