بقلم شيراز بن حسين
عمدت سلطة الانقلاب مؤخّرا إلى اتّخاذ تصعيد خطير عبر قرارات تعليق أنشطة عدد من الجمعيات التونسية، آخرها إلى حدود صدور هذا المقال، القرار المتعلّق بتجميد جمعية صحفيي الموقع الالكتروني “نواة” لمدّة شهر، ومن المتوّقع أن تتوسّع قائمة المستهدفين في الأيّام المقبلة منظّمات أو جمعيات أخرى على رأسها الاتّحاد العام التونسي للشغل وذلك وفقا لما يصرّح به أبواق دعاية هذه المنظومة سواء عبر قنوات إعلامية أو صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي.
لقد شهدت بلادنا بعد الثورة ورغم عديد النقائص، انبعاث عديد الجمعيات إثر صدور المرسوم عدد 88 لسنة 2011 المتعلّق بتنظيم الجمعيات والذي يضمن حرية التأسيس والانضمام والنشاط وإلى تدعيم دور منظّمات المجتمع المدني وتطويرها والحفاظ على استقلاليتها، كما يخضع تأسيس الجمعيات وفقا للمرسوم إلى نظام التصريح خلافا لما كان عليه الحال زمن الديكتاتورية. ورغم حفاظ المنظّمات ومكوّنات المجتمع المدني التي ناضلت سنوات الجمر على استقرارها تقريبا وتواجدها إلاّ أنّ منظومة الانقلاب اتّخذت منحى آخر تجاهها بداية بحملات شعواء إعلاميا وخطابات تحريضية من أبواق الدعاية تحت عنوان “تلقّي أموال من جهات أجنبية تهدف إلى زعزعة استقرار البلاد خدمة لأجندات مشبوهة” ثمّ إصدار قرارات تجميد للأنشطة لمدّة شهر، وهو ما لم تشهده بلادنا حتّى زمن الديكتاتورية.
حلقة جديدة من مسار التضييقات على المجتمع المدني
رغم الدور المهم الذي يلعبه المجتمع المدني في الأنظمة الديمقراطية والمكفول بالمواثيق الدولية عبر مشاركة المواطنين وتحفيزهم للدفاع عن الحقوق والحريات وتعزيز القيم والتشجيع على المشاركة في الشأن العام والمساهمة في بناء دولة مدنية قوية وديمقراطية، إلاّ أنّ الأنظمة الفاشية وعبر التجارب والتاريخ ترفضه وتحاول تهميشه وإلغاءه بشتّى الطرق، ولعلّ ما أقدمت عليه الشعبوية الفاشية في بلادنا خير دليل، حيث وجّهت سهامها هذه المرة نحو المنظّمات والمجتمع المدني وأصدرت قرارات بتعليق الأنشطة لمدة شهر في حقّ كلّ من: الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وجمعية “أصوات نساء”، وجمعية “نواة”،… وذلك بعد إجراءات التدقيق المالي منذ مدة ثمّ فتح تحقيق قضائي بتعلّة تلقّي تمويل أجنبي من قبل المنظمات، حيث ومن المتوقّع أن تطال الحملة قائمة أخرى في الأيّام المقبلة.
ولقد أثارت هذه القرارات القمعية موجة غضب واسعة في صفوف الطيف الديمقراطي لما تمثّله من حلقة جديدة ضمن سلسلة مستمرة من استهداف الجمعيات والمنظمات وانتهاك خطير للحقّ في التنظّم والعمل الجمعياتي المستقلّ ومحاولات لتقويض الفضاء المدني واعتداء على إرث نضالي وطني حقوقي ساهم في تعزيز قيم الديمقراطية والحقوق والحريّات خاصة بعد الثورة.
