الرئيسية / صوت الوطن / البلاد التي تخاف من كلمة… كيف تحتمل المستقبل؟
البلاد التي تخاف من كلمة… كيف تحتمل المستقبل؟

البلاد التي تخاف من كلمة… كيف تحتمل المستقبل؟

بقلم سمير جراي

“Drive-Thru” أو “خدمة الطلب من السيارة” أو كما يمكن تسميته “نافذة الخدمة السريعة” هي خدمة تعتمدها بعض المقاهي والمطاعم وحتى الصيدليات والبنوك في عدة دول، تُمكّن الزبائن من طلب حاجاتهم واستلامها بسرعة ودون النزول من السيارة، وبسهولة يتوقف الزبون المستعجل عند “مكبّس” الطلب أو شاشة إلكترونية لطلب ما يريد، ثم ينتقل إلى نافذة الدفع، ثم إلى نافذة استلام الطلب، وهكذا “يقضي شؤونه” في دقائق معدودة. لا نرى هذه الخدمات السريعة في تونس، لا في القطاعات الخدمية ولا في الإدارة التي مازالت تبعد سنوات ضوئية عن الرقمنة، فتلك الكلمة السحرية “أرجع غدوة” أو حجة أن “السيستام ما يخدمش” مازالت هي كلمة السرّ في إداراتنا.

في الحقيقة لا يمكن أن نتعسّف كثيرا على بلادنا فـ”السيستام” يشتغل بحرفية وسرعة مثل “Drive-Thru” في بعض الأحيان، لكن -وهنا المفارقة- فقط عندما يتعلّق الأمر بمحاكمة سياسي معارض، أو محام يستعمل تعبيرا مجازيا لوصف حالة القضاء، أو صحافي عبّر عن رأيه في منبر إعلامي أو كتب مقالا نقديا أو تحليليا أو حتى تدوينة فيسبوكية، فتتحول الإجراءات القضائية وإصدار الأحكام إلى خدمة سريعة تتجاوز ضمانات وقواعد المحاكمة العادلة.

لقد نجحت الوظيفة القضائية بحرفية في إرساء هذه الخدمة (Drive-Thru) لصالح الوظيفة التنفيذية (النظام) فتحوّلت السلطة إلى زبون والقضاء إلى مسدي خدمات، ولمن يشكك في هذا النجاح منقطع النظير في مثل هذه الخدمات، عليه أن يعود إلى محاكمة القاضي الإداري السابق والمحامي أحمد صواب، لقد حققت المحكمة رقما قياسيا عالميا في سرعة محاكمة المتهم، وكانت سبع (7) دقائق كافية لإصدار حكم بسجنه لمدة خمس سنوات مع ثلاث سنوات مراقبة إدارية، ولتكون هذه الخدمة السريعة حرفية وتستجيب للمعايير الدولية لـ”نوافذ الخدمات السريعة” فقد رأت المحكمة أن تكون جلسة المحاكمة دون مرافعات ودون تلاوة لقرار دائرة الاتهام، وأيضا دون استنطاق، وحتى دون طلبات، بل دون حضور المتهم نفسه!

ألا تعجز كبريات شركات الخدمات السريعة في العالم عن تقديم مثل هذه الحرفية والسرعة؟ إذا فنحن أمام تطورات كبيرة يشهدها المرفق القضائي ولا يمكن أن نتذيّل قائمة الترتيب في أيّ تصنيف عالمي للعدالة واستقلال القضاء.

كانت جلسة المحامي أحمد صواب أشبه بمسرحية عرّت الوجه الحقيقي لما أصبح عليه القضاء التونسي، فنظرا لتمسّك المحكمة بإجراء المحاكمة عن بعد قرّر صواب عدم المثول أمامها، مؤكدا إصراره على الحضور والدفاع عن نفسه، وكانت الدقائق التي استغرقتها كلمة عميد المحامين رفضا للمحاكمة عن بعد، كافية بالنسبة للقاضي لرفع الجلسة للمفاوضة والتصريح بذلك الحكم الذي سيبقى وصمة عار على جبين كل قاض شارك في مثل هذه المهزلة.

