الرئيسية / الافتتاحية / قابس تنتفض وجواب السلطة: الغاز المسيل للدموع والاعتقال
قابس تنتفض وجواب السلطة: الغاز المسيل للدموع والاعتقال

قابس تنتفض وجواب السلطة: الغاز المسيل للدموع والاعتقال

يعلم القاصي والدّاني في بلادنا حجم الجريمة المرتكبة منذ عقود على حساب جهة قابس وتحديدا مركز الولاية المحاط شرقا بالمركّب الكيمياوي (البرط) وغربا بمعمل الإسمنت وهما اللّذان يشكّلان منذ بداية ثمانينات القرن المنصرم كمّاشة دمّرت البيئة تدميرا تظهر ملامحه بالعين المجرّدة من خلال اصفرار الطبيعة وكلحها، ومن خلال غيمة “البخّارة” التي تحجب الشمس تقريبا عن جزء هام من المدينة من شطّ السّلام إلى طريق تونس (غنوش). لقد عاش سكان قابس مرارة التلوّث الذي طال البشر والحيوان والفلاحة ودمّر البحر وثرواته وأصاب الآلاف من الصغار والكبار بعدد من الأمراض المزمنة والخطيرة ومنها الأمراض التنفسية والصدرية ومختلف أنواع السرطان وهشاشة العظام والحساسيّة. ورغم التحركات الواسعة سواء قبل الثورة أو بعدها للضغط من أجل اتخاذ إجراءات استعجالية لإيقاف التلوث أو حتى الحدّ منه فإنّ الحكومات المتعاقبة اتفقت في الردّ: الكذب والتضليل والتلاعب حتى بالمعطيات العلمية، والتسويف والوعود الزائفة، وفي النهاية القمع. وهو ما سار عليه قيس سعيد بمناسبة الموجة الأخيرة من الاحتجاجات على إثر حالات الاختناق والتسمّم التي طالت في أكثر من مرّة أعدادا من التلاميذ في الأحياء المتاخمة لمركّب الموت. ولئن تحدّث سعيد من قصره في إحدى المقابلات مع أحد أعضاء حكومته مؤكدا أنّ ما يحصل في الجهة منذ عقود هو اغتيال لها بل جريمة، فقد جاء في الغد الردّ الميداني على الاحتجاج ليؤكّد زيف ذلك الخطاب وتواصل نفس الممارسات الوحشية من منظومة حكم إلى أخرى لتشابهها جميعا في الاختيارات والتوجهات الاقتصادية والاجتماعية: المال والربح أهمّ من صحة الإنسان وسلامته. لقد أطلق سعيّد يد بوليسه لترد غازات المجمع الكيمياوي بالغازات المسيلة للدموع التي أطلقت بلا حساب على جماهير منهكة لا تتنفّس أنوفها منذ زمن طويل سوى السموم الكريهة والقاتلة. ومع إصرار السكان على حقهم في الاحتجاج تمسّكا بالحياة تكثف القمع وتتالت الإيقافات بعد مداهمات عنيفة واعتداءات مريعة على كرامة البشر واللغة هي نفسها تتناقلها أفواه الحكام من منظومة إلى أخرى: “ثمّة عناصر خبيثة اندسّت في صفوف النّاس لإرباك الأمن والاعتداء على المنشآت العامّة”.

الواضح والأكيد أنّ السلطة تعيش رعبا كبيرا من اتساع الغضب والنقمة. ولأنها سلطة رأس المال ومصالحه الحيوية فإنها لم تتردد في استهداف بؤرة الانتفاضة المواطنية التي طرحت مطالب عادلة ومشروعة التفّ حولها الآف من السكّان، نساء ورجالا، كبارا وصغارا، وهي إيقاف الوحدات الكيمياوية الملوثة التي تقتل البشر في واضحة النهار والتي اتخذ بشأنها قرار منذ 2017 لكنّه لم يطبّق. إنّ إيقاف هذه الوحدات القاتلة يعني تعطلا جزئيا لمكينة الربح وهو بالنسبة إلى سلطة رأس المال التي يديرها اليوم الشعبوي الفاشي قيس سعيد وحكومته خط أحمر لا يجب حتّى مجرد التفكير فيه، لينهش المرض كل قابس وليقضي على العديد من أبنائها فلا شيء يعلو على مصالح رأس المال. إنّ الربح ولا شيء غير الرّبح هو العقيدة المقدسة لرأس المال، أمّا حق السكان في الحياة وفي بيئة سليمة وبحر نظيف تعيش فيه الأسماك ويستحم فيه الناس وواحة خضراء وأرض صالحة للزراعة فهذه “امتيازات” يمكن العيش من دونها. وهذا الأمر لا يهمّ جهة قابس فحسب، بل يهمّ مثلّث الاستغلال القاتل ممثلا في جهات قفصة وصفاقس وبالطبع قابس التي تدور فيها ماكينة إنتاج الفسفاط الذي يكدس الثروة في جيوب الدولة والأثرياء ويكدس في الآن ذاته الفقر والبؤس والتلوث وهو نصيب المفقرين من العمال وسكان الأحياء الشعبية.

إنّ نصيب شعبنا من ثروات بلاده هو الفاقة والحرمان. وهو النتيجة الحتمية للخيارات المتبعة والتي لا تعكس ولا تكرس إلا مصالح الطبقات الطفيلية والريعية والتابعة. إن مواجهة سكان قابس بالعصا والسموم القاتلة هو الجواب الوحيد في جراب قيس سعيد ونظامه. يضاف إلى ذلك السعي المحموم من زبانية السلطة وجوقة القوادين لتشوية انتفاضة ضحايا الفوسفوجيبس بكونهم دمى يحرّكهم أعداء النظام. وهي سردية جاهزة في وجه أيّ تحرّك مهما كانت مشروعيّته وذلك لتمرير فكرة من أخطر الأفكار الطبقية التي تستعملها خاصة الأنظمة الدكتاتورية والفاشية: كل من يحتج أو يتظاهر أو ينقد فهو خائن وبيدق عند خصوم سياسيين. لكنّ حكام اليوم وقوّاديهم ينسون ويتناسون أنّ هذه حجّة من لا حجة له، وأنّ الجمل الجاهزة التي تلوكها كل الأنظمة والحكومات المتعاقبة ماهي إلا دليل عجز وارتباك وهروب إلى الأمام وأنّ صدّ مطالب الشعب بالقمع لن يعمّر طويلا فليتذكّر المتذكّون انتفاضات أهالي الحوض المنجمي والسخيرة وبن قردان وسليانة وقبلها انتفاضة الخبز التي كانت كلّها “بروفات” لحركة أعظم وأشمل تعصف بالاستغلال والقمع والاستبداد. إنّ شيئا ما يعتمل في رحم مجتمع المفقّرين والمهمّشن والمقموعين من جنوب البلاد إلى شمالها… فلنقف جميعا إلى جانب أهالي قابس المضرورين المقموعين. “كلّنا قوابسية”، كلنا من أجل تفكيك مجمع الموت، وإطلاق سراح كل المعتقلين والمهمّ المهمّ لتتحد صفوف شعبنا من أجل طور جديد من الثورة يكون هذه المرّة منقادا ببرنامج واضح وملموس: برنامج وطني، ديمقراطي، شعبي.

إلى الأعلى
×