بعد ستة أشهر من حكومة سارة الزعفراني
بقلم جيهان اللواتي
مرّت ستة أشهر على تولّي سارة الزعفراني الزنزري رئاسة الحكومة لتشكل الحكومة الرابعة في عهد الرئيس قيس سعيد منذ أحداث 25 جويلية 2021 ومع ذلك يستمرّ الصمت الإعلامي الذي يلفّ أداء هذه الحكومة ممّا يعكس امتداداً واضحاً لأسلوب سعيد نفسه الذي يفضل الاجتماعات المغلقة على المؤتمرات الصحفية المنتظمة والتواصل الشفاف مع الرأي العام.
هذا الصمت ليس مجرد غياب عن الظهور الإعلامي بل هو سياسة ممنهجة تعزز من تهميش القطاع الصحفي في ظل تحديات اقتصادية واجتماعية متفاقمة.
الصمت الحكومي يفتح أبواب التأويل والأخبار المظللة
منذ توليها المنصب اقتصر تواصل حكومة الزعفراني على نشاطات محدودة وبيانات رسمية مقتضبة مثل تلك المتعلقة بزيارتها إلى مصر في سبتمبر 2025 حيث ألقت كلمة في مؤتمر صحفي مشترك ناقشت فيه التعاون الاقتصادي ومشروع قانون المالية لعام 2026. لكن هذا النشاط يبقى غير كافٍ إذ يغلب عليه الطابع الدبلوماسي دون الرد على الأسئلة الداخلية الحرجة مثل ارتفاع التضخم أو مشكلات الطاقة.هذا الصمت يعزز الشعور بالعزلة بين الحكومة والمواطنين.
في سياق أوسع يعكس هذا النمط تراجعاً في الشفافية الحكومية حيث أصبح التواصل الإعلامي مقتصراً على بيانات رسمية مقتضبة دون فرص حقيقية للحوار أو الاستجواب.
هذا الأسلوب ليس جديداً فقد بدأ مع حكومات سابقة ومع الزعفراني يبدو أكثر رسوخاً.
صعوبات القطاع الصحفي: قمع ممنهج وتراجع في حرية التعبير
يواجه القطاع الصحفي في تونس أزمة عميقة تتجاوز الصمت الحكومي لتشمل قمعاً ممنهجاً يهدد جوهر حرية الصحافة. فقد تراجعت تونس في تصنيفات حرية الصحافة العالمية بسبب الضغوط المتزايدة على الصحفيين حيث أصبح ترهيبهم أمراً مألوفاً مع اعتقالات ومحاكمات بسبب عملهم. هذه الصعوبات تتجلى في عدة أشكال:
أولاً الرقابة الإعلامية المباشرة حيث أدّى إيقاف البرامج السياسية إلى إغلاق مساحات النقاش العام ممّا يعني أنّ حرية الصحافة أصبحت في حالة احتضار.
ثانياً الاعتداءات الأمنية على الصحفيين أثناء تغطيتهم للاحتجاجات ممّا يعكس مناخاً من القمع.
ثالثاً التشريعات القمعية التي تُستخدم لمحاكمة الصحفيين بتهم فضفاضة كـ”الإساءة إلى كرامة الأشخاص” أو “ترويج المعلومات المضللة” رغم أنّ دستور 2022 أكد على حرية التعبير في فصله 37.
هذا التهميش يفاقم من التحديات الاقتصادية للقطاع حيث أدّى عدم توافر المعلومات الرسمية إلى تضييق هامش الحرية وتدهور جودة الإعلام.
صحفيون/ات بلا هوية
تغيّب إصدار بطاقة الصحفي المحترف للسنة الحالية يضعف قدرة الصحفيين/ات على مراقبة السلطة ويُعدّ الفصل الأول في حبكة سردية للقمع الإعلامي. كذلك تعطيل اعتماد المراسلين/ات بالمواقع والقنوات الدولية حيث يواجه مراسلو/ات وسائل الإعلام الدولية من مواقع إخبارية وقنوات قيوداً حقيقية تمنعهم من أداء دورهم، فمن رفض التراخيص إلى منع الوصول إلى الأحداث في سياسة تُذكرنا بممارسات قديمة شعارها “تدجين” الإعلام الدولي.
