بقلم سمير جراي
لم يكن المشهد في ساحة الحكومة بالقصبة يوم الخميس مجرد وقفة احتجاجية عابرة للصحافيات والصحافيين التونسيين، ولم يكن تحركا مهنيا فحسب، بل معركة من أجل الحرية، أو فلنقل دون مواربة إنها انتفاضة مهنية وسياسية ضد سياسة ممنهجة لتدجين الإعلام، وإسكات الصحافيين، وتحويل البلاد إلى مساحة واحدة يعلو فيها، فوق صوت الجميع، صوت السلطة وأبواقها والمتزلّفين والانتهازيين المتلوّنين عبر كل الأزمنة.
انتفاضة الصحافيين ليست دفاعا عن أنفسهم فقط، بل دفاعا أيضا عن حق التونسي في أن يعرف (الحق في المعلومة الذي أصبح مستحيلا)، في أن يناقش، في أن يعارض، في ألا يعيش داخل “غرفة مظلمة” تصنعها منشورات رسمية وخطب رئاسية بلا معنى وبلا أسئلة ولا أجوبة.
بعد أربع سنوات من انقلاب قيس سعيد أصبح المشهد واضحا، فقطاع الصحافة يُهان ويُحاصر، وصحافيون يُساقون إلى مربّع الخوف، ونظام يشنّ حربا مفتوحة على من يعتبرهم “المزعجين” بل أكثر من ذلك، فهو يصنّف كل من لم ينخرط في ما يسمّيها الرئيس “حرب التحرير” ضمن خانة “المتآمرين”.
“لا يُستبعد أن تطبّق السلطة قريبا قانون البايات على الصحافيين” هكذا وصّف نقيب الصحافيين من أمام مقرّ الحكومة، ما وصل إليه هذا المشهد العبثي، مشهد يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن السلطة الحالية لا تخوض مجرد خلاف مع الصحافيين، بل تعتبر نفسها في حرب وجود ضدّ الصحافة المستقلة. ويدرك قيس سعيد نفسه أن الصحافة الحرة لن تتوانى عن مقارعة الاستبداد، ولن تصمت حتى لو وضع لها كل قوانين القمع والترهيب، لذلك ستتواصل أساليب الاستهداف دون أيّ وعي سياسي، مركّزة فقط على خطاب ممجوج من التخوين والتخويف وترسانة القوانين الزجرية.
المرسوم 54: دولة تُدار بنصّ لا ينطق إلا بالسجن
ظل المرسوم 54 السلاح الرسمي لخنق حرية الصحافة وتقييدها، وتكميم الأفواه وبثّ مناخ الرعب، وذراع النظام الأبرز للتضييق على المجال العام، بل أصبح عمليا أداة لمحاكمة كل صاحب تدوينة رأي أوتصريح إعلامي أو مقال صحفي ينتقد النظام الذي أصبح أشبه بالأنظمة التوتاليتاريّة (Totalitarism).
تونس التي كانت محلّ إشادة دولية في مجال حرية الصحافة، تراجعت إلى المرتبة 129 عالميا سنة 2025. تراجع لم يأتِ من فراغ، بل من سياسة ممنهجة تعتمد “التجويع المهني” والمنع والترهيب والسجن. وليس من الغريب أن حوالي 300 شخص على الأقل أُحيلوا على القضاء استنادا على المرسوم 54، وسجلت نقابة الصحافيين 14 ملاحقة من أصل 32 ضدّ صحافيين خلال سنة واحدة كلها بسبب المرسوم سيء الذكر. فضلا عن عدة أحكام بالسجن صدرت أو نُفّذت ضدّ إعلاميين. كذلك عادت إلى الواجهة القوانين البالية، من مجلة الاتصالات، وقانون مكافحة الإرهاب، وحتى المجلة الجزائية، ليتحول العمل الصحفي إلى مغامرة غير محسوبة العواقب.
ولا يقف الأمر هنا، بل الأخطر هو تواصل سجن الصحافيين والمعلّقين الإعلاميين، ومنهجية الترهيب المباشر، وما زالت شذى الحاج مبارك وسنية الدهماني ومراد الزغيدي وبرهان بسيس يقبعون في السجون، وآخرون يُلاحقون يوميا بتهم مختلفة وعبثية.
