كما كان منتظرا وبمجرد الاقتراب من المياه الإقليمية لفلسطين المحتلة، قامت عصابات البحرية الصهيونية باستهداف أسطول الصمود الذي يضم حوالي 500 مشارك من حرائر وأحرار العالم، من أكثر من 40 بلدا، جاؤوا لكسر الحصار على غزة ونصرة الشعب الفلسطيني الذي يتعرّض منذ عامين يوما بيوم إلى حرب إبادة وحشية قلّ نظيرها في التاريخ، حرب إبادة استعملت فيها كلّ الأسلحة بما فيها سلاح التجويع والتّعطيش والحرمان من الدواء، وهي تجري بمختلف تفاصيلها على الهواء مباشرة وأمام أنظار العالم الذي يقف عاجزا عن إيقاف الجريمة لأن المجرم مسنود دون قيد أو شرط بالمجرم الأكبر، كوبوي البيت الأبيض، الفاشي ترامب، الذي ترتكب كل الجرائم على أرض فلسطين وأجوارها باسمه وبدعمه وتوجيهاته.
قام العسكر الصهيوني باعتقال الحرائر والأحرار ونقلهم فورا إلى ميناء “أسدود” أين كان ينتظرهم النازي المسعور “بن غفير” الذي يمثّل اليوم نموذجا حيّا للجلّاد السادي، فهو من طينة أكلة لحوم البشر ذوي الولع المرضي بالتشفّي والانتقام ناهيك أنّه يقضي الوقت في زيارة المحتشدات النازية لكيان الاحتلال أين يريد أن يرى بأمّ عينه الأسرى المجوّعين وقد نتأت عظامهم من جلودهم، كما أنّه يتعمّد تصوير هذه المشاهد ونقلها إلى العالم متغافلا بغباء كل المحتلين والفاشيست والغزاة عن أنّ هذه المشاهد إنّما تقدّم الأدلّة القطعيّة على حجم جرائم الاحتلال وطبيعته الوحشيّة وبالتالي تعبّئ الرأي العام الشعبي على المستوى العالمي، وهو الحاصل اليوم مع أسطول الصّمود الذي يتعرّض لإرهاب الصهاينة وعربدتهم.
لقد تحرّكت الشوارع والساحات على طول الكرة الأرضية وعرضها بما فيها في بلادنا التي استعاد فيها الشارع وهجه الذي ظل في المدة المنقضية ضعيف الأداء، نصرة لغزّة وأسطول كسر الحصار عنها. خرج الأحرار في بلادنا في مختلف الجهات للاحتجاج والتنديد واستعاد الطلاب والتلاميذ والنشطاء حيويتهم المعهودة واتجه المحتجون في العاصمة إلى سفارة العدو الأمريكي أين انطلق اعتصام أمام مقرّها تكريسا لقناعة أنّ أفضل ما يمكن تقديمه هو محاصرة سفارات الدول المعتدية، كيان الاحتلال أينما وجدت بعثاته، والدولة الراعية للإرهاب التي يجب تعبئة شعوب العالم ضدّ سياساتها الامبريالية المتوحشة.
أما في بقية أنحاء العالم فقد كان ردّ الأحرار صارما وحازما إذ خرجت المظاهرات وانتظمت التجمعات الاحتجاجية في عشرات العواصم والمدن الكبيرة في مختلف القارات. وفي هذا السياق أعلنت نقابات إيطالية الإضراب العام في القطاعين العام والخاص يوم الجمعة الثالث من أكتوبر مستعيدة أمجاد الطبقة العاملة الإيطالية في نضالها العنيد ضدّ الفاشية القديمة والجديدة، كما ربطت الطبقة العاملة الفرنسية بين مطالب إضراباتها ضدّ ميزانية التفقير لحكومة اليمين ومساندة الشعب الفلسطيني والتنديد بسياسات ماكرون الامبريالية المتواطئة مع كيان الاحتلال. وفي كولومبيا أعلن الرئيس بيترو أوريغو طرد البعثة الدبلوماسية الصهيونية وإلغاء كل الاتفاقيات التجارية مع العدو وذلك على خلفية العدوان على الأسطول، ومن جهتها أعلنت حكومة البرازيل الالتحاق بالدول التي رفعت قضايا تتبّع في المحكمة الجنائية الدولية ضدّ قادة كيان الاحتلال أمّا الحكومة الإسبانية فقد ألغت عددا من عقود شراء أسلحة من الكيان تفوق قيمتها مليار يورو… الخ.
مقابل كل هذا برز الحكام العرب، ملوكا ورؤساء وأمراء بتواطؤهم الذي بلغ حدّا مهزليا غير مسبوق في تاريخ الخيانة الرسمية العربية. فالقاصي والداني يعلم أنّ الطرف المساندة بقوة للمجرم ناتنياهو كي يبيد غزة ليس سوى نظامي السعودية والإمارات، وأنّ مكرّس الحصار القاتل على غزة ليس سوى نظام السيسي، وأنّ خط المدد البري لكيان الاحتلال يعبر أغلب إمارات الخليج لينفذ عبر الأردن. كما شاهد العالم بأمّ عينه تحرّك قوات القمع في العاصمة الجزائر لإيقاف متظاهرين خرجوا حال علمهم بالاعتداء على أسطول الحرية، بما يسحب ورقة التوت نهائيا عن النظام الاستبدادي في الجزائر الذي لم يقدّم لفلسطين إلا الخطب وعينه على وضعه الداخلي لأنه يعي جيدا أنّ خروج الجماهير إلى الشارع لن يجعلها تعود إلى بيوتها وأنّها ستستعيد ملحمة الانتفاضة الشعبية لسنة 2020 التي أطاحت ببوتفليقة ولم تكمل مهمة تصفية الدكتاتورية وحكم العسكر لحساب نظام ديمقراطي وطني.
