الرئيسية / صوت العالم / بين تاريخ النِّزاعات الأوروبية القديمة وواقع الخلافات الراهنة: أوروبا.. مسرح لصراعات قديمة جديدة تهدّد وحدتها
بين تاريخ النِّزاعات الأوروبية القديمة وواقع الخلافات الراهنة: أوروبا.. مسرح لصراعات قديمة جديدة تهدّد وحدتها

بين تاريخ النِّزاعات الأوروبية القديمة وواقع الخلافات الراهنة: أوروبا.. مسرح لصراعات قديمة جديدة تهدّد وحدتها

بقلم سمير جراي

قبيل الغزو الأمريكي الهمجي للعراق سنة 2003 قال وزير الدفاع الأمريكي حينها، دونالد رامسفيلد، في مؤتمر صحفي قبل شهرين من انطلاق العدوان، ردا على سؤال بخصوص معارضة فرنسا وألمانيا للحرب، قال إن: “المشكلة مع الاتحاد الأوروبي ليست متعلقة بأوروبا الجديدة إنما أساس الإشكال مع أوروبا القديمة.”

هذا التوصيف الشهير آناذاك أثار الجدل والسخط لدى الأوروبيين، ورأى فيه بعضهم مساع أمريكية لبث الفرقة والخلافات بين دول الاتحاد وشق وحدة الصفّ الأوروبي.

كان الأمر وقتئذ يتعلق بمخاوف وانعكاسات الحروب التي تشارك فيها أوروبا خارج حدودها، وأساسا بالحرب على العراق التي عارضتها فرنسا وألمانيا (وهو ما قصده رامسفيلد بأوروبا القديمة) فيما أيدتها “أوروبا الجديدة” كما سمها (أوروبا الوسطى والشرقية).

انقسام الاتحاد الأوروبي أيام الحرب على العراق، وما أصبح يسمى بأوروبا الجديدة والقديمة (المعسكر التقليدي خاصة فرنسا وألمانيا مقابل حلفاء أمريكا الجدد ما بعد الشيوعية بقيادة بولندا) عاد إلى الظهور ولكن لأسباب داخلية مع اندلاع حرب روسيا على أوكرانيا.

قال رئيس الوزراء البولندي ماتيوس موراويكي في اجتماع ثنائي مع نائبة الرئيس الأميركي السابق كامالا هاريس في أفريل سنة 2023: “أوروبا القديمة تؤمن باتفاقية مع روسيا، وأوروبا القديمة فشلت، لكن توجد أوروبا جديدة، أوروبا تتذكر ما كانت عليه الشيوعية الروسية، وبولندا زعيمة أوروبا الجديدة.”

تبدو الخلافات جلية بين دول الاتحاد، فبولندا التي تريد أن تكون قائد إقليمي في سياسة أمنيّة أوروبية أكثر صرامة تجاه روسيا، وتدفع نحو زيادة الإنفاق الدفاعي والتقارب مع الولايات المتحدة، فيما تبدو دول أخرى أكثر لطافة مثل فرنسا التي تسعى إلى حلول دبلوماسية مع روسيا، هذا التباين ينتج مسرحا لخلافات قديمة جديدة على الساحة الأوروبية.

الحرب في أوكرانيا واستراتيجية إحياء مناطق النفوذ

لم تكن فكرة الأمن الأوروبي سابقا كما أصبحت عليه اليوم، فمنذ بداية حرب روسيا – أوكرانيا، تغيرت مفاهيم وتعريفات الأمن الأوروبي، وأعادت إلى الواجهة مسألة الحدود والنفوذ، واستراتيجيات الدفاع المشترك مع تطوّر العمليات العسكرية والتهديدات المتزايدة، وتأثيرتها على سوق الطاقة العالمية وأمن الإمدادات، وهو ما يدفع بالدول الأوروبية إلى البحث عن بدائل جديدة وتعزيز تحالفاتها من داخل وخارج القارة.

