الرئيسية / صوت العالم / منظومة حقوق الإنسان إلى أين؟
منظومة حقوق الإنسان إلى أين؟

منظومة حقوق الإنسان إلى أين؟

بقلم علي البعزاوي

لئن ارتبطت منظومة حقوق الإنسان بظهور الرأسمالية بديلا عن النظام الإقطاعي حيث وقع الفصل بين الدين والسياسية، وأطلقت الحريات الفردية والعامة، ووقع إرساء منظومة انتخابية تتيح للجميع نساء ورجالا الحق في الترشح للهيئات التمثيلية ولمختلف مواقع المسؤولية في الدولة والحق في الانتخاب، إلى جانب تشكيل الجمعيات والمنظمات والأحزاب التي لعبت دورا في تنشيط الشأن العام وإقبال المواطنات والمواطنين على المشاركة وتحمّل المسؤولية… فإن هذا المشهد سرعان ما تراجع وخفت بريق حقوق الإنسان ليحلّ القهر والظلم والتضييق على الحريات واستباحة الدول ومقدرات شعوبها وثرواتها وتراجع إقبال المواطنين على المشاركة في الشأن العام قبل أن يتطور هذا الموقف إلى مستوى الرفض للديمقراطية التمثيلية الليبرالية والمقاطعة الواسعة لانتخاباتها قناعة منهم بأنها سبب الأزمة العامة التي باتت تنخر الرأسمالية في مرحلتها الامبريالية. بينما تعود الأزمة في الحقيقة لأسباب هيكلية تتعلق بالرأسمالية ذاتها وبطبيعة التناقضات التي تشقها وهي تناقضات مستعصية الحل ولا تُعالَج إلا بالقضاء على الرأسمالية بعد أن تعفنت وأصبحت غير قادرة على إعالة الشعوب والاستجابة لمطالبها.

الامبريالية معادية لحقوق الإنسان

لقد ازدهرت حقوق الإنسان وتطورت خلال المرحلة التنافسية للرأسمالية أي قبل ظهور تمركز الرأسمال لدى أقلية من كبار الرأسماليين وظهور الشركات العملاقة العابرة للقارات. في هذه المرحلة الأولى من الرأسمالية حيث غابت الاحتكارات ظلت المنافسة حرة والحظوظ متساوية بين مواطني/ات البلد الواحد. وكان الشعار السائد في تلك المرحلة “دعه يفعل دعه يمرّ”. أي أن إمكانية العمل وتحقيق الأرباح وإنتاج الثروة متاح للجميع دون تمييز طرف على طرف آخر. لكن مع اندماج الرأسمال البنكي مع الرأسمال الصناعي الناشئ وظهور الرأسمال المالي انطلق مسار التضييق على حرية النشاط الاقتصادي وعلى الحريات عموما. وبات الشأن العام خاضعا لحسابات ومصالح الاحتكارات التي تفرض في مختلف الانتخابات مرشحين محددين قادرين على هندسة السياسة والاقتصاد والقوانين بما يطلق أيدي هذه الاحتكارات ويمكّنها من مزيد الاستغلال والهيمنة على الأسواق ودهورة ظروف العمل وحتى الدوس على القوانين قبل مراجعتها وسن أخرى تساعد أكثر على تكثيف الأرباح.

لقد باتت الانتخابات في ظل الرأسمالية محكومة بالمال الرأسمالي الفاسد وبالإعلام الموجّه بعد أن وقع احتكاره من طرف الشركات العملاقة وأحزابها وموظفيها وكلاب حراستها من أشباه المثقفين إلى درجة أنّ هذه الانتخابات أصبحت شكلية يقتصر دورها على “اختيار” من سيخدم أكثر مصالح كبار الرأسماليين على حساب قوة العمل. هذه الانتخابات بهذه المواصفات وفي مثل هذه الظروف لا تسمح طبعا بمرور ممثلي الطبقة العاملة وعموم الكادحين إلا بأعداد قليلة مقارنة بممثلي البورجوازية لأن الانتخابات البورجوازية لم تعد شفافة وحرة ولا توفر حظوظا متساوية لكل المترشحين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية.