وأمام هذه الخروقات الجسيمة التي لم تميّز في حقيقة الأمر محاكمة صواب فقط، بل أصبحت سمة جامعة لكل المحاكمات السياسية، ومحاكمات الرأي في تونس، بدءا بقضيتي ما يعرف بـ”التآمر على أمن الدولة 1 و2″ ومحاكمات الصحافيين والمنظمات والجمعيات المدنية وصولا إلى محاكمة المواطنين بسبب تدوينات فيسبوكية استنادا إلى المرسوم عدد 54، عبّرت هيئة الدفاع عن رفضها القاطع لهذا الحكم “الفضيحة”، مع تجنّدها الكامل من أجل إسقاطه بكلّ الوسائل القانونية والمشروعة.

إنّ مدى العبث الذي بلغه التعاطي القضائي مع الحقوق والحرّيات، أدّى إلى محاكمات برقيّة، جرت دون مرافعات وفي غياب المتهمين ولسان الدفاع، وفي قضية الحال تجاوزت المحكمة هذا المعطى الخطير، متجاهلة وجوبية حضور محام أمام الدوائر الجنائية طبقا للقانون، ومُمعنة في خرق أبسط ضمانات المحاكمة العادلة.

وقد أجمع عدد من رجال ونساء القانون، أساتذة كليات الحقوق والتصرف والعلوم السياسية، وقضاة وحكام من سلك القضاء والعدالة ومحامين ومحاميات، وخبراء ومهنيّي القانون والقضاء على المظلمة التي تعرّض لها الأستاذ أحمد صواب، وأكدوا في “عريضة” وطنية أنّ كلماته الصادقة والكاشفة للحقيقة، كانت كافية للإلقاء به خلف القضبان كـ”إرهابي خطير”، معتبرين أنّ الظروف التي جرت فيها المحاكمة غير مقبولة، وذلك لما شابها من انتهاكات متعددة وجسيمة بما يهدد مفهوم العدالة ودولة القانون، كما طالبوا بإطلاق سراحه فورا، وبوضع حدّ لهذا العبث، الذي يتّسم بتجاوز السلطة والمخالفات الإجرائية، وخرق أبجديات القانون الجزائي واستخدام التشريعات الاستثنائية، وقضاء التعليمات.

من جانبه تطرّق الاتحاد العام التونسي للشغل، إلى ما تضمنته المحاكمة من تهم ملفقة لا يمكن أن تصدر عن قاض سابق معروف بالنزاهة والاستقلالية ومحام مدافع عن الحقوق والحريات ومناهض للعنف والإرهاب.

كما اعتبرت عدّة منظمات وجمعيات أنّ عقد جلسة عن بُعد يمثّل انتهاكا صارخا لحق الدفاع والمحاكمة العادلة، وأنّ استهداف أحمد صواب يأتي في سياق أوسع من الانتهاكات في حق المعارضين السياسيين والتضييق على المحامين والصحافيين والمدافعين عن حقوق الإنسان في تونس.

ما جرى مع صواب ليس حكما قضائيا فحسب، بل إعلان رسمي بأن الدولة قررت أن تُحاكم ضمائرها الحية، فالأحرار يدفعون ثمن الكلمة، والنظام يختنق من كل صوت لا يركع.

في المحصّلة هي جلسة خاطفة، يغيب فيها المتهم، وتحضر فيها تهم مفصّلة على مقاس الرغبة في الانتقام، فهل هذا قضاء؟ أم لائحة تنفيذ لرغبة سياسية تريد إخضاع البلاد بالصمت والخوف؟

سُجن “الصواب” لأنه رفض أن يرى القضاء يتحول إلى “سكين” -وهنا العبارة مجازية- ولأنه قال ما يعرفه الجميع اليوم، من ينتقد ينكّل به، ومن يصمت ينجو… مؤقتا.

وتبقى الحقيقة أبسط من كل هذا العبث، يمكنك تكميم الأفواه، لكن الظلم لا يصنع شرعية، ولا يبني دولة، ولا يطيل عمر أيّ تجربة حكم تتأسس على الترهيب والتنكيل.

أحمد صواب لم يُسجن لأنه أخطأ، بل لأنه أصاب.

إلى الأعلى
×