كل هذه المخاوف والتهديدات، أدت إلى أرتفاع كبير في الاستثمارات الدفاعية لدول الاتحاد، مع مصاريف إنفاق قياسية وإعادة النظر في طرق وأولويات صناعات الدفاع. توجه يعكس إدراكا بأن الاعتماد الكلي على الضمانات الأمنية التقليدية ومنها الاعتماد على الولايات المتحدة وحلف الناتو لم يعد كافيا، إلا أن كل هذا يواجه عقبات داخلية بسبب الخلافات ورفض الدول المحافظة ماليا (ألمانيا/هولاندا/السويد/ فنلندا..) أهداف هذا التوجه، وهو ما يثير مخاوف دول أخرى بشأن تحقيق القدرة الدفاعية الأوروبية، ومازالت الخلافات في تصاعد لأن الدول المحافظة ماليا لا ترغب في إصدار ديون جديدة مشتركة، وتعتبر أن تمويل الإنفاق الدفاعي هو استجابة سياسية للتحديات الهيكلية، ولا يستجيب لحجم الأزمة، خاصة مع العجز عن تلبية احتياجات أوكرانيا في حربها مع روسيا.

حكومة فنلندا من جهتها استاءت ورفضت منذ مدة اقتراح المفوضية الأوروبية الذي يسمح باتخاذ مزيد من الديون المشتركة في ميزانية 2028–2034، وذهبت إلى حد التهديد بأنها مستعدة للوقوف بمفردها ضد هذا الاقتراح إذا لزم الأمر.

مع هذه الأزمات المالية والدفاعية تعاني أوروبا من الوحدة غير الفعالة بل يعتبر عدة خبراء أن هذه الوحدة مهددة بالزوال، ولذلك تدافع بعض الدول على استجابة الاتحاد للقرارات الوطنية لدوله باعتبارها أكثر فعالية.

نستنتج بالقول إن الصراع الجيوسياسي داخل أوروبا نفسها، والتنافس الاقتصادي على موارد الطاقة، والانقسامات الداخلية بين ما يُسمى “أوروبا القديمة” المتمسكة بالدبلوماسية، و”أوروبا الجديدة” الأكثر تشددا حيال موسكو. ليست وليدة اللحظة، فهي إعادة لإنتاج أنماط قديمة من التنافس على الحدود والنفوذ.

الحركات اليمنية والشعبوية والمواطنة والهجرة ملفات تعمّق الانقسامات

من جهة أخرى تتصاعد شعبية الأحزاب اليمينية المتطرفة والقومية والحركات الشعبوية في عدد من الدول الأوروبية، مثل المجر وبولندا وإيطاليا وفرنسا، وهو ما يزيد في حجم التحديات السياسية الداخلية، وقد يؤدي عبر الضغوط المتزايدة إلى إعادة التفكير في الاتحاد الأوروبي ككتلة موحّدة.

هناك إشكاليات أخرى تمثّل أزمات يصعب حلّها وهي إشكاليات تؤشر إلى بعد آخر من الصراع الداخلي الأوروبي، وأهمه الخلافات العميقة في السياسات المتبعة في ملف الهجرة، وهو ما يتوضح جليا في الاتهامات المتبادلة بين إيطاليا وفرنسا والذي وصل حدّ القطيعة في عدة مناسبات، فضلا عن الاتهمات التي توجّهها بعض دول أوروبا الشرقية إلى الشق الغربي بأنه يتركها وحيدة في مواجهة موجات الهجرة وتبعاتها على استقرار وأمن حدودها.

هذا إضافة إلى مسألة المواطنة، وما إشكالية احترام سيادة بعض دول الاتحاد والممارسات الديمقراطية، ولنا هنا أن نأخذ مثال الخلاف بين هنغاريا والتشيك فالأولى واجهت انتقادات داخل الاتحاد الأوروبي بسبب انتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان واستهداف المعارضين، ما جعل عدة جهات تشيكية تسعى إلى أن تكون الطرف الثالث في قضية لدى محكمة العدل الأوروبية ضد قانون “حماية السيادة الهنغارية”، وهو دليل على أن خلافات بشأن القوانين والممارسة الديمقراطية الداخلية أصبحت تتعدى حدود الدولة الواحدة إلى قضايا أوروبية مشتركة تثير الانقسامات، ولا تخلق فقط صراعات سياسية داخلية، بل تفجّر أيضا فجوة بين دول الاتحاد حول القيم المشتركة والسياسات المتفق عليها.

الاتحاد الأوروبي صراعات كامنة منذ التأسيس بدأت تطفو على السطح

عند تأسيس الاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من القرن الماضي كمشروع قوة اقتصادية ومالية، بقيت الصراعات كامنة، ففكرة “أوروبا القديمة” و”أوروبا الجديدة”، التي أعاد رئيس الوزراء البولندي إحياءها، تعكس الانقسامات التاريخية، وهذه الذاكرة الجماعية للصراعات تجعل الأزمة الحالية مرجحة لمزيد الخلافات والتنافر.

