بقلم علي البعزاوي
تمتد غابات الزيتون التونسية على مدى 1.8 مليون هكتار لتحتل ثلث الأراضي الزراعية وتعدّ 86 مليون زيتونة تساهم فيما يقارب الـ3 % من الناتج الوطني الخام. تحتل تونس المرتبة الثالثة عالميا في إنتاج زيت الزيتون وهي مرشحة أن تكون في المرتبة الثانية هذه السنة بالنظر للصابة المرتقبة. في كلمة قطاع الزيتون هو قطاع استراتيجي وجزء من هويتنا الفلاحية لكنه قطاع لا يخلو من المشاكل والأزمات على كل المستويات بدءا بمخاطر الأمراض المستوردة التي تهدده وانتهاء بتكاليف الإنتاج التي ترتفع باستمرار وصعوبات الترويج والتثمين مرورا بالتوزيع غير العادل لمداخيل الصابة وما يرافقها من حيف واستغلال يطال فئات محددة من المنتجين في ظل خيارات عامة تخدم حصريا مصالح كبار الرأسماليين المرتبطين بالقطاع.
معضلة تكاليف الإنتاج
فيما مضى كان الإنتاج “بعلي” ولا يتطلب الريّ إلا في فترات الجفاف القليلة وكانت تكاليف أعمال الحرث والتقليم ومستلزمات جني الصابة من معدات ويد عاملة ونقل زهيدة نسبيا وغير مرهقة للفلاح. لكن مع مرور الوقت حيث تتالت الأزمات الاقتصادية وتراجعت قيمة العملة المحلية التي لم تعد قادرة على الصمود أمام باقي العملات الأجنبية بحكم التبعية، وتفشي ظاهرة الجفاف جراء التطورات المناخية ودخول أنواع جديدة من أشجار الزيتون المستوردة والتي تتطلب الريّ المنتظم والأسمدة، وغلاء سعر المحروقات الذي يتسبب في غلاء أعمال الحراثة… أصبحت تكاليف الإنتاج مرتفعة مقارنة بالسنوات الفارطة خاصة بالنسبة لصغار ومتوسطي الفلاحين مقابل سعر بيع ضعيف في ظل تنامي أعمال السمسرة وغياب الدولة ووضع الخواص من تجار وأصحاب معاصر ومصدرين أيديهم على القطاع. الدولة في السابق وإلى حدود التسعينات كانت محتكرة لترويج زيت الزيتون والحلقات كانت واضحة : فلاح ينتج ومعاصر تحوّل وسعر واضح منذ البداية ودولة تروّج. وابتداء من أواسط التسعينات تغيّرت المنظومة وأصبحت مختلة بعد أن أقصي ديوان الزيت وبقي الخواص وحدهم.
إن الخاسر الأكبر هم صغار وفقراء الفلاحين، وهم الأغلبية، الذين أصبحوا غير قادرين في ظل الظروف الجديدة على استرجاع ما أنفقوه وما حصلوا عليه من قروض سواء من البنوك أو المزودين الخواص لأن الصابة لم تعد تغطي المصاريف الهائلة التي يضطرون لإنفاقها خلال الإعداد لعملية الإنتاج. وفي السنوات الأخيرة تفاقمت المشاكل بالنسبة لهذه الفئة لأن هناك صعوبات جدية في الحصول على قروض ميسّرة من البنوك، فيضطر الفلاحون للبيع بسرعة وبالسعر المتوفر لأنهم غير قادرين على التخزين وانتظار أوقات الذروة للبيع بأسعار مناسبة. وديوان الزيت يتلكأ في تخزين الزيت. هذه المعضلات بحاجة إلى المعالجة لضمان استمرار هذه الفئة من المنتجين في العمل في قطاع الزيتون وتوسيع إنتاجهم. علما وأنّ هذا الإنتاج الصغير يعطي أفضل الزيوت البيولوجية على الإطلاق.
أزمة التثمين والترويج ودور الدولة
إلى حدود تسعينات القرن الماضي كانت الدولة تتدخل عبر الديوان الوطني للزيت لاقتناء كميات الزيت المنتجة وتتكفل بخزنها ثم تصديرها في الوقت المناسب وكان الديوان يحدد سعر الشراء بما يوفر ضمانات للفلاح لتحقيق هامش ربح معقول. وليس هذا فقط بل كان يمكّن الفلاحين بعد بيع المحصول من “ملحق” (منحة مالية إضافية) مناسب لكمية الزيت التي استلمها من كل منتج.
لكن في الوقت الحالي انسحب الديوان الوطني للزيت لصالح الخواص من شركات وأفراد وبات حضوره شكليا وضعيفا ولم يعد يلعب الدور الهام الذي ظل يضطلع به لسنوات والمتمثل في ضبط سعر البيع واقتناء كميات كبيرة من الزيت بهدف خزنها وبيعها في الوقت المناسب بسبب اهتراء البنية التحتية وتقلص عدد المستخدمين وسيطرة الخيارات النيوليبرالية المتوحشة.
وزارة الفلاحة والديوان الوطني للزيت لم يتكفلا بتنظيم الأعمال الإشهارية ولم يقع استغلال التظاهرات الإقليمية والعالمية والأنشطة الرياضية الهامة للقيام بالدعاية لصالح الزيت التونسي الذي يعتبر من أرفع الزيوت في العالم. ليست هناك استراتيجيا واضحة للتسويق والترويج المنظم المعدّ له مسبقا بما يساعد على اكتساح أسواق جديدة. ولم يقع تثمين الزيت التونسي باعتباره من أقدم الزيوت في العالم وفي القارة الإفريقية تحديدا لضمان أسعار بيع عادلة. كما ظل الزيت التونسي غائبا عن الأسواق الكبيرة القادرة على استيعاب كميات هائلة (السوق الصينية والهندية والأندونيسية والبرازيلية). والدبلوماسية الاقتصادية لم تضطلع بدورها في هذا الصدد رغم الادعاءات الصاخبة والوعود الكاذبة. ولمزيد التأكيد في هذا السياق تصدر تونس 60 % من الصابة للاتحاد الأوروبي لمنافسين يقومون لاحقا بتعليب الزيت التونسي وبيعه تحت علاماتهم التجارية بعد خلطه بالزيت الأوروبي الذي يحتوي على رواسب كيميائية عالية، و24 % للسوق الأمريكية و9 % فقط لإفريقيا رغم اتساع هذه السوق وقدرتها على استيعاب كميات هائلة من الزيت.
يضاف إلى هذه المعضلات انحصار تصدير الزيت المعلب في حدود 10 % فقط من الصابة بينما تباع البقية في شكل زيت سائب وهذا من شأنه الحيلولة دون تحقيق قيمة مضافة أعلى وحرمان الشباب المهمش من مواطن شغل ممكنة في حال القيام بعملية التصنيع والتعليب، والبلاد من عملة صعبة إضافية يمكن استغلالها في عدة اتجاهات.
القطاع الخاص هو المستفيد من الصابة
تتواطأ الدولة مع لوبيات تصدير زيت الزيتون بدعم من اتحاد الصناعة والتجارة وتسيطر شركات مصدرة للزيت مملوكة بالشراكة بين رجال أعمال تونسيين وأجانب من إسبانيا وإيطاليا أساسا على غرار شركة بورجاس (Borges) التي تحتل صدارة مصدّري زيت الزيتون غير المعلب بأكثر من 50 % وهي فرع شركة إسبانية رائدة في إنتاج زيت الزيتون، تسيطر على السوق التونسية وتستغل فرعها في تونس لتصدير الزيت التونسي لغاية التكرير بالخارج وحرمان تونس من نسبة العملة الصعبة المحققة.
إن صابة الزيتون في تونس والتي تقدر هذه السنة بـ 500 ألف طن، مقابل 340 ألف السنة الفارطة، تتهددها مسألتان أساسيتان أولا الغياب الممنهج لديوان الزيت وثانيا السماسرة المحليون المتواطئون مع السماسرة الإيطاليين والإسبان، ويندرج هذا التخاذل ضمن الخيارات العامة للدولة التي باتت تتنصل من أيّ دور في عملية الإنتاج والتسويق وضبط الأسعار بما يضمن مكاسب للمنتجين أولا من خلال التصدير بأسعار ملائمة وثانيا من خلال ضبط سياسة للبيع محليا بأسعار تشجع على الاستهلاك الداخلي دون المساس بمصالح الفلاح.
هناك مشروع أُعِدّ منذ عشرات السنين من أجل دفع الدولة إلى التخلي عن القطاعات الاستراتيجية ومن ضمنها الزيتون وتحويل الفلاحين إلى مجرد أقنان لدى أصحاب رأس المال لفائدة الأجانب. وديوان الزيت التونسي متآمر ويخضع للوبيات ومن يغادر من مسؤوليه يتفرغ للعمل مع هذه اللوبيات.
أمّا القطاع البنكي فهو قطاع لا وطني يخدم المافيا المالية فقط ولا يعنيه صغار الفلاحين ولا صغار التجار الأكثر حاجة للقروض الميسّرة.
تشكل كل هذه المعطيات الإطار العام الذي يضبط إيقاع عملية الإنتاج ومآلاتها ويحدد المستفيدين الأساسيين وهم الخواص الأجانب والمحليين شركات وأفرادا، ويحدد الخاسرين وهم الدولة التي لا تستفيد كما ينبغي من الصابة من خلال إيرادات معقولة وقيمة مضافة عالية وعملة صعبة تناسب جودة الزيت التونسي، والفلاحون وخاصة الصغار والفقراء وحتى المتوسطين منهم الذين يعتبرون الحلقة الأضعف في سلسلة الإنتاج والبيع والذين ما فتئت مداخيلهم تتراجع وهو ما يشكل خطرا على مستقبلهم كمنتجين قد يضطروا للالتحاق بصفوف العمال.
التصدير على حساب الاستهلاك الداخلي
تركز الدولة على تصدير النسبة الأكبر من الصابة بهدف الحصول على المزيد من العملة الصعبة وتعديل الميزان التجاري المختل دائما لصالح التوريد. والسبب الأساسي من وراء هذه السياسة مرتبط بالخيارات العامة للدولة التي تجسّد، في إطار التقسيم العالمي للعمل، دور المصدر للمنتوجات الفلاحية والمواد الأولية مقابل توريد المواد المصنعة ونصف المصنعة من دول المركز. وحتى الصناعات المتوفرة في تونس فهي صناعات بالوكالة تتمثل في شركات ومصانع تعمل لتزويد أسواق خارجية محددة بسلع معينة (مصانع تركيب السيارات، النسيج…) وهي صناعات غير مرتبطة بالإنتاج المحلي وغير مندمجة وفاقدة بالتالي للاستقلالية والقدرة على تحقيق القيمة المضافة.
في هذا السياق دأبت الدولة التونسية منذ سنوات على بث الوهم حول القيمة الغذائية للزيوت النباتية التي تستوردها من الخارج وقامت بدعمها حتى يقبل المستهلك التونسي على شرائها بديلا عن زيت الزيتون المعد أساسا للتصدير.
تورد تونس سنويا 174 ألف طن من الزيوت النباتية (30 ألف زيت نخيل والبقية زيت صوجا وغيره) تكلفتها الجملية 500 مليار استيرادا ودعما. وهو مبلغ هائل يساهم في استنزاف العملة الصعبة وفي اختلال الميزان التجاري إضافة إلى المخاطر الصحية التي تسبّبها هذه الزيوت وخاصة زيت النخيل الذي يتميز بسعره الرخيص ويشكل مخاطر صحية تتمثل في السمنة المرضية والكوليستيرول والسرطان… هذا الزيت باعتباره مادة رخيصة الثمن يستعمل كثيرا في صناعة الحلويات والمواد الغذائية المصنعة وقد حذرت منه سلامة الغذاء الأوروبية.
أغلب التونسيات والتونسيين لا قدرة لهم على استهلاك زيت الزيتون ويقبلون على شراء الزيت النباتي المدعوم من الدولة لأن سعره في المتناول بالقياس مع سعر زيت الزيتون غير المدعوم.
تتكلف قارورة الزيت النباتي على الدولة 2470 مليم وتباع للعموم بـ 920 مليم. ويستفيد من هذا الزيت 20 % إلى 25 % فقط من محدودي الدخل “الزواولة” بينما يستغل بكثافة في المطاعم ومحلات المرطبات التي تستأثر بالنسبة الأكبر من الكمية المستوردة.
إنّ الطبقات الميسورة هي الأكثر استفادة من الزيت النباتي ومن الدعم الذي تؤمنه الدولة وفي نفس الوقت تستهلك هذه الفئات النصيب الأكبر من زيت الزيتون المعد للاستهلاك الداخلي. أي أنّ سياسة الدعم الموجهة للزيت النباتي رغم تأثيرها السلبي على الميزان التجاري لا تخدم الفئات ضعيفة الدخل إلا بنسبة محدودة. لذا وجب البحث عن حلول أخرى تخفف العبء على ميزانية الدولة وتنصف الفئات ضعيفة الدخل وتوسع استهلاك زيت الزيتون محليا حتى يستفيد التونسيات والتونسيون من خيرات بلادهم المحرومون منها بفعل ظروفهم وقدرتهم الشرائية المهترئة.
هذه الإشكاليات متعددة الأوجه وغيرها التي سنتطرق إليها لاحقا تتطلب إعادة النظر في السياسة الفلاحية برمتها كجزء من الخيارات العامة للدولة وهو موضوع الجزء القادم من المقال.
صوت الشعب صوت الحقيقة
