بقلم عمار عمروسية
منذ الساعات الأولى لانقلاب 25 جويلية 2021 وضع “قيس سعيد” تونس على طريق الانحدار والتقهقر تحت ضجيج لا يتوقف قوامه جملة من الشعارات الدّيماغوجية شكّلت أسس السردية الشعبوية الفاشستية المتخفية وراء طهورية زائفة تقتات من مزاعم “الشعب يريد” و”مقاومة اللوبيات والفساد” و”القطع مع الماضي” الخ…!!! ومن المفارقات العجيبة أن خطّ السير لمجمل الأوضاع منذ ذاك التاريخ هو التدحرج المتسارع نحو الوراء الذي أوصل البلاد إلى منطقة هزات شعبية متلاحقة يصعب ضبط قوادحها ومآلاتها بالنظر لعوامل عديدة فيها ما هو مرتبط بفتائل الأزمة المعقدة والديناميكيات الداخلية للحركة في مجمل سياقاتها السياسية / الحقوقية والشعبية.
فتونس اليوم تقف عند مفترق طريق شديد المخاطر: إمّا أن تسقط نهائيا تحت حكم فردي مطلق أكثر بشاعة من حقبة ما قبل ثورة الحرية والكرامة؛ أو أن تنهض وتستعيد المكانة التي تليق بتضحيات أجيال متعاقبة من أجل إقرار دولة الحق والقانون التي تمثل الجمهورية الديمقراطية الشعبية أفضل تجسيد لها. فحصيلة سنوات حكم “قيس سعيد” أكدت بما لا يدع للشك أن الشعبوية ليست سوى حلولا وهمية لمشاكل حقيقية سرعان ما افتضح أمرها الأمر الذي جعل منظومة الحكم القائمة تسارع إلى تشغيل مختلف أدوات البطش والتنكيل بهدف تحقيق هيمنتها المطلقة على الفضاء العام وإحكام قبضتها الغليظة على جميع الأجسام الوسيطة كما لم يحدث حتى في سنوات الجمر زمن “بن علي”.
وتونس اليوم وفق أغلب الملاحظين في منعرج خطير ليس فقط بسبب صلف الديكتاتورية وهمجيتها في التعاطي مع النشطاء والناشطات في مختلف المجالات السياسية والحقوقية والإعلامية والنقابية الخ… فجلّ المعارضين والمعارضات وجميع المنتقدين والمنتقدات هم في مرتبة الأعداء حسب منظور السلطة الرافضة لأيّ نوع من أنواع الاختلاف حتى وإن كان بسيطا وجزئيا، الأمر الذي دفعها إلى فتح أبواب سجونها لاستقبال أعداد متزايدة من ضحايا “فوبيا” الانقلابات وفبركة القضايا بطرق بدائية محكومة أولاّ وقبل كل شيء بنوازع تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين والانتقام منهم.
البلاد معطوبة ومعطّلة تحت حكم شمولي شارف على ابتلاع جميع مكتسبات الثورة وعلى الأخصّ في مجال الحريات ؛ وهي تختنق بعمق أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والقيمية التي نقلتها إلى موقع الدول الظالمة والفاشلة المثيرة لقلق الرأي العالمي. فتونس مع موجة الاعتقالات الأخيرة (شيماء عيسى ؛ العياشي الهمامي ؛ أحمد نجيب الشابي الخ…) وسيل الأحكام الجائرة الصادرة في الكثير من القضايا السياسية أضحت أكثر من أي وقت مضى تحت مجهر الجمعيات والمنظمات الحقوقية بالعالم ومحلّ تشهير واسع لمختلف كبريات وسائل الإعلام العربية والدولية.
تهاوت السردية الشعبوية بسرعة قياسية أمام حيثيات الواقع المزري للتونسيين والتونسيات ؛ والأهم من ذلك أن النظام نفسه وضع البلاد أمام ضرورات التغيير المطلوب، ليس فقط لدواعي سياسية وإنما اقتصادية واجتماعية وبطبيعة الحال ثقافية ووطنية. وبهذا المعنى لم تعد مقاومة هذه المنظومة المستهترة والجائرة أمرا مقتصرا على القلّة من النخبة المسّييسة بل هي شأن مجتمعي عام تتعدّد روافده إن في الأصول الطبقية أوفي خلفياته الفكرية والسياسية، وهو أمر نجد ترجمته الملموسة في تكاثر بؤر الاحتجاج واتساع رقعتها جغرافيا وبشريا. فدوائر الحراك تتكاثر ومحاورها مختلفة وتمتدّ من الواجهة السياسية والحقوقية إلى نظيرتها المطلبية والبيئية الأمر الذي جعل الخط البياني لمجمل تلك الفعاليات في تصاعد ملحوظ بما يؤكد بأن تحوّلا إيجابيا ما قد طرأ على الروح المعنوية لأوسع الطبقات والفئات الاجتماعية المتضررة من السياسات المتوحشة لهذه المنظومة.
يبدو جليّا أنّ رياح الشعب تجري بما لا تشتهي الديكتاتورية فضحايا الأخيرة شرعوا في النهوض بعضهم رمى بثقله في ساحات النضال وبعضهم الأخر مازال يتحسس طريقه نحو حلبة الصراع التي من المؤكد أن جاذبيتها قد تصبح في الأيام والأسابيع القادمة أكثر قوّة تحت عوامل عديدة منها التداعيات الوخيمة لميزانية التقشف للسنة القادمة وتصاعد الحركة الاحتجاجية للشغالين والمعطلين زيادة عن تقوّي النضال من أجل الحريات والديمقراطية.
إن مؤشرات عديدة تدفع إلى الاعتقاد بأن هذا الشتاء سيكون ساخنا وعسيرا على الديكتاتورية التي لم يبق أمامها سوى الإمعان في خنق المجتمع وتشديد الرقابة البوليسية على الفضاء العام وقمع الحريات الصحفية والسياسية وغلق كل مجالات التعبير والتنظيم الحزبي أو النقابي والجمعياتي بهدف إشاعة الخوف وفرض الصمت القسري على الجميع وهو أمر من المستحيل الوصول إليه في ظل الكثير من المعطيات الموضوعية والذاتية الحاصلة التي تفتح الطريق واسعا أمام الطبقة العاملة التونسية وباقي الطبقات والشرائح الاجتماعية صاحبة المصلحة في التغيير إلى الربط بموروثها النضالي التاريخي الجامع بين الشتاء والانتفاضة وتحويل جميع الجوانب المضيئة من ذاك المخزون الثمين إلى عناصر إضافية من شأنها تطعيم وعي هذه السنوات بما يسهم في تنشيط المقاومة وتجاوز نقائصها.
إن اشتداد الأزمات التي تعصف بشعبنا وبلادنا وجنوح السلطة نحو القوة الغاشمة في التعاطي مع كل القضايا المطروحة ومع جميع الواقفين معها تجعل من منازلة الديكتاتورية مسألة لا مفر منها ومن الطبيعي أن تكون ضمن نسق متدرج وجزئي في أطوارها الأولى وعلى الأرجح أن تبلغ تلك المنازلة ذروتها بالتزامن مع الإضراب العام إن وقع تنفيذه. فالطريق الوحيد الذي يليق بشعبنا ووطننا هو طريق المقاومة المتماسكة مع العمل على توحيد جميع أصحاب المصلحة ضمن تحالف شعبي عريض يضم الطبقة العاملة وباقي الطبقات والفئات الشعبية بهدف تخليص البلاد من هذه المنظومة الرجعية العميلة التي وإن حاولت البروز في مظهر “الحكم القوي” فإن مكامن ضعفها وحتى وهنها تجلت أكثر من مرة زيادة عن عناصر هشاشتها الهيكلية المرتبطة بالتعويل على الأجهزة الصلبة والقضاء المدجن الخ… مع افتقارها لدعائم سياسية ومهنية نشيطة وفاعلة فاقمت من انحصار القاعدة الشعبية لمنظومة حكم ثابرت منذ البداية على معاداة شعبها والتعالي عليه.
صوت الشعب صوت الحقيقة