تواصل تجميد هيئة الاتصال السمعي البصري (HAICA): شلل التنظيم الإعلامي المستقل
يستمر تجميد الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري (HAICA) التي أُحدثت كركيزة للتنظيم الإعلامي بعد الثورة في إظهار عجز الحكومة عن حماية استقلالية القطاع. منذ 2023 أدّى إحالة رئيس الهيئة على التقاعد دون تعيين بديل وتجميد أجور أعضائها إلى شلل كامل يمنع منح التراخيص ومراقبة المحتوى. هذا التجميد فتح الباب للانتهاكات وعزّز السيطرة الحكومية و الهدف منه إلغاء الرقابة المستقلة.
ضرب هيئة النفاذ إلى المعلومة: إجهاض حق الوصول إلى المعلومات
بلغت الانتهاكات ذروتها في جويلية 2025 بإغلاق مقر هيئة النفاذ إلى المعلومة وهو حق أساسي كفلته الثورة لضمان الشفافية.
النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين نددت بدورها بهذا الإجراء واعتبرته “ضربة قاضية” لمبدأ الوصول إلى المعلومات. كما تمّ نقل الموظفين بالهيئة إلى رئاسة الحكومة وهو ما يكشف عن سيطرة مركزية تهدف إلى تعطيل عمل الصحفيين ممّا يعمّق التعتيم ويُعدّ نقطة تحوّل حاسمة نحو نظام إعلامي مغلق.
مواصلة العمل بالمرسوم 54: أداة قمعية لملاحقة الصحفيين
يُعدّ استمرار تطبيق المرسوم عدد 54 المتعلق بالجرائم الإلكترونية أحد أبرز مظاهر القمع الإعلامي حيث واصلت حكومة سارة الزعفراني العمل به رغم أنّ القاعدة القانونية تسمح باستخدام النص الخاص مع وجود المرسوم 115 المؤطر للمهنة الصحفية بدلا من النص العام قاعدة “الخاص يقيّد العام ” واستمرار العمل به يعكس رفض الحكومة لأيّ إصلاح ممّا يجعله سلاحاً قانونياً لهرسلة الصحفيين وتعزيز الرقابة على حساباتهم الشخصية عبر الإنترنت.
مواصلة المنشور 19: تقييد التواصل وتكريس الرقابة المركزية
يستمر تطبيق المنشور 19 لسنة 2021 الذي يقيّد تصريحات المسؤولين دون تنسيق مسبق مع الحكومة الحالية كأداة للرقابة المركزية على التواصل الحكومي. وصفه الصحفيون “تضييق على حرية التعبير” وضرب لحق المواطن الدستوري في المعلومة حيث يحول التواصل إلى قناة واحدة تخدم السلطة.
تغريق المؤسسات الإعلامية الخاصة في الديون: تدمير الاقتصاد الإعلامي
تتزامن كل هذه النقاط مع الأزمة الاقتصادية في المؤسسات الإعلامية الخاصة حيث تواجه هذه المؤسسات ديوناً خانقة تفاقمت خلال هذه السنة بسبب غياب الدعم وسياسات تقييد الإعلانات.
على الرغم من المناقشات الوزارية فإن غياب الحلول الملموسة يدفع هذه المؤسسات نحو الإفلاس أو الخضوع للسلطة.
هذا التغريق الاقتصادي كما وثقته تقارير نقابية صحفية ليس مجرد أزمة مالية بل أداة لتقويض التنوع الإعلامي ممّا يعزز السيطرة الحكومية على السرد الإخباري.
تغييب حضور الإعلام الخاص والاقتصار على الإعلام العمومي: خنق التنوع الإعلامي
تواصل الحكومة الحالية سياسة انتقائية حيث تقتصر التغطيات الإعلامية في الندوات الكبرى على الإعلام العمومي مغيبةً الإعلام الخاص فضلا عن إيقاف البرامج الحوارية ممّا يخلق فراغاً في الخطاب العام يعزز الهيمنة الحكومية ويُعدّ فصلا ثالثاً في التعتيم الممنهج الذي يهدف إلى تحجيم النقاش العام.
ختاما كشفت الأشهر الستة الماضية عن حصيلة ثقيلة لأزمة قطاع الإعلام متشابكة مع مشهد سياسي واقتصادي واجتماعي مبتور في غياب سياسات عمومية واضحة ممّا يهدد بفقدان المكسب الوحيد للثورة التونسية.
صوت الشعب صوت الحقيقة
