الرئيسية / صوت النقابة / قيس سعيّد والاتحاد: حرب استنزاف وليس حرب تحرير
قيس سعيّد والاتحاد: حرب استنزاف وليس حرب تحرير

قيس سعيّد والاتحاد: حرب استنزاف وليس حرب تحرير

بقلم حبيب الزموري

لم تعد المسرحيات الشعبوية التي يؤلفها ويخرجها ويوزّع الأدوار فيها قيس سعيد ومَن وراءه تنطلي على أحد إلا من كانت له حسابات انتهازية مع هذا النظام الحاكم فاختار لنفسه موقعا في جوقة التهليل والتمجيد للقائد الأوحد والشيطنة والتجريم لمعارضيه. ينطلق الأمر كالمعتاد بتصريح أحادي متوحّد مع ذات الزعيم لا يحتمل الرد أو التعقيب حتى لو كان بحضور أطراف أخرى حول “العصابات” و”اللوبيات” و”الخونة” الذين يعطلون مسار البناء والتشييد ويحولون بين الشعب والوصول إلى المنعطف التاريخي الذي بشّر به الزعيم حيث ينتظرهم الازدهار والرخاء لتنطلق الأجهزة الدعائية الشعبوية في توزيع الاتهامات واقتراح الأحكام من المؤبد إلى الإعدام أو السحل أو الحلّ والتجميد إذا تعلق الأمر بحزب أو جمعية أو نقابة. أمّا إذا كان الرئيس أكثر وضوحا في توزيع صكوك التآمر والخيانة فإنه يكون قد سهّل الأمر على ميليشياته الدعائية لتستهدف مباشرة المعني بالأمر. وقد تركز الاستهداف منذ أشهر على الاتحاد العام التونسي للشغل وبلغ مستويات خطيرة بتحريض مباشر من رئيس الدولة الذي وصل به العداء للمنظمة الشغيلة، رغم ما يدعيه من تبنّي لمقولات مؤسسيها، إلى حدّ توفير الغطاء السياسي وتبرئة المعتدين على دار الاتحاد بساحة محمد علي يوم 7 أوت 2025 من نوايا الاعتداء والاقتحام معتبرا أن ما قاموا به تعبير عن الرأي وحق مشروع. ومهما كانت الأهداف الحقيقية لتلك العملية فإنها كانت حلقة في سلسلة من الممارسات الفاشية التي تستهدف كيان ووجود المنظمة سبقتها حلقات وتلتها حلقات أخرى، بتوزيع مدروس للأدوار بين “كلاب حراسة” المنظومة الشعبوية، تخفت وتشتدّ حدة هذه الحملات وفقا لحدة الأزمة التي تعيشها الشعبوية في سدّة الحكم وعجزها عن تقديم حلول واقعية وفعلية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي تتعمق يوما بعد آخر ليتحول عجزها هذا إلى أزمة سياسية خانقة.

ووصل الأمر في الأيام القليلة الفارطة بأحد رؤوس حربة الدعاية الشعبوية على شاشة إحدى القنوات الخاصة إلى التهديد الصريح باعتقال عدد من أعضاء القيادة النقابية موزعا كالمعتاد التهم بالفساد والعمالة لقوى أجنبية.. ليردف هذا التهديد بعد ساعات بنشر وثائق مأخوذة من منصة البنك الدولي يزعم أنها تفضح علاقة المركزية النقابية بالتمويلات والأطراف الخارجية ممعنا على غرار وليّ نعمته في الاستعراض اللغوي والحركات الاستعراضية (النظر إلى الساعة والإيحاء بأن الإيقافات في صفوف القيادة النقابية مسألة ساعات). لقد أشرنا في أكثر من مقال في جريدة “صوت الشعب” إلى الجذور الفاشية لهذا الخطاب وهذه الحملات التحريضية ضدّ الحقوق النقابية بوصفها جزءا من الحقوق العامة والفردية التي عادة ما تكون مقدمات للعنف والقمع والتنكيل، وهو ما انطلقت السلطة الشعبوية في ممارسته على أرض الواقع سواء بواسطة أجهزة الدولة أو بواسطة ميليشياتها. هذا بالإضافة إلى الجوهر الفاشي لمفهوم الدولة لدى قيس سعيد من خلال حرصه بمناسبة وبدونها على إحاطة الدولة وموقعه فيها بسياج دغمائي مقدس ومدجج “بالصواريخ المعدة للإطلاق في منصاتها” بتعبير قيسوني لضرب أيّ محاولة لمشاركة الدولة في إدارة الشأن العام بالمراقبة والنقد وإبداء الرأي. كل هذا يعتبر في العرف الشعبوي نيلا من هيبة الدولة وتآمرا واعتداء على صلاحيات القائد الملهم صاحب الرسالة التاريخية وقائد معركة التحرير الوطني ليس في بلادنا فقط بل إنّ السيد قيس سعيد لا يتردد كلما أتيحت له الفرصة في تبشير العالم بأسره بنظام عالمي جديد. إنّ هذا المفهوم للدولة وانصهارها في شخص قائدها مفهوم فاشي لا يحتمل التأويل ويلخص شعار الدولة الفاشية التقليدية “الكل في الدولة، لا شيء خارج الدولة، ولا شيء ضدّ الدولة”. من هذا المنطلق فإن استهداف قيس سعيد للاتحاد العام التونسي للشغل ليس استهدافا ظرفيا في إطار إعادة تشكيل علاقة جهاز الحكم بالمجتمع والقوى المعبّرة عنه كما أن الأمر لا يتعلق بأزمة حوار اجتماعي وتفاوض بقدر ما يتعلق الأمر بنسف لكل تواجد مدني أو نقابي أو سياسي خارج إطار الرؤية الشعبوية للدولة والمجتمع والتي توغل في إحاطة نفسها بهالة مقدسة تصل إلى حدّ الادعاء بأن زعيمها يحمل تفويضا إلاهيا لأداء رسالته ممّا يجعله متعاليا على المجتمع وعلى أجهزة الدولة نفسها، فهو لا يتردد في اتهام أجهزته ووزرائه بالتقاعس والفساد والتآمر للإيحاء بأنهم منفصلون عنه ولا يتحمل مسؤولية عجزهم وفشلهم رغم أنهم مجرد أدوات هو من قام باختيارهم لتنفيذ تعليماته وأوامره وقد راق هذا الخداع والوهم لأنصاره فتبنّوه في دعايتهم ودفاعهم الأهوج عن زعيمهم.

إنّ قيس سعيد يعرف جيدا ماذا يريد بقطع النظر عن مدى واقعية ومعقولية ما يريده ومدى استجابته لطموحات وانتظارات التونسيات والتونسيين بل إنه يعتقد اعتقادا راسخا أنّ إرادته تلك ليست سوى تعبيرا مكثفا عن الإرادة الشعبية وأنّ صوته هو الصوت الوحيد المعبّر عنها ممعنا في إنكار مظاهر العجز والفشل والإحباط من خطاباته وشعاراته الرنانة على أرض الواقع، بل إنه يمعن في التعسف على الواقع بمحاولة اختلاق واقع يستجيب لمقولاته مثلما حدث يوم 7 أوت بساحة محمد علي ويوم 24 أوت 2025 بصفاقس في محاولة لاختلاق رأي عام شعبي معاد للاتحاد العام التونسي للشغل تمهيدا لما هو أخطر، ولكن فشل هذه المحاولات في تحقيق أهدافها أجبر سعيد وأنصاره على تأجيل ضربتهم الحاسمة والاكتفاء بمواصلة المناوشات وحرب الاستنزاف مع المنظمة الشغيلة.

إنّ ما يثير الاستغراب والحيرة حقا لا سيّما في أوساط عموم النقابيات والنقابيين هو هذا التناقض الصارخ بين وضوح رؤية قيس سعيد والساهرين على تنفيذ مشروعه الشعبوي الاستبدادي وإصرارهم على المضيّ قدما في حربهم ضدّ الحريات العامة والفردية وبين ارتباك وتذبذب القيادة النقابية وتركيزها على تحصين مواقعها ومحاصرة الأصوات النقابية الناقدة للمسار الذي دخل فيه الاتحاد منذ مؤتمر سوسة غير الانتخابي أكثر من تركيزها على المخاطر الداهمة على المنظمة، بل إنّ غياب اليقظة السياسية عن قيادة المنظمة ورّطت الاتحاد في مواقف تتناقض مع مبدأ الاستقلالية عن السلطة بدعمها للانقلاب الشعبوي في 25 جويلية 2025 دون وعي بالتهديدات التي يخفيها هذا المشروع والتي تستهدف الحريات العامة والفردية وفي مقدمتها الحق النقابي وحق التنظم وحرية التعبير… إنّ غياب اليقظة وتذبذب البوصلة في صفوف قيادة منظمة في حجم وعراقة وتجربة الاتحاد يثير تساؤلات كبيرة عن مدى سلامة ونجاعة آليات النقاش الديموقراطي واتخاذ القرار داخل المنظمة لا سيّما في القضايا المصيرية.

لم تكن محاولة تدارك الموقف من قبل المركزية النقابية حول علاقتها بالسلطة ترتقي إلى مستوى استهداف السلطة للمنظمة النقابية وللحقوق النقابية عامة حيث تتالت الإيقافات والمحاكمات وحملات الشيطنة والتشويه والاتهامات بالفساد والتآمر والخيانة وغيرها من الاتهامات التي طالت نقابيين من مختلف المواقع من الاتحادات المحلية والجهوية إلى النقابات الأساسية والفروع الجامعية والجامعات العامة والتلميح مرارا وتكرارا إلى أعضاء المكتب التنفيذي الوطني والتي يكفي واحد منها فقط بالحكم على صاحبها بالإعدام عدة مرات وحتى لو كان المتهم نقابيا سابقا ولا يتحمل أية مسؤولية نقابية لحظة إيقافه. إن تعامل جحافل الشعبوية مع هذه القضايا بالذات يكشف الهدف الحقيقي منها، إذا سرعان ما تتبخر كل المعطيات والاتهامات المحيطة بالقضية ويقع التركيز فقط على الصفة النقابية للمتهم وتنزيلها ضمن الهجمة العامة ضدّ المنظمة الشغيلة.

رغم شبه الإجماع في أوساط النقابيين على أنّ العلاقة بين الاتحاد العام التونسي للشغل ورأس السلطة التنفيذية قد وصلت إلى مرحلة القطيعة وأنّ الصراع بينهما قاب قوسين أو أدنى من أن يصبح صراعا وجوديا، فإن نفس هذه الأوساط النقابية على قناعة تامة جرّاء عجز قيادة المنظمة الحالية على توحيد الوعي النقابي بفداحة الأزمة ناهيك عن توحيد الممارسة لمواجهتها، بل إن هذه القيادة كانت تراهن في كل لحظة من عمر أزمتها الداخلية وأزمتها مع السلطة – وإلى حدّ اللحظة – على عودة الحوار والتفاوض مركزيا وقطاعيا. إنّ الوعي الخاطئ والمزيف يقود بالضرورة إلى ممارسات خاطئة ومزيفة لا تعبّر عن مصالح الشغالين بالفكر والساعد ولا عن مصالح الشعب التونسي الذي ينتظر من منظمته الاتحاد العام التونسي للشغل أن تكون في مستوى المكانة التاريخية والرمزية التي تحتلها في ذاكرة التونسيات والتونسيين، لا أن تتحول إلى مطيّة لكل من هبّ ودبّ لاستهدافها وترذيلها في طريق التقرب من الحاكم بأمره في البلاد

إلى الأعلى
×