الرئيسية / الافتتاحية / معا من أجل إفشال مخطط الانتداب الجديد في غزّة
معا من أجل إفشال مخطط الانتداب الجديد في غزّة

معا من أجل إفشال مخطط الانتداب الجديد في غزّة

أصدر مجلس الأمن قراره عدد 2803 بتاريخ 17 نوفمبر 2025 المتعلّق بتنفيذ خطة ترامب حول غزة. وقد جاء القرار منسجما مع برنامج الامبريالية الأمريكية وكيان الاحتلال اللّذين يريدان تحقيق ما عجزا عن تحقيقه بالقوة طيلة عامين من العدوان الذي مسح غزة بالأرض دون أن ينال من عزيمة أهلها ومقاومتها. لقد نصّ القرار على الشروع في تنفيذ الخطوة الثانية من خطة ترامب حول وقف الحرب والتي تهمّ أساسا نزع سلاح المقاومة بالتوازي مع بعث “مجلس السلام” الذي سيكون بمثابة الإدارة الانتقالية الدولية “ريثما تستكمل السلطة الفلسطينية برنامجها الإصلاحي” بشكل يرضي الطرف الصهيو-أمريكي، إلى جانب تشكيل “قوة دولية مؤقتة” تستمر في “مهامّها”حتى نهاية 2027 مع إمكانيّة تجديدها كل ستة أشهر. ويتمّ تنفيذ هذه الخطوات بـ”التعاون والتنسيق الكاملين مع مصر وإسرائيل والدول الأعضاء الأخرى التي تواصل العمل مع القوة الدولية”، والمقصود بـ”الدول الأخرى” هو قطر وتركيا. وقد أشاد القرار في ديباجته بخطة ترامب المكونة من 20 نقطة والتي تمّ على أساسها نظريّا (لأن الاعتداءات استمرّت بشكل يومي) “إيقاف الحرب” يوم 11 أكتوبر الماضي. وقد أضيفت الخطة كملحق للقرار. هذا وقد امتنعت كلّ من الصين وروسيا عن التصويت وأعلنتا “تخوّفهما” من عدم التنصيص على حلّ الدولتين بما يجعل القرار هشّا خاصة مع عدم تعهد قادة كيان الاحتلال بأيّ التزام يخصّ المهمات المباشرة المتعلقة بإيقاف العدوان أو “الحل الدائم للصراع”. هذا وقد أعدّت روسيا بمعية الصين قرارا معدّلا لا ينصّ على مجلس السلام ويكلّف السلطة الفلسطينية بإدارة القطاع في أفق “حلّ الدولتين”، ولكنّ هذا المقترح لم يمرّ ومع ذلك لم تستعمل الدولتان حق النقض “بعد الاطلاع على موقف سلطة رام الله وموقف العديد من الأنظمة العربية والإسلامية التي أيّدت مشروع القرار الأمريكي”، فيما صوتت الجزائر دون أيّ تحفظ على القرار، وللعلم فإن الجزائر تمثل مجموع الدول العربية في مجلس الأمن.

لقد أثار القرار سيلا جارفا من ردود الأفعال إذ رفضته كل فصائل العمل الوطني الفلسطيني بما في ذلك حركة فتح رغم ترحيب عملاء رام الله بقيادة محمود عباس بها، كما أدانتها وأدانت الواقفين عليها والمسوّقين لها كل قوى إسناد الحق الفلسطيني في العالم. إنّ هذا القرار يمثل طعنة إضافية للقضية وللشعب الفلسطينيين وهو واقعيّا استعادة مأساوية لقرار الانتداب على فلسطين الذي اتخذته عصبة الأمم عام 1924. وهو القرار الذي وضع المشروع الصّهيونيّ على سكّة التنفيذ برعاية ودعم من الامبريالية العالمية التي تقودها وقتها الامبريالية الانقليزية مدعومة من الامبريالية الأمريكية والفرنسية، وهو ما استكملته هيئة الأمم المتحدة يوم 29 نوفمبر 1947 بإقرار تقسيم فلسطين بين أهلها وغزاتها. إنّ القرار الأخير هو إعلان لانتداب جديد يقضي ببسط السيطرة المباشرة على قطاع غزة من قبل دول أجنبية، مع استثناء الفلسطينيين مهما كانت صفتهم بما في ذلك سلطة رام الله الموالية والمستعدّة لأقذر المهمات السياسية والأمنية. ولم يتردّد صنّاع قرار مجلس الأمن والمصوّتون عليه بمن فيهم الطرف “العربي” الذي تكلمت باسمه الجزائر بلد المليون ونصف شهيد في وصف المقاومة بالإرهاب. أمّا سلطة عباس فلم تشفع لها طاعتها الذليلة من اتهامها ضمنيّا بـ”الفساد” وهو ما يستوجب “تأهيلها وإصلاحها” (اقرأ : إعدادها لكي أمنيّا وعسكريا لكي تكون قادرة على إخضاع الشعب الفلسطيني) حتى تتولى الإشراف لاحقا على قطاع غزة.

إنّ هذا التدخل السّافر في شؤون الشعب الفلسطيني كان على الدوام عقيدة امبريالية شأنه شأن التواطؤ مع كيان الاحتلال النازي الذي لم يُدِن القرار جرائمه ولم يقيّد حركته، بل إنّه نصّ على أن يتمّ كلّ شيء في غزّة بموافقته ومشاركته. أمّا اللاعب الأكثر تواطؤا في مجمل الملف الفلسطيني فهو النظام الرسمي العربي الذي اكتملت صفوفه بالتحاق ما يُسّميه البعض “الأنظمة الراديكالية” ممثلة في النظام الجزائري الذي ظل لمدّة يتخفّى وراء الشعارات التي كان يرفعها قبل تسعينات القرن المنصرم ضمن ما سمّي وقتها “جبهة الصمود والتصدي” التي جمعت الأنظمة ذات الخلفية القومية والبعثية والتي سقط جميعها فيما شهد النظام الجزائري تحولات داخلية جعلته يتكيّف مع ما يجري حوله، وها هو اليوم يريد احتواء نوايا استهدافه وهو مستعد للمقايضة والتسوية بما تمتلك أياديه من أوراق مثل الملف الصحراوي أو الموقف من القضية الفلسطينية خاصة أمام مغازلات ترامب الأخيرة من خلال ما أظهره من استعداد للتوسط مع المغرب بما يعني قبولا بنظام الجزائر لكن ضمن الترتيبات الأمريكية للمنطقة. هذا ما يفسّر انخراط نظام الجزائر في الخطّة الأمريكية والتخلي حتّى عن حليفيه التقليديين أي روسيا والصين اللذين تقدّما بمبادرة هي الأقرب إلى السردية الرسمية الجزائرية التقليديّة ليقبلا في النهاية بالأمر الواقع الصهيو-أمريكي متذرّعين بالموقف العربي الرّسمي غير مباليين بموقف المقاومة. وهكذا وجد الشعب الفلسطيني نفسه للمرة الألف وحده في وجه تحالف واسع أصدر قرارا أمريكيا صهيونيا بما يشبه الإجماع. لقد ظل الشعب الفلسطيني طيلة عامين من العدوان صامدا بمفرده عدا إسناد الأحرار من فصائل المقاومة في الإقليم وشعوب وقوى تقدمية في مختلف أنحاء العالم وهو ما خلق تحوّلا مهمّا في مزاج الرأي العام العالمي بما شكل ضغطا جديا على عديد الدول التي فرض عليها اتخاذ بعض المواقف وتعديل أخرى إن لفظيا أو عمليا مثل ملاحقة مجرمي الحرب أو منع دخولهم أو تجميد صفقات تسليح… لقد حققت القضية الفلسطينية في العامين الأخيرين اختراقا استراتيجيا مهمّا رغم التدمير الواسع وحرب الإبادة البشعة، وها هي اليوم لا ترمي المنديل ولا تقبل بقرار مجلس الأمن رغم أنّها قبلت في البداية بخطّة ترامب في عناوينها الكبرى الخاصة بوقف الحرب وتبادل الأسرى وفتح المعابر لدخول المساعدات، بهدف التقاط الأنفاس والتخفيف من وطأة الوضع على الشعب الفلسطيني وليس للاستسلام للعدو الصهيوني ولا راعيه الأمريكي.

إنّ ما تمرّ به القضية الفلسطينية اليوم هو عينه ما عاشته حركات التحرر قديما وحديثا، فأرض التحرر لم تكن في يوم من الأيّام مفروشة بالورود بل كانت كلّها أشواك كما أنّ خطّ سير التحرر لم يكن في يوم من الأيام مستقيما بل كان دائما مليئا بالتعرّجات والمطبّات. إنّ شعب فلسطين الذي صمد في وجه الإبادة والتهجير وفي وجه الاستيطان منذ ما يزيد عن القرن من الزمن لن يهزم ومن المؤكّد أنّه سيواجه خطة الانتداب الحاليّة بثبات وذكاء مستفيدا من الضربات الموجعة والمنهكة التي تلقاها كيان الاحتلال والتي ستشكل أرضية لمراكمات مهمّة في طريق الانتصار وفرض الحق الفلسطيني الذي بات اليوم مدعوما من قبل أوساط متنامية في العالم مقابل عزلة متزايدة لكيان الاحتلال الذي افتضحت بشكل غير مسبوق طبيعته النازية الوحشية المعادية للإنسانية كما افتضح داعموه ومشاركوه والمتواطئون معه في حرب الإبادة من إمبرياليين ورجعيين عرب ومسلمين. وما من شكّ في أنّ المطروح على كل القوى الثورية والتقدمية والمعادية للامبريالية في العالم وفي المنطقة مواصلة إسناد الشعب الفلسطيني ومقاومته في هذا الظرف الدقيق لتخفيف الضغط عليه ولإفشال خطة الانتداب. إنّ نفس المحاور التي قام عليها التضامن مع الشعب الفلسطيني بالأمس تبقى صالحة اليوم: وقف الاعتداءات في غزة والضفة، انسحاب جيش الاحتلال النازي من غزة، فتح المعابر بالكامل أمام المساعدات، محاكمة مجرمي الحرب وعلى رأسهم نتنياهو، وقف دعم الكيان ماليا وعسكريا وقطع العلاقات معه، احترام حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واستعادة أرضه بالكامل وبناء دولته المستقلة الخ… ومن البديهي أنّ من أوكد المهام بالنسبة إلينا في تونس مواصلة النضال من أجل تجريم التطبيع وإلغاء كل الاتفاقيات الأمنية والعسكرية مع الامبريالي الأمريكي الغربي وفي مقدمتها اتفاقية “الحليف المميّز خارج الناتو”. فليكن يوم 29 نوفمبر القادم، اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، فرصة أخرى لتجديد دعمنا له ولمقاومته الباسلة وللمطالبة بتجريم التطبيع مع الكيان الغاصب.

إلى الأعلى
×