الرئيسية / الافتتاحية / قابس تُعرّي حقيقة النظام الشعبوي
قابس تُعرّي حقيقة النظام الشعبوي

قابس تُعرّي حقيقة النظام الشعبوي

يتابع الرأي العام الشعبي في بلادنا تطوّر الحراك الاحتجاجي في جهة قابس التي تدفع أجيالها المتعاقبة فاتورة باهظة لاختيارات جشعة ومفرطة في الأنانية لا تهمّها معاناة آلاف السكّان من سموم “البخارة”. لقد وقفت تونس من شمالها إلى جنوبها معجبة بالمدّ المواطني العظيم الذي عبّر عنه الإضراب العام الجهوي الذي دعا إليه الاتحاد الجهوي للشغل يوم الثلاثاء 21 من الشهر الحاري وانخرطت فيه أهمّ المنظمات الاجتماعية والمدنية. لقد نجح الإضراب بشكل كامل في مجمل مناطق الجهة وانخرطت فيه كل القطاعات ليتعزز ذلك بالمسيرة الشعبية التي انتظمت عشيّة نفس اليوم وشارك فيها عشرات الآلاف من المواطنين نساء ورجالا، كبارا وصغارا، ليرفعوا جميعا شعارا مركزيا موحّدا: “الشّعب يريد تفكيك الوحدات”، أي الوحدات الكيميائية القاتلة بسمومها المنبعثة باستمرار.

في الأثناء ظلت الجماهير تراقب ردّ فعل السلطة. فقد طلع رأسها مرّة أولى في التلفزة معتبرا أنّ وجود المركّب الكيميائي في الجهة “اغتيال لها” و”جريمة في حقّها” وهو ما فهمه البعض على أنه “تعاطف” مع الأهالي، لكن حجم القمع الذي سلّط على المتظاهرين لاحقا وكميّات الغازات المسيلة للدّموع التي نزلت عليهم عرّت المغالطة وكشفت أنّ ما يميّز قيس سعيّد الشعبوي هو أنّ كلامه في جهة وفعله في جهة أخرى، الكلام مع الشّعب والفعل ضدّه. وفي يوم الإضراب العام ظهر الرجل من جديد في شاشة التلفزة مع رئيسة حكومته، لا ليقدّم حلولا ملموسة للأهالي المتمسّكين بمطلبهم الرئيسي وهو “تفكيك الوحدات” لوضع حدّ لمعاناتهم خاصّة، مع تكرّر حالات تسمّم التلامذة واختناقهم، ولكن ليقول لهم، من خلال عودة إلى خصومات “جرير والفرزدق” الشاعرين اللّذين عاشا في العصر الأموي، إنّ “نبالكم لن تصيبني” معتبرا أنّ ما يجري في الجهة “مؤامرة” ضدّه وضدّ حكمه. وهو نفس المنطق الذي اتبعه منذ انقلاب 25 جويلية 2021 لتغطية عجزه وفشله الذريع في حلّ أيّ مشكل من المشاكل التي يعاني منها النّاس في حياتهم اليوميّة.

في نفس الوقت الذي يتحدّث فيه سعيّد عن “جرير والفرزدق” أمام رئيسة حكومة مذهولة قد تكون لم تسمع مطلقا بخصومة هذين الشاعرين، تتزايد حالات التسمّم خاصة في المدارس الإعدادية المتاخمة لمجمّع الموت. وفي نفس الوقت أيضا يتداول وزراء ونواب مجلس الدمى في إجراءات معطّلة منذ 2017 تهدف إلى “تخفيف التلوّث” لا القضاء عليه. ومن المضحكات المبكيات أنّ من بين ما اقترحه وزير الصحّة في ذلك المجلس تمكين الجهة من وحدة صحية إضافيّة لمعالجة مرضى السرطان، أي “امرضوا وسنعالجكم”، وهو ما زاد في حدّة غضب الأهالي بل كل التونسيات والتونسيين لما فيه من استهتار بصحة البشر. ومن جهة أخرى لوّحت حكومة “الهانة ورقود الجبّانة” باتجاهها نحو انتداب بضعة مئات من الأعوان والموظفين، وهي فكرة خبيثة لا هدف منها سوى بثّ التفرقة بين سكان الجهة بمحاولة استمالة بعضهم بالضرب على وتر الفقر والحاجة إلى مواطن شغل. المهمّ هو ألّا يقع المساس بأصل المشكل أي المركّب. وبالتوازي مع ذلك تشتغل دوائر الدعاية على تنظيم حملات تشويه لمحاولة اختراق الحراك وتفكيكه من الداخل، فبعد الحملة الواسعة لإيهام الرّأي العام أنّ “حركة النهضة هي التي تقف وراء الحراك”، وأنّ “عصابات وزعت أموالا على قصّر لإثارة الشّغب”، ها هي اليوم تقود حملة مفادها أنّ الحراك هدفه “إسقاط” سعيد من خلال حشره في زاوية غلق المركب بما يعني ضربة موجعة لاقتصاد البلاد وللخزينة العامة للدولة، وأنّ رفض ذلك يعني تصادما مع سكان الجهة الذين دمّرهم التلوث، لذلك فإن الموقف “الوطني السليم” حسب الجوقة هو القبول باجراءات لتخفيف التلوث لا القضاء عليه.

هذا يعني أنّ على مواطني الجهة الذين يعانون سموم المركّب منذ أكثر من نصف قرن أن يتحملوا المزيد حتّى لا يتّهموا بالتواطؤ مع “المتآمرين” و”الخونة” و”الانقلابيين” و”أعداء الوطن” إلى غير ذلك من التخريفات التي مجّها التونسيات والتونسيون والتي استعملت لتبرير العجز والفشل والقمع والاستمرار في تدمير البلاد والمجتمع. إنّ هذا المنطق هو المنطق الاستبدادي الفاشي الذي لا يعير قيمة للمواطنين ولمطالبهم المشروعة لأنّ هدفه الحقيقي هو خدمة مصالح الفئات البورجوازية الكبيرة، العميلة والطفيلية، التي تتحكم من وراء الستار في مفاصل القرار الفعلي. إنّ مصلحة رأس المال هي في استمرار المركب الكيميائي في مكانه في انتظار ترتيب نقله، حسب ما يشاع، وبالتالي نقل الكارثة إلى مكان آخر ليتمّ تدميره بدوره لأن الدولة والخواص لا يريدون صرف فلس واحد من أجل حل مشكل التلوث، فهاجسهم هو دوران آلة الإنتاج لتحقيق الأرباح السهلة ولو على حساب البشر والطبيعة.

إنّ ماكينة الدعاية والقمع تحاول فرقعة الحراك من الداخل بالضرب على وتر أنّ “مصلحة” الجهة وأبنائها المشتغلين في المركب تقتضي “مزيد التضحية”. لكن سكان الجهة وقواها الحية والتقدمية أخذت طريق النضال الذي تتسع دائرته أكثر فأكثر ليطرح جديا ملف البيئة في بلادنا كجزء من الملف الاجتماعي الذي تتضرر منه الجهات والقطاعات والطبقات الأكثر فقرا وبؤسا في أغلب مناطق تونس. إن الحل الجذري للمسألة البيئية لن يكون بقبول الحلول الملغومة والصفقات المشبوهة مع نظام بدأت ملامح عجزه تتوسع، مع نظام لا يتوانى عن الزيادة في ميزانية رئاسة الجمهورية كلّ سنة (200.400 مليون دينار سنة 2024 و214.259 مليون دينار سنة 2025 و228.8 مليون دينار سنة 2026) ويبخل عن هذه الزيادة لمعالجة التلوث في قابس ولو جزئيّا على طريق تحقيق الحل الجذري (تطوير منظومة الامتصاص المضاعف لغاز الأمونياك، تركيز تجهيزات لمزيد الحدّ من انبعاث أوكسيد الأزوت وثاني أوكسيد الكبريت إضافة إلى إمكانية تركيز “فلاتر” للحدّ من انبعاث غازات الفليور…). وبعبارة أخرى فإن الحل يكمن في الالتفاف حول جملة المطالب التي طرحتها جهة قابس وطرحها العديد من الخبراء الجدّيين والتي تضع الحفاظ على حياة البشر وسلامة البيئة على رأس اهتماماتها. فلنواصل الوقوف إلى جانب أهالينا في قابس ولنعمل على توسيع دائرة الحركة فصفاقس وسوسة وتونس وغيرها من الجهات تعاني من الكوارث البيئية شعارنا في ذلك الإنسان أثمن رأس مال.

إلى الأعلى
×