الرئيسية / الافتتاحية / من أسبوع الهجوم على الجمعيّات إلى أسبوع الهجوم على المعتقلين السياسيّين، لا ردع للدكتاتورية إلا بالنضال الواعي والمنظّم
من أسبوع الهجوم على الجمعيّات إلى أسبوع الهجوم على المعتقلين السياسيّين، لا ردع للدكتاتورية إلا بالنضال الواعي والمنظّم

من أسبوع الهجوم على الجمعيّات إلى أسبوع الهجوم على المعتقلين السياسيّين، لا ردع للدكتاتورية إلا بالنضال الواعي والمنظّم

انشغل الرّأي العام الديمقراطي خلال الأسبوع المنقضي بما يتعرّض له المعتقلون السياسيون وعلى رأسهم جوهر بن مبارك، الذي يخوض منذ ما يزيد عن الأسبوعين إضرابا وحشيّا عن الطعام، من تنكيل متعدّد الأوجه. فرغم الحالة الصحّية الخطرة لجوهر فقد تمّ الاعتداء عليه بالعنف في زنزانته من قبل عدد من الأعوان ومساجين الحق العام لإرغامه على وقف الإضراب وفقا لإفادة محاميته التي رفعت قضيّة في الأمر. ولم تقف الأمور عند هذا الحدّ فقد شنّت السّلطات حملة تشويه واسعة ضدّ جوهر وضدّ كلّ من عصام الشابي وعبد الحميد الجلاصي ورضا بلحاج الذين دخلوا بدورهم في إضراب عن الطعام لنفس الأسباب (المطالبة بإطلاق السراح ووقف المهزلة السياسية القضائية الجارية) مدّعية أنّه “لا وجود لمساجين مضربين عن الطعام” في معتقلاتها وأنّ المعتقلين المذكورين في تصريحات المحامين أو أفراد عائلاتهم يتناولون الطعام بشكل عادي. ووصل الصّلف بالمؤسّسة السجنيّة، التابعة لوزارة العدل، إلى حدّ رفع قضيّة ضدّ ثلاثة من محاميي جوهر وهم الأستاذة دليلة بن مبارك مصدّق والأستاذان عيّاشي الهمّامي وسمير ديلو، متّهمة إياهم بـ”ترويج أخبار زائفة” لأنّهم تحدّثوا للرّأي العام عن إضراب منوّبيهم عن الطعام، هذا في الوقت الذي نقل فيه جوهر أكثر من مرّة، حسب عائلته، للمستشفى لظهور مؤشرات واضحة عن تدهور حالته الصحّية. يضاف إلى كلّ ذلك العراقيل والتعطيلات التي يتعرّض لها المحامون لمنعهم من زيارة منوّبيهم خلافا لما تنص عليه القوانين الجاري بها العمل.

إنّ ما يجري هذه الأيام بصدد إضراب جوع جوهر بن مبارك وعدد من رفقائه في قضية التآمر المفتعلة وغيرها من القضايا التي تشمل سياسيين ومحامين وإعلاميّين، يذكّرنا دون أدنى شكّ بالحالة التي عشناها في عهد دكتاتورية ين علي وإن بأشكال أكثر مهزليّة: اعتقالات عشوائيّة، قضايا ملفّقة تلفيقا، محاكمات دون تحقيق ودون استنطاق حضوري ودون مرافعات لسان دفاع، عراقيل لتعطيل زيارة المحامين لمنوّبيهم، أحكام اعتباطيّة، حملات تشويه وشيطنة رسمية وعن طريق وكلاء أو بالأحرى “قوّادة” من طراز سخيف، ظروف اعتقال سيّئة الخ… وهو ما دفع بضحايا هذه الممارسات القمعيّة إلى استحضار نفس أساليب النّضال المتبعة زمن دكتاتورية بن علي ومن قبله بورقيبة، والتي تتمثّل أساسا في الإضراب عن الطعام الذي يعني وضع المعتقل صحّته وحياته في الميزان أمام عجرفة نظام الحكم وعدم احترامه لأبسط القوانين والإجراءات. لقد ابتدعت بعض وسائل الإعلام الأجنبية في عهد بن علي عبارة “المتلازمة التونسية” (le syndrome tunisien) للتعبير عن انتشار ظاهرة إضراب الجوع في تونس بسبب التضييق على الحريات وسيادة الجور والظلم ممّا يدفع ضحايا هذا المناخ إلى وضع صحتهم وحتى حياتهم في الميزان دفاعا عن حقّ مهدور أو حرّية منتهكة. وهو ما نعيشه اليوم بالضبط، ناهيك أنها ليست المرّة الأولى التي يضطرّ فيها جوهر ورفقاؤه في القضية وغيرهم من المعتقلين السياسيّين إلى الإضراب عن الطّعام وهو ما يعبّر، بالإضافة إلى ما يتعرّض له عديد النّشطاء ومن بينهم نشطاء قابس من أجل بيئة سليمة، من ملاحقات قضائيّة، وما تتعرّض له عديد الجمعيات من إجراءات تجميد، والاتحاد العام التونسي للشغل من تضييقات تهدف إلى إلغاء دوره في انتظار فرصة الإجهاز عليه، والإعلام من تدجين، عن التفاف سلطة الانقلاب، على المكاسب الديمقراطيّة التي حقّقها الشعب التونسي بتضحياته والعودة بالبلاد إلى مربّع الدكتاتورية والفاشيّة.

وما من شكّ في أنّ كلّ هذا الظلم والجور لا هدف منه في النهاية سوى إخضاع الشعب التونسي وحرمانه من أبسط وسائل الدفاع عن حريته وحقوقه حتّى تفرض عليه جميع الإجراءات الاقتصادية والاجتماعية التي تعمّق فقره وبؤسه كما تعمق تبعية تونس للخارج خدمة لمصالح حفنة الأثرياء المحليين والأجانب، من دول وشركات، الذين يريدون تحميل تبعات أزمتهم الخانقة للطبقات والفئات الكادحة والشعبية. وليس أدلّ على ذلك من أنّه في الوقت الذي يشتدّ فيه القمع والعسف السياسي، نرى حكومة سعيّد تعرض على برلمان الدمى ميزانية جديدة قائمة على إثقال كاهل الشعب بمزيد الضرائب رغم بعض الإجراءت الجزئية والشكليّة ذات الطابع الديماغوجي من جهة وعلى إثقال كاهل البلاد بالاقتراض، الداخلي، والخارجي من جهة ثانية في الوقت الذي يستمر فيه تراجع إمكانيات الاستثمار وبالتالي إنتاج الثروة بما يعمّق المشاكل الاجتماعية وفي مقدمتها البطالة والفقر. ومن المضحكات المبكيات أن ميزانية حكومة الحاكم بأمره هذه السنة أثارت استياء حتّى من كانوا بالأمس القريب من أشرس المدافعين عن سلطة الانقلاب فإذا بهم اليوم يهاجمون رأسها ويصفونه بالفاشل. وإذا كان لهذا الأمر من معنى فهو أنّ الخناق ما ينفكّ يضيق على قيس سعيّد وبطانته ومن المؤكّد أنّه سيضيق أكثر في القادم من الأيام مع تواتر الاحتجاجات الاجتماعية في أكثر من قطاع في الوقت الذي تهدّد فيه المركزيّة النقابية بالإضراب العام. وهو ما يلقي على عاتق حزبنا وعلى عاتق كافة القوى الثورية والديمقراطية والتقدّمية المتابعة الدقيقة لما يجري في الساحة وما يعتمل في أحشاء المجتمع التونسي وما يتطلّبه من برامج ملموسة وواضحة وقادرة على الإجابة على تطلعات الشعب التونسي حتى لا يغدر مرّة أخرى بأي طريقة من الطرق بما فيها “انقلاب ناعم” جديد بترتيبات داخلية وخارجية وتذهب تضحياته سدى. إن التصدي اليومي لانتهاكات الحريات والحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ووقف فبركة القضايا وتنظيم المحاكمات الجائرة ينبغي أن يرتبط برؤية واضحة لمستقبل بلادنا وشعبنا حتى نستفيد من أخطاء الماضي ونحول دون تكرارها. إن الدكتاتورية لا تردع إلّا بالنضال الذي لا يحقق جدواه إلّا عبر التسلّح برؤية واضحة للمستقبل.

إلى الأعلى
×