سابقة: حظر نشاط موقع إعلامي
وفي محاولة لتركيع الإعلام البديل والمستقلّ وذلك بعد تركيع الإعلام العمومي والخاص، صدر يوم 31 أكتوبر 2025 قرار بتعليق وتجميد نشاط جمعية صحفيي الموقع الالكتروني “نواة” رغم خضوعها لأكثر من سنة إلى تدقيق مالي شامل. وقد مدت الجمعية السلطات بكل الوثائق التي طلبت منها وأجابت عن مختلف المراسلات في إطار احترامها للقانون عدد 88 لسنة 2011 المنظم للجمعيات. وهو ما أثار ردود فعل غضب باعتبارها سابقة بعد الثورة في إصدار قرار بتعليق نشاط موقع الكتروني وحرمان الصحافيين والتقنيين من ممارسة مهامهم المكفولة بالقانون والمواثيق الدولية. وقد اعتبرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين أنّ هذا القرار لا يمكن فصله عن المسار الممنهج للتضييق على الفضاء العام وهو في جوهره محاولة لإسكات أبرز المنابر الإعلامية الاستقصائية المستقلة في تونس واعتداء صارخ على حقّ الصحفيات والصحفيين في العمل الحرّ والمسؤول، واصفة القرار بالسياسي والمغلّف بغطاء إداري وقانوني وهو ليس جديدا على التجارب السلطوية.
كما اعتبرت النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين قرار التجميد يستهدف مباشرة حرية الصحافة وهي ترفض الإجراءات الإدارية والأمنية لتكميم الأفواه وإخضاع المجتمع المدني، داعية إلى رفع كلّ القيود المفروضة على الجمعيات والمؤسسات الإعلامية المستقلة والعودة إلى احترام الدستور والمعايير الدولية لحرية التعبير والتنظّم. محذّرة وفق بيانها من أنّ استمرار هذه السياسات لن يؤدّي إلاّ إلى مزيد من العزلة السياسية والاجتماعية وإلى إضعاف الدولة ومؤسساتها أمام الرأي العام الوطني والدولي.
هل حان دور الاتّحاد العام التونسي للشغل؟
في هذا السياق، تجدّدت التهديدات ضدّ الاتّحاد العام التونسي للشغل باستغلال أوضاعه الداخلية، حيث عمد أحد أبواق السلطة وعبر برنامج تلفزي في إحدى القنوات الخاصة إلى توجيه تحذير علني وواضح للمنظّمة مشيرا عبر يده وهو ينظر إلى ساعته باقتراب ساعة المحاسبة “القانونية” والسجن، ورغم بشاعة هذا المشهد ببثّ التحذير عبر منبر إعلامي في مشهد منافي لأخلاقيات المهنة وشرف المهنة، إلاّ أنّ الجميع قد تعوّد بأنّ هذا البوق قد نصّب نفسه ناطقا باسم السلطة وأجهزة الدولة ومنتحلا لصفة القضاة دون أية محاسبة طبعا.
وقد اعتبر الاتّحاد العام التونسي للشغل هذا التصريح تحريضا واضحا ضدّ النقابيين ممّا يعرّضهم إلى الاعتداءات المادية ويهدّد سلامتهم الجسدية، معتبرا أنّ التصريحات الصادرة عن البعض ممّن احتلوا المنابر الإعلامية المحسوبين على السلطة تعدّيا صارخا على القانون يستوجب المتابعة القضائية ويعتبرها حلقة في سلسلة ضرب الحقّ النقابي والحريات العامة ونشرا للفتنة وتحريضا للتونسيين بعضهم ضدّ بعض.
كما اعتبر الاتّحاد أنّ الحملة الممنهجة ضدّه تهدف إلى إرباكه ومنعه من الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للعمّال ولعموم الشعب وهي حملات قادها جميع الحكّام كلّما ارتفع صوته لرفض الإجراءات اللاشعبية والتصدي للتعدّي على الحقوق والحريات، داعيا بالمناسبة جميع هياكله النقابية إلى اليقظة والتجنّد للدفاع عن الاتّحاد وعن الحقّ النقابي وحقوق العمّال.
لقد بات من الواضح أنّ منظومة الحكم الفاشية وظّفت القضاء والإدارة والأمن لتصفية الحسابات مع ممّن تعتبرهم أجساما وسيطة لم تدخل بيت الطاعة بعد، ولتصفية الحسابات مع الإعلام والمجتمع المدني والمنظّمات وهو ما يشكّل انحرافا خطيرا عن مبادئ الديمقراطية والحقوق والحريات، وهو ما يدعو إلى التصدّي العاجل لهذه الانحرافات وحماية مكتسبات الثورة التي ناضل من أجل عموم الشعب التونسي.
صوت الشعب صوت الحقيقة