أمّا في تونس، بلد الغرائب والعجائب الشعبويّة، التي أجهض رأس نظامها كل مسعى لاستصدار قانون يجرّم التطبيع مع الكيان رغم الشعارات “القصووية” التي يرفعها (“تحرير فلسطين من النهر إلى البحر” و”التطبيع خيانة عظمى”…) فها هو اليوم يصمت صمتا يثير القرف إزاء الاعتداء على أسطول الصمود الذي يوجد من بين المشاركين فيه ما يقرب من الـ28 من مواطنينا. وهو نفس الصمت المقرف الذي لازمه تجاه الاعتداء الأول على هذا الأسطول وهو مازال راسيا في ميناء سيدي بوسعيد على بعد مئات الأمتار عن قصر قرطاج. لقد تحدّث كل العالم عن هذا الاعتداء بما في ذلك في الأمم المتحدة ومجلس الأمن إلّا عندنا هنا وهو عين الجبن.
إنّ هذا الصمت ليس سوى الدليل القطعي على حقيقة علاقة نظام سعيد بالقضية الفلسطينية التي لا تتجاوز التوظيف الرخيص لمغالطة الشعب لا غير. إنّ نظام سعيد جزء من نظام العمالة العربية الذي لا يهمّ حكامه سوى عروشهم المهددة اليوم سواء من الامبريالية الأمريكية ذاتها التي تريد إعادة تشكيل المنطقة بما في ذلك حدود الأقطار وسكان القصور، أو من الغضب القادم من الشعوب المقهورة التي بدأت تعلي الصوت انطلاقا من المغرب الأقصى هذه المرة وهو وكر من أهمّ أوكار العمالة والتطبيع.
إنّ اللحظة التاريخية دقيقة سواء من جهة حجم الهجوم الإجرامي على الشعب الفلسطيني أو من جهة مؤشرات النهوض الشعبي في بلدان “المركز” و”الأطراف” لصالح القضية الفلسطينية وهو نهوض يغذّيه الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني ومقاومته. إنّ موقعنا وموقع شعبنا وقواه التقدمية لن يكون إلا مع فلسطين وشعبها ومقاومتها. فلسطين التي تتعرّض الآن إلى مؤامرة صهيو-أمريكية مسنودة دون تحفظ من الدول العربية والإسلامية عبر ما يُسمّى “خطة ترامب” التي تريد فرض التهجير والإذلال والهزيمة وتكريس السيطرة الصهيونية لا على فلسطين المحتلة فحسب بل على مجمل المنطقة في إطار مشروع “إسرائيل الكبرى”هذا الوهم الصهيوني الذي يعتبر عتاته أنّ الفرصة التاريخية ملائمة لتكريسه.
لكن الشعب الفلسطيني ومقاومته الوطنية الصامدة وشعوب العالم وقواه التقدمية تعتبر أنّ اللحظة رغم هول التقتيل هي لحظة التعبئة الأممية الشاملة لعزل كيان الاحتلال على مختلف الأصعدة والضغط العالي على مسانديه والمتواطئين معه وهو ما بدأ يتحقق في عديد البلدان كخطوة مهمة على درب تعبيد النصر للشعب الفلسطيني كما تمّ سابقا مع شعوب الفيتنام والجزائر وجنوب إفريقيا… حيث كانت الفاتورة باهظة جدا، لكن عدالة القضية والصمود والإصرار كانت لها الكلمة الفصل وهو ما سيتمّ مع شعب الجبارين، شعب الصمود الأسطوري.
إنّ أهم ما يمكن أن نقدمه اليوم للشعب الفلسطيني، عدا مواصلة التحرّك للإسناد والضغط من أجل وقف حرب الإبادة وانسحاب جيش الاحتلال من غزّة وفتح المعابر كلها لإدخال المساعدات ومحاكمة مرتكبي جرائم الإبادة وعلى رأسهم القادة الصهاينة وداعموهم من بايدن إلى ترامب وماكرون وغيرهم، هو فرض تجريم التطبيع مع كيان الاحتلال وهو ما ندعو شعب تونس وقواه الحرة إلى التعبئة حوله والشروع الآن وهنا في العمل من أجله.
كما نتوجه إلى أحرار العالم بنداء إلى مواصلة دعم الشعب الفلسطيني من جهة، ومن جهة أخرى إلى التعبئة من أجل فرض اعتبار الصهيونية نازية جديدة وميزا عنصريا وعقيدة معادية للإنسانية كما كان ينصّ على ذلك القرار 3379 الصادر عن الأمم المتحدة في 10 نوفمبر 1975 والذي أُلغي في 16 ديسمبر 1992 في إطار الإعداد حينها لـ”مؤتمر مدريد للسلام”.
صوت الشعب صوت الحقيقة