وبلغة الأرقام أيضا، سُجّل من نوفمبر 2024 إلى نوفمبر 2025، 149 اعتداء على الصحافيين والمصورين، 75 من تلك الاعتداءات ارتكبتها أجهزة الدولة وخاصة الجهاز البوليسي الذي حنّ إلى ممارساته قبل 2011. وظل الإفلات من العقاب السمة الطاغية.
إعلام عمومي مُسيطر عليه… وصحافة مستقلة مستهدفة
لم يعد الأمر متعلّق بالتضييق على الصحافيين فقط، بل أصبح استهدافا منظما للبنية الإعلامية نفسها، فحال الإعلام العمومي ليس بأفضل مما كان عليه في عهد بن علي، وعاد إعلاما حكوميا يتفنّن في أساليب البروباغندا للنظام، ويُستبعد منه أيّ صوت مختلف ولم نقل معارضا، ناهيك عن سحب مقالات وتغيير عناوين والمنع من التغطيات الصحفية لأخبار المعارضة والنقابات والمجتمع المدني.
هكذا أصبح الإعلام العمومي تحت “الإقامة الجبرية” كما كان الأمر في العهد البنفسجي، بل إن ما يجري في أروقته هو جريمة مكتملة الأركان في حق المواطن التونسي الذي يموّله من جيبه، ليقدّم له بروباغندا مفضوحة، مع تغييب كامل للرأي المخالف، واغتيال النقاش العام.
هذا السياق أنتج بالضرورة مناخا مخيفا لا يقتصر فقط على الصحافيين، بل صارت البلاد بأكملها تحت سحابة ثقيلة من الصمت. ومع اختفاء النقاش وغياب المضامين الجديّة وتراجع التعددية، وسيطرة الرواية الرسمية، غرقت البلاد في الشائعات لأن السلطة أغلقت كل قنوات الوصول إلى المعلومة.
مجلس الصحافة: مناخ متدهور ومضامين دعائية تخنق الحقيقة
لم ينتظر مجلس الصحافة كثيرا ليصدر تحذيره من تدهور المناخ الإعلامي وانتشار الدعاية المتخفّية واختلاط الخبر بالرأي والتحريض واستهداف الصحافيين، ووصل الأمر منذ أيام إلى إغلاق موقعي “نواة” و”انكفاضة” تحت ذريعة “إجراءات التدقيق المالية” بينما السبب الحقيقي بلا أدنى شك هو خطهما التحريري المستقل، كل هذا ليس إلا محاولة لخلق فضاء إعلامي مفرغ من مضامينه الحقيقية، بصوت رسمي واحد، دون نقد أو مساءلة وبعيدا عن المهنية المطلوبة.
ولعلّ أكثر مطالب الصحافيين بداهة أصبحت اليوم صراعا دون جدوى، فمازالت السلطة تماطل وتعتبر البطاقة المهنية “منّة” وليست حقا بديهيا لكل صحافي، لم يمنع حتى في العهود السابقة. فضلا عن تجميد تراخيص مراسلي الصحافة الأجنبية والتضييق عليهم في كل تحركاتهم وعملهم.
ومن نافل القول، إن النظام الذي لا يحتمل الأسئلة، ويرتعد من الصحافة الحرة إلى هذا الحدّ، لا يمكن أن يكون إلا نظاما هشّا، لا يخشى المعارضين السياسيين بقدر ما يخشى الصحافيين، فالمعارض ينافس على السلطة، أمّا الصحافي فيكشف ويفضح ويعرّي الأوهام التي يتغذّى منها النظام.
وقفة الصحافيين الغاضبين في ساحة القصبة لن تكون الأخيرة، لكنها كانت الأكثر وضوحا، فالرسالة الموجّهة لا تحتمل التأويل: إمّا أن تتراجع السلطة عن هذا المسار الانحداري، أو أنها ستواجه انتفاضة قطاع يعرف جيدا معنى الحرية، ولن يقبل أن يُعاد تدجينه بعد 14 عاما من الثورة.
إن أزمة النظام تتفاقم وهي ككرة الثلج، وكل خطوة قمعية تزيد الشرخ بينه وبين والمجتمع، فالصحافيون ليسوا وحدهم، على كل حال، خلفهم يقف محامون، وحقوقيون وسياسيون، وأساتذة، وطلبة، ونقابيون.
وأخيرا نقول إن أيّ نظام يخيّر معاداة الصحافة، فإنه يعلن بداية نهايته، لأن الأنظمة لا تسقط حين يواجهها السياسيون، بل حين يعجز الإعلام عن حمايتها من نفسها.
صوت الشعب صوت الحقيقة