تنافر تغذيه الحرب الروسية الأوكرانية وهنا يبرز البعد الاقتصادي كعامل رئيسي يؤجج الخلافات، فقد شكّلت أزمة النفط والغاز مع تزايد الصراع العسكري اختبارا صعبا للاتحاد فدول مثل ألمانيا تعتمد على الطاقة الروسية بشكل أساسي، فيما اتجهت بولندا ودول البلطيق إلى التخلي على هذا الارتهان بشكل متسارع، وتمثّل المنافسة على الأسواق والتكنولوجيا أحد محاور الصراع الأوروبي الداخلي، ومع انحسار النفوذ الاقتصادي التقليدي للقارة أمام الولايات المتحدة والصين، تصبح أوروبا معرّضة أكثر فأكثر إلى هشاشة وضعها الاقتصادي وعرضة أكثر لصراعات داخلية متفاقمة.

حلف الناتو وتراجع القدرات الدفاعية الأوروبية

أمام التهديد الروسي كان لحلف شمال الأطلسي الدور الأكثر فاعلية في مواجهة الدبّ الروسي، دور كشف فجوة في القدرات الدفاعية الأوروبية واعتمادها الكبير على الولايات المتحدة، مع الصعوبة التي يواجهها الاتحاد في بلورة سياسة خارجية موحّدة، بسبب تباين مصالح أعضائه بشكل متزامن مع تطورات سياقات الأوضاع الدولية، وذلك يشمل حتى الهبة الشعبية المواطنية التي تعرفها أغلب الدول الأوروبية مناصرة لفلسطين وغزة ضد حرب الإبادة الصهيونية.

ويبرز هنا جليا الخلاف حول توجهات السياسة الخارجية الأوروبية تجاه الكيان الصهيوني والعقوبات التي تتخذها بعض الدول مثل إسبانيا وموقفها المشرف من حرب الإبادة في غزة، كما أن الاعتراف الأخير من فرنسا بدولة فلسطينية، أثار الجدل داخل الاتحاد فبعض الحكومات تميل لإجراءات عقابية ضد الكيان، في حين تتحفظ دول أخرى مثل ألمانيا والمجر على معاقبته ومعاداته، وللاحتجاجات الشعبية المتزايدة لأحرار هذه الدول والحركات الرافضة لتوجه حكوماتهم في دعم الكيان أمر حاسم وله تداعياته المباشرة كما نراها يوميا.

من ناحية أخرى مازال الملف النووي الإيراني وسياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب فيما يتعلق بالمحاصرة الاقتصادية والرسوم الجمركية ضد الدول الأوروبية، وما تشهده الصين من تطورات تكنولوجية وقفزات اقتصادية أصبحت تهدد بشكل جدي كل المصالح الأوروبية داخل الاتحاد وخارجه، مازالت كلها تمثل تحديا آخر ينعكس مباشرة على الأزمات الداخلية، وهكذا أصبحت أوروبا مسرحا لصراعات ليست فقط مع قوى خارجية، بل أيضا مع ذاتها وهويتها السياسية والثقافية.

تأثير الصراعات الدولية

هذه الصراعات الداخلية وتداعياتها ليست الوحيدة التي تهدد القارة العجوز فهي لم تعد في منأى عن التدخلات الخارجية ولا حتى عن الصراعات العسكرية بل أصبحت أيضا ساحة مغرية لتنافس بقية القوى الكبرى، مثلما كانت عليه الأوضاع خلال الحرب الباردة.

فهذه الصراعات القديمة الجديدة مع تزايد التنافس بين الولايات المتحدة والصين وطول حرب روسيا وأوكرانيا يجعل أوروبا بين كماشات واشنطن والصين وروسيا، وأصبح لعب دور الطرف المستقل غير متاح بالنسبة لها، وفي الوقت نفسه، يمثّل وجودها في قلب صراع عالمي ثلاثي الأبعاد مؤذنا بتفاقم أزماتها الداخلية وتغذية نزعات صراعاتها القديمة المتجددة، بما يجعلها أسيرة تاريخها لتعود مسرحا لصراعات لا تنتهي.

إلى الأعلى
×