حقوق الإنسان والسيادة والشعوب: بين الكونية والتحرّر الوطني
بقلم محمد الحباسي *
تُطرح قضية حقوق الإنسان اليوم في سياق عالمي متشابك، حيث تتداخل مشاريع الهيمنة الدولية مع تطلعات الشعوب نحو الحرية والكرامة والسيادة. وفي هذا الجدل المتوتر، كثيرًا ما يتم اختزال حقوق الإنسان، إمّا بوصفها “منتوجًا غربيًا” فرضته القوى الكبرى، أو باعتبارها “أداة استعمار جديد”. غير أنّ هذا التصوّر لا يصمد أمام قراءة تاريخية وفلسفية دقيقة لمسار تطوّر الحقوق عبر الحضارات الإنسانية.
أولًا: حقوق الإنسان… ثمرة تطوّر إنساني، لا امتياز غربي
صحيح أنّ حقوق الإنسان قد بلغت صيغتها الحديثة في الغرب بفعل الثورة الصناعية وما أحدثته من تحوّلات عميقة على مستوى الفكر والفلسفة والبُنى الاجتماعية والسياسية. فقد ولّدت هذه التحوّلات — الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية — ضرورة إعادة التفكير في معنى الحرية والمواطنة والمساواة، بما أتاح بلورة منظومة حقوقية متكاملة.
وبذلك، لم يكن تشكّل حقوق الإنسان “اختراعًا” غربيًا خالصًا. ففكرة الكرامة الإنسانية، والعدل، وحرمة الجسد، وحق الشعوب في تنظيم شؤونها، هي مفاهيم ضاربة في التاريخ الإنساني، ساهمت فيها حضارات الشرق القديم، والفكر الإسلامي، والفلسفات الشرقية، والمدارس اليونانية والرومانية، والتجارب الثورية المختلفة.
إنّ اكتمال مفهوم حقوق الإنسان في الغرب كان نتاجًا لتوفّر شروط تاريخية معيّنة، لا نتيجة تفوّق حضاري على باقي الشعوب. ولذلك فهي تمثّل قطيعة معرفية مع الاستبداد، لا مع الماضي الإنساني بكل روافده وحضاراته.
لقد ساهمت مجموعة من التحوّلات البنيوية في الغرب(الأسلوب الرأسمالي، ظهور الدولة الحديثة، مأسسة السلطة، ترسيخ العلمانية والمشروعية الديمقراطية، فصل السلطات، صعود القانون الوضعي…) في إنتاج الضوابط الإبستمولوجية التي صيغت ضمنها مفاهيم حقوق الإنسان المعاصرة. غير أنّ هذا التبلور لم يكن ممكنًا لولا استعانة الغرب بخبرات ومخزونات معرفية تراكمت داخل فضاءات حضارية أخرى، ثم تعطّلت بفعل عوامل تاريخية.
وهنا ينبغي تعميق النظر في المنزع العقلي في التراث العربي-الإسلامي، الذي كان له تأثير نوعي في تشكّل العقل الغربي الحديث. فقد لعبت الفلسفة العربية، وخصوصًا المدرسة الرشدية، دورًا حاسمًا في إعادة اكتشاف العقلانية اليونانية وإعادة تأويلها، قبل أن تنتقل عبر الترجمة والاحتكاك الحضاري إلى أوروبا. لقد شكّلت شروح ابن رشد ومواقفه العقلانية — القائمة على مركزية البرهان، والدفاع عن استقلالية العقل، وربط الحرية الإنسانية بالفعل الواعي — أحد الجسور الأساسية التي نقلت أوروبا من الظلام الإقطاعي إلى بدايات النهضة.
كما أسهمت التأويلات الكلامية الإسلامية، وتطوّر الفقه السياسي، والنقاشات حول العدل الإلهي وحرية الإنسان ومسؤولية الحاكم، في وضع أسس فكرية ستجد صداها لاحقًا في النقاشات الأوروبية حول العقد الاجتماعي والمشروعية السياسية والحقوق الطبيعية. وقد اعترف مؤرخو الفلسفة، ومنهم رينان ومونك وتايلور، بأنّ الفلسفة العربية كانت مرحلة “لا يمكن تجاوزها” في مسار تشكّل العقل الغربي.
وبذلك، فإنّ الحداثة الحقوقية الغربية ليست نتاجًا مغلقًا على ذاته، بل ثمرة تفاعل طويل مع إرث إنساني متعدد المصادر كان فيه التراث العربي-الإسلامي، بمكتسباته العقلية، أحد الأركان المؤثرة. مما يؤكّد أنّ حقوق الإنسان لم تولد من فراغ، ولا يمكن اختزالها في سياق واحد أو حضارة واحدة.
ويجدر التأكيد أيضا على المساهمة الكبيرة للفكر الاشتراكي الحديث في تعميق وتجذير مفهوم حقوق الإنسان. فقد شكّل الاشتراكيون رؤية نقدية للهيكل الاجتماعي والاقتصادي القائم، مؤكدين أن الحرية والكرامة الإنسانية لا يمكن تحقيقها بمعزل عن العدالة الاقتصادية والاجتماعية. ومن خلال تأكيدهم على الحق في العمل، والحق في مستوى معيشي كريم، والحق في التعليم والصحة، أضاف الفكر الاشتراكي بعدًا عمليًا ومؤسسيًا لحقوق الإنسان، جعله مرتبطًا ليس فقط بالحريات السياسية والمدنية، بل أيضًا بحقوق اجتماعية واقتصادية تضمن تمكين الفرد وإشراكه الفعلي في الحياة العامة.
وقد أثّر هذا المنظور على السياسات الوطنية والدولية، بما رسّخ مبدأ أن الحقوق لا تُقاس فقط بالحرية من القهر السياسي، بل أيضًا بقدرة الأفراد على العيش بكرامة، والمجتمع على توزيع موارده بعدالة، وتحقيق تنمية متوازنة ومستدامة. وهكذا، ساهم الفكر الاشتراكي الحديث في إغناء مفهوم حقوق الإنسان، وربطه بمشروع شامل للعدالة الاجتماعية والحرية الفعلية للشعوب، بما يجعل الحقوق أكثر شمولية وعمقًا من أي قراءة فردية أو شكلية.
كما كان للحركات البيئة والحركات النسوية الراديكالية إسهام بارز في إثراء مدلول حقوق الإنسان وفق رؤية تقاطعية تكاملية.
حقوق الإنسان في الزمن الراهن هي نتاج لمسار تاريخي طويل ومتواصل وهي تشمل كل الحقوق بأجيالها الخمسة وتؤكد على الترابط الوثيق والتكامل بينها وعدم قابليتها للتجزئة أو التفاضل.
ثانيًا: الاستعمار لا يُدنّس الحقوق… بل يُدين نفسه
من الخطأ الخلط بين حقوق الإنسان وبين القوى التي أساءت استخدامها. فبعض الأنظمة الغربية الاستعمارية وظّفت خطاب الحقوق لتبرير الهيمنة والتدخل وتلاعبت بالآليات الدولية لحقوق الإنسان وفق منطق قانون القوة ولا قوة القانون، لكن هذه الممارسات ليست جوهر الحقوق، بل انحراف واضح عنها، يكشف تناقضات الغرب ذاته وتراجع البرجوازيات العربية عن مشروعها التحرري زمن الاحتكارات ومحاولاتها توظيف الحقوق خدمة لمصالحها الجماعية والضيقة.
إنّ الذنب ليس ذنب الحقوق، بل ذنب القوى التي تستغلّها. فحقوق الإنسان مشروع تحرّر، بينما الاستعمار مشروع سيطرة. والخلط بينهما يخدم فقط الأنظمة التي تريد تبرير استبدادها عبر اتهام الحقوق بالعمالة والتبعية.
ثالثًا: حقوق الإنسان… قضية الشعوب لا قضية الأنظمة
حقوق الإنسان هي أداة الشعوب في مواجهة كل أشكال الظلم:
