بقلم علي الجلولي
عاد الجدل في المدة الأخيرة حول إضراب الجوع كشكل من أشكال الدفاع عن الذات وعن الحقوق التي تنتهك في السجن. الجدل شارك فيه وسط واسع من الجمهور المسيّس المعارض والموالي، وشمل جوانب وزوايا متعددة لهذا الشكل الاحتجاجي الذي تؤشر عودته القوية الى التحولات الحاصلة في الوضع السياسي وخاصة من جهة شكل السلطة الحاكمة التي استعادت طابعها الدكتاتوري الذي يزج بخصومه في السجن.
لقد شنت جوقة أنصار النظام هجوما على سجين الرأي الأستاذ جوهر بن مبارك الذي أعلن دخوله في إضراب جوع وحشي رفضا لكل مسلسل التنكيل به وضرب حقه في المحاكمة العادلة، ركز الهجوم على أن الإضراب ليس وحشيا والدليل أن المعتقل مازال يتنفس وهو ما أكدته إدارة السجون ثم وزيرة العدل علنا بنفي الإضراب أصلاً بالنسبة لكل من يروّجون أنهم مضربون عن الطعام. وقد كذب تدهور الحالة الصحية للأستاذ بن مبارك الذي تم توجيهه عديد المرات الى مستشفى نابل.
ما هو إضراب الجوع في السجن؟
لا يعي عديد المشاركين في هذا الجدل خصوصية الإضراب عن الطعام في السجون التونسية التي يعاني فيها السجن ظروفا بائسة على كل المستويات وخاصة على مستوى الإعاشة والتغذية التي تعتبر أحد أهم واجهات العقاب والتنكيل، لذلك فإن السجين الذي لا ايتلقى “قفة” العائلة يعاني الأمرّين أمام رداءة أكلة السجن البائسة كما ونوعا رغم ادعاء إدخال بعض التحسينات عليها. ينضاف الى ذلك حالة الاكتظاظ وسوء الخدمات والمعاملة مما يضطر عديد السجناء الى خوض إضرابات الجوع للضغط حول هذا المطلب أو ذاك أي الذي يهمّ الحياة السجنية أو الذي يهمّ تحديد موعد الجلسة أو مراجعة الأحكام… أما المساجين السياسيين فإن إضراباتهم تشمل غالبا حق التصنيف كما تنص عليه القوانين الدولية أي الحق في التمتع بكل الظروف الإنسانية التي تهم ظروف الإقامة وحق الزيارة المباشرة أو التي تهم شروط المحاكمة وحقوق الدفاع. وهو حال جوهر بن مبارك وأصدقائه الذين خاضوا إضرابات الجوع لرفع مطالب تهم الواجهتين؛ الحياة داخل السجن والتي بلغت فيها الانتهاكات درجة عالية، أو خاصة ما يهم المحاكمة الشكلية التي صدرت عنها أحكام عالية بالسجن على خلفية الرأي السياسي لا غير.
أما تفاصيل إنجاز إضراب الجوع فما لا يعلمه العديد أن حجم الضرر الحاصل للجسم بمناسبة الإضراب وخاصة بعده هو حجم كبير وعديدة هي الأمراض المزمنة التي تترتب عن إضرابات الجوع وخاصة طولها وكثرتها. إن الإضراب في حد ذاته هو إيذاء للجسد، لذلك فإن هاجس المضرب هو كيف يخرج بأقل الاضرار، وحالة الإضراب الوحشي أصعب وأدق فهذا الإضراب لا يعني سوى قرار إعلان الموت بعد وقت قليل، لذلك فإن الالتجاء إليه هو من أخطر القرارات التي يمكن أن يضطر إليها السجين. أنه حالة يأس كلية من تحقيق العدالة. لكن السجين المضرب يعيش صراعا داخليا كل لحظة محوره أن يموت أو يؤجل موته، وأن يتناول جرعات من الماء فهذا يعني إصراره على البقاء. وأن يتناول المضرب بعض السوائل الأخرى وحتى بعض السكريات حتى لا تتدمر قدراته الجسدية فهذا موضوع كان أكثر من مرة محل جدل في أوساط المساجين السياسيين، وعموما فإن “المدرسة التونسية” في هذا المجال اتجهت الى رفض تناول أي شيء عدا الماء والسكر، وخارج السجون “التيزانا”. وفي السنوات الأخيرة من حكم بن علي بالكاد تم القبول بتناول العسل عوض السكر الذي يصبح تدريجيا مادة مقرفة وتسبب جروحا في الفم ما لم تكن ذائبة، علما وأن الرغبة والإقبال على كل هذا تبدأ في التراجع تدريجيا بعد الأيام الأولى للإضراب. وقد تسبب هذا التشدد في منع دخول أي شيء للمعدة في كوارث صحية شملت خاصة تعطل الكلى…
للعلم فإن المساجين السياسيين في العراق كانوا يتناولون أثناء إضراب الجوع حبات من التمر، وفي تركيا بعضا من الحليب. والمدرستين التركية والعراقية هما مدرستان بارزتان في النضال ضد الأنظمة الديكتاتورية وقدمتا ملاحم ونضالات عظيمة وتضحيات عالية طوال عقود. أما “النموذج التونسي” في إضرابات الجوع فهو أقرب الى النموذجي الكردي والإيرلندي، علما وأن إضراب الجوع الفلسطيني يعتبر الأكثر مرونة لذلك تمتد إضرابات الأسرى الى مدد أطول.
إن هدف الإضراب لم ولن يكون الموت أو الخروج بإعاقات، على العكس من ذلك تماما فالمضرب هو متمسك بالحياة لذلك يريد مغادرة الزنزانة في أقرب وقت ممكن. لذلك فأن يتهكم البعض أن المضرب يتناول أكلا، فهذا مقرف ومردود ومدان، وهو يعكس نزعة تشفي ودعوة مبطنة للمضرب أن يحافظ على ” نقاوة إضرابه” ويذهب الى الموت. وهذا عين السقوط السياسي والأخلاقي.
إضراب الجوع صرخة في وجه الإحساس بالقهر
لم يكن إضراب الجوع حكرا على السياسيين وأصحاب الرأي، فكثيرا ما التجأ سجناء أو أشخاص “عاديون” الى هذا السلاح الذي شكل ولا يزال صرخة واحتجاجا ضد الإحساس بالقهر وحتى بالعجز إزاء الظلم الذي يعيشه فردا أو جماعة. وعادة ما ينتشر الالتجاء الى هذا الأسلوب الاحتجاجي في أوضاع الاستبداد أين تتراجع أشكال النضال الجماهيري والجماعي لحساب أشكال النضال الفردي أو الذي تمارسه مجموعة محدودة من الأفراد. لقد ارتبط إضراب الجوع في السردية الاحتجاجية العالمية بالظلم والقهر الذي تمارسه الأنظمة الديكتاتورية ضد خصومها السياسيين وضد الشعب بشكل عام. إن الإضراب عن الطعام هو استعمال الجسد وتحويله الى آلية مقاومة واحتجاج، وتتم المساومة لتحقيق مطلب أو مطالب على الجسد الذي يتعاطف على العموم الناس معه ومع صاحبه خاصة حين يصبح مهددا. لقد حقق السجناء السياسيون وأسرى الحرية في العالم مكاسب هامة تهم الأوضاع السجنية نحو أنسنتها بفضل آلام الجوع التي تركت آثارها على الجسد حسيا ورمزيا. لقد حمل الجسد في التاريخ كل رسائل الاحتجاج والرفض، لقد كان هو الصوت حين خرست آذان الطغاة، وبفضل صموده الأسطوري حقق من المكاسب ما عجز عنه الحوار والكتابة.
أن يلتجأ جوهر بن مبارك وأصدقاؤه من المساجين الى سلاح الإضراب فهذا مؤشر على حجم التقهقر الذي تمر به الحريات في بلادنا. إن التعاطف مع جوهر هو انتصار للحرية، وإن الانخراط في تشويهه وتشويه الإضراب عن الطعام هو انحياز للقهر والقمع والاستبداد الذي يوسع قاعدة وخارطة ضحاياه كل يوم بما في ذلك نحو أقرب أقربائه، هؤلاء الذين يعتقدون واهمين أنهم بعيدون عن الإيذاء.
صوت الشعب صوت الحقيقة