الحرب على الشعب الفلسطيني تفضح منظومة حقوق الإنسان

لقد شكلت حرب الإبادة على الشعب الفلسطيني وما اقترفه الكيان الصهيوني من جرائم وحشية تجاه الأطفال والنساء والشيوخ ومن حصار ومنع من دخول الأغذية والأدوية وكل متطلبات الحياة ومن اعتداءات على المستشفيات والجامعات والمدارس والمعاهد وآبار الماء ومحطات الكهرباء وتخريب لقنوات ومعدات الصرف الصحي بما خلق بيئة عالية المخاطر تهدد حياة المتساكنين. هذا بالإضافة إلى استهداف مقرات وموظفي الأونروا (وكالة غوث اللاجئين) التابعة للأمم المتحدة بهدف قتل الشعب الفلسطيني عمدا.

إنّ هذه الجرائم يعاقب عليها القانون الدولي لكن الكيان الصهيوني يفلت من العقاب بتغطية من شريكه في الجرائم، الامبريالية الأمريكية والغربية، عبر استعمال الفيتو ضدّ كل مشاريع العقوبات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي، وحتى في حال مرور بعض العقوبات فإنها لا تجد طريقها للتنفيذ (اعتبار محكمة العدل الدولية رئيس وزراء الكيان ووزير دفاعه مجرمي حرب وجب إيقافهما وتسليمهما للمحكمة). هذه الحماية التي تدوس على القوانين وتستخف بالمنظمات الدولية شكلت ضوءا أخضر للكيان الصهيوني النازي ليتمادى في جرائمه ويوسّعها أملا في تحقيق النصر على المقاومة ونزع سلاحها وطرد وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه.

هذا الواقع الجديد وهذه البربرية الامبريالية والصهيونية حرّكت شعوب العالم بما في ذلك داخل الولايات المتحدة لتهب إلى الشوارع نصرة للشعب الفلسطيني من أجل وقف حرب الإبادة وإدخال الغذاء والماء والدواء بلا عراقيل وعبر منظمات الأمم المتحدة.

عديد المنظمات الحقوقية على غرار العفو الدولية ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان (هيومن رايتس ووتش) والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان والاتحاد الدولي للصحافيين ومنظمة مراسلون بلا حدود ومنظمة أطباء بلا حدود واليونيسيف ووكالة غوث وتشغيل اللاجئين وغيرها رفعت أصواتها عاليا للتنديد بالجرائم ضدّ الأطفال وضدّ الصحافيين وضدّ التجويع الممنهج وضدّ استهداف المنشآت الحيوية والمستشفيات والمدارس والجامعات وغيرها وطالبت بتسليط العقوبات على الكيان الصهيوني ووقف حربه العدوانية على الفلسطينيين لكن دون أن يستجيب ما يسمّى بالمجتمع الدولي لهذه النداءات. إنّ الأنظمة اليمينية الرجعية والفاشية والشعبوية التي تسيطر على حكومات العالم الغربي والقوى الامبريالية الغربية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية هي أنظمة معادية للديمقراطية وتمارس سياسة المكيالين. فإيران من وجهة نظرها نظام دكتاتوري ينتهك حقوق الإنسان وجب تسليط أقصى العقوبات عليه ومنظمة حماس وحزب الله اللبناني كيانان إرهابيان وجب نزع سلاحهما وفرض الاستسلام عليهما في دوس واضح على القانون الدولي الذي يعطي الحق في المقاومة للشعوب التي ترزح تحت الاحتلال. أمّا الكيان الصهيوني وحكومته الفاشية فيعتبر مدرسة للديمقراطية والحداثة وجبت حمايته وإنقاذه من الخطر المحدق به ولم لا مساعدته على تحقيق مشروع إسرائيل الكبرى التي تهيمن على منطقة الشرق الأوسط وتخضعها لمشيئة الامبريالية الغربية لتنهب ثرواتها وتحول دون إتاحة الفرصة لنهوضها وتطورها وازدهارها.

لقد أصبح صوت المنظمات والهيئات الحقوقية العالمية خافتا وخجولا ودون تأثير. وباتت نداءات الأمين العام للأمم المتحدة مجرد ملاحظات لا تؤثر في قرارات مجلس الأمن رغم ما يكتسيه الوضع من خطورة. وقد وصل الصلف بالكيان الصهيوني إلى اعتبار الأمين العام للأمم المتحدة شخصا غير مرغوب فيه والى منع الأونروا من مواصلة توزيع المساعدات في غزة وذلك في إطار سياسة التجويع الممنهج.

هل سقطت منظومة حقوق الإنسان نهائيا؟

إنّ الدور الذي لعبته منظمات حقوق الإنسان في الإعداد للتغيير الديمقراطي في تونس في 2011 وإسناد الحراكات الاحتجاجية في الوطن العربي (السودان، مصر، سوريا…) كان هامّا وذا تأثير. وكانت البيانات الصادرة عن المنظمات الحقوقية العالمية وازنة وقادرة على تعبئة الرأي العام في مختلف البلدان ولعبت دورا في تحييد الدول الكبرى إلى حدّ معين. لكن هذا الدور تراجع في الوقت الحالي وباتت الكلمة العليا للدول الامبريالية المهيمنة على العالم والتي لا تتردد في الدوس على القوانين والمبادئ التي ساهمت في إرسائها وفي إشعال الحروب العدوانية. لقد أصبحت حقوق الإنسان مهمشة وخاصة حق الشعوب في تقرير مصيرها. الكلمة الفصل باتت للأقوى اقتصاديا وعسكريا والقوانين خاضعة لسياسة المكاييل. فهي تطبق كلما تعلق الأمر بالدول التابعة والضعيفة أو المارقة (إيران، سوريا، اليمن…) لكنها تجهض ولا ترى طريق التنفيذ كلما كان المستهدف هذه الدولة الامبريالية أو تلك أو الكيان الصهيوني النازي.

هذا الواقع الجديد يفرض طرح السؤال التالي: هل سقطت منظومة حقوق الإنسان نهائيا وولّى عهدها ودخلت البشرية في مرحلة جديدة عنوانها الكلمة للأقوى؟

نعتقد أنّ حقوق الإنسان رغم كل هذا التراجع ما زالت مطلبا قائما ومهمة للإنجاز لأنها سلاح الشعوب والدول الضعيفة والفقيرة تلوح به وتفضح بمقتضاه المعتدين والمتجاوزين والقائمين بالانتهاكات وهو سلاح يمكن الشعوب والنخب الثورية والتقدمية والوطنية من ممارسة الضغط والمراكمة على طريق تحقيق إنجازات ومكاسب. وهو ما يحصل اليوم حيث استطاعت المنظمات الحقوقية والأحزاب والجمعيات والفعاليات المختلفة تعبئة الرأي العام ضدّ كل أشكال الانتهاكات والدوس على القوانين الدولية من قبل الكيان الصهيوني، وباتت الحكومات الغربية مجبرة على تعديل مواقفها ولو في حدود.

إنّ البورجوازيات المحلية في هذه المرحلة من تطور الرأسمالية ونعني المرحلة الامبريالية التي تتّسم بالعدوانية والصراع المدمر من أجل الهيمنة على مقدرات وثروات الشعوب ومن أجل اقتسام مناطق النفوذ وضرب حركات التحرر وكل النزعات الاستقلالية، لم تعد قادرة سياسيا وعمليا على فرض حقوق الإنسان والالتزام بالقوانين الدولية مثلما تخلت في السابق عن المهام الوطنية وأصبح دورها تبرير التجاوزات والدوس على القوانين والانحناء إلى حين مرور العاصفة. وهو ما لمسناه في القمة العربية والإسلامية المنعقدة أخيرا في الدوحة.

إنّ الشعوب وفي مقدمتها الطبقة العاملة وسائر الكادحين وممثلوها من تنظيمات حزبية ومدنية هي المعنية بصورة أساسية في هذه المرحلة بفرض احترام حقوق الإنسان والقوانين الدولية وتنظيم النضال والتعبئة الواسعة من أجل إنجاز التغييرات الضرورية وفي مقدمتها حق الشعوب في تقرير مصيرها والعيش بسلام والتمتع بخيرات بلدانها في مناخ جديد عنوانه الأبرز التآخي والتعاون المستقل بين الشعوب والأمم. أمّا القوى الامبريالية والفاشية والصهيونية والنازية والرجعيات العميلة فتمثل العقبة الرئيسية أمام تحقيق هذه الأهداف وعلى الشعوب خوض النضالات المنظمة من أجل إسقاطها والتخلص من جبروتها وقهرها نهائيا. إنه طريق الخلاص والتحرر والانعتاق.

إلى الأعلى
×