الرئيسية / صوت الوطن / إعلام الرمّان يخنق الصوت الشعبي في المؤسّسات الإعلامية العمومية
إعلام الرمّان يخنق الصوت الشعبي في المؤسّسات الإعلامية العمومية

إعلام الرمّان يخنق الصوت الشعبي في المؤسّسات الإعلامية العمومية

بقلم سارة منصور

في قلب الجنوب التونسي تحوّلت مدينة قابس إلى ساحة احتجاجية مشتعلة حيث يواجه السكان كارثة بيئية مزمنة ناجمة عن انبعاثات المجمع الكيميائي التونسي، فمنذ بداية أكتوبر 2025 شهدت المدينة موجة احتجاجات شعبية واسعة بلغت ذروتها بإضراب عام شلّ الحياة في المدينة شارك فيه آلاف المواطنين مطالبين بإغلاق المجمع وتفكيك الوحدات بعد تسرّب غازات سامة تسببت في اختناق العشرات بما في ذلك أطفال المدارس، لكن وبشكل لافت غابت هذه الأحداث عن شاشات وصفحات الإعلام العمومي في تعتيم واضح يكشف عن هيمنة الخطاب الرسمي على السرديات العامة محافظاً على صورة الاستقرار الاقتصادي على حساب الحقيقة البيئية والإنسانية.

في عصر الرقمنة حيث يُعدّ الإعلام أداة أساسية لتشكيل الوعي الجماعي يتحوّل دور الإعلام العمومي المموّل من أموال دافعي الضرائب إلى آلية للتهميش والتعتيم خاصة في المناطق الداخلية مثل قابس. هذا التقصير ليس مجرّد إغفال عابر بل ظاهرة هيكلية تعكس ديناميكيات الهيمنة الإعلامية حيث تسيطر السلطة الرسمية على الخطاب للحفاظ على الوضع القائم.

فبدلاً من تغطية الاحتجاجات كتعبير مشروع عن غضب السكان إزاء كارثة بيئية يفضّل الإعلام العمومي التركيز على الأنشطة الاقتصادية الروتينية أو الأحداث السياسية في العاصمة ممّا يعمّق شعور السكان بالاغتراب الاجتماعي ويوسع فجوة العدالة البيئية. لعلّ أبرزها التقرير التلفزي (القديم الجديد) حول صابة الرمان بقابس وهو ما أثار موجة من الاستهزاء والسخرية لما تمّ بثّه مقابل التعتيم عن أخبار المعالجة الأمنية للتحركات، فيما عمدت مؤسسة الإذاعة التونسية إلى إصدار تعليمات من الرئيسة المديرة العامة لتجنّب بثّ أيّ خبر يتعلق بالإيقافات والمحاكمات والإحالة على القضاء بسبب الحراك الاجتماعي.

لقد تفاقمت الأزمة في قابس بسبب التلوّث المستمر من المجمع الكيميائي الذي يصدر انبعاثات سامة تسببت في ارتفاع معدلات الأمراض التنفسية والسرطان بين السكان. ودفع هذا الوضع الآلاف إلى الشوارع في مظاهرات غاضبة واجهتها قوات الأمن بالغاز المسيل للدموع والاعتقالات. لكن الإعلام العمومي تجاهل هذه التفاصيل مفضلاً تلميع صورة المجمع كمصدر للوظائف وركيزة اقتصادية متجاهلاً معاناة السكان اليومية. وهذا التقصير نتيجة هيكلية لاعتماد هذه الوسائل على التمويل الحكومي ممّا يجعلها عرضة للرقابة والتوجيه الرسمي.

فكيف يمكن لإعلام مموّل من جيوب المواطنين أن يخون واجبه في تمثيل صوتهم خاصة في قضايا تهدد حياتهم؟

في المقابل لعب الإعلام الدولي وبعض من الإعلام الخاص دوراً بارزاً في كشف الحقيقة حيث وثّقت تقارير أجنبية تحوّل قابس إلى منطقة منكوبة بيئياً. كما اعتمد السكان على وسائل التواصل الاجتماعي لنقل صور الاشتباكات وتسربات الغاز ممّا يبرز دور الإعلام البديل كأداة مقاومة في مواجهة الصمت الرسمي. وهذا الوضع يكشف أزمة أعمق تتعلّق بالتمييز الإعلامي ضد المناطق الداخلية حيث يتركز الاهتمام على العاصمة تاركاً سكان قابس في حالة اغتراب يشعرون فيها بأن صوتهم لا يُسمع.

إنّ هذا الوضع يطرح تساؤلاً جوهرياً كيف يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية البيئية دون تغطية إعلامية شفافة؟ إنّ تغطية احتجاجات قابس بشكل عادل ليست مجرّد واجب مهني للإعلام العمومي، بل ضرورة أخلاقية وقانونية خاصة وأنه مموّل من أموال الشعب.

وإذا استمر هذا التقصير فإنه سيؤدي إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية وتكريس الشعور بالتهميش في مناطق تعاني أصلاً من الإهمال. وحان الوقت لإعادة تقييم دور الإعلام العمومي ليصبح صوتاً للشعب لا أداة للسلطة.

التعاطي الجدّي والمسؤول مع التحرّكات الاحتجاجية واجب مهني ملحّ

في بيانها الصادر إثر ردود الفعل المحتجة على التعتيم الإعلامي وما تمّ بثّه في النشرة الرئيسية للأنباء حول صابة الرمان بولاية قابس، دعت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى الكفّ عن المقاربات الأمنية والقضائية والتشويهية في التعامل مع الاحتجاجات السلمية مؤكّدة أن معالجة الأزمات لا تكون إلا بالحوار والإنصات والشفافية، وباحترام حق المواطنين في التعبير والتنظم السلمي، مذكّرة عموم الصحافيات والصحفيين والمؤسسات الإعلامية بواجبهم المهني في التعاطي الجاد والمسؤول مع التحركات الاجتماعية والبيئية.

كما أكّدت النقابة على ضرورة تغطية الحراك المدني في قابس بموضوعية وتوازن، باعتباره قضية وطنية تمسّ الحق في البيئة والصحة والحياة الكريمة. وتجنّب التعتيم الإعلامي أو الانتقائية في التغطية، لما لذلك من أثر سلبي على الثقة العامة في وسائل الإعلام وعلى حق المواطن في المعلومة. وأهمية تدقيق المعطيات ومقاربة الأحداث من زواياها الحقوقية والبيئية والإنسانية، بعيدا عن الخطابات التحريضية أو التوصيفات الأمنية التي تُجرّم الاحتجاج السلمي.

وفي علاقة بالإعلام العمومي باعتباره ملكا لجميع المواطنين والمواطنات وليس ناطقا باسم السلطة أو الإدارة، دعا الهيكل المهني إلى تأدية وسائل الإعلام دورها في نقل ما يحدث في قابس بإنصاف وعمق، وإتاحة الكلمة لكل الأطراف دون إقصاء أو وصم، وأن تخصّص المساحات اللازمة للنقاش والتحليل لشرح خلفيات الأزمة البيئية والاجتماعية التي تشهدها الجهة، وأن تلتزم بمبدأ الخدمة العمومية للإعلام الذي يقوم على الحياد والتعددية والحق في المعلومة وتجنّب كل أشكال التعتيم أو التوجيه، وأن تعتبر أنّ السكوت عن قضايا الناس شكل من أشكال الرقابة الذاتية التي تضعف المرفق العمومي وتفقده مصداقيته لدى الجمهور. فحرية الصحافة وحق المواطنين في الإعلام والتعبير هما أساس بناء الثقة في الفضاء العام، داعية جميع الفاعلين إلى تحمّل مسؤولياتهم في حماية هذه القيم وتحصينها من كل محاولات القمع أو التوظيف أو التعتيم.

إلى الأعلى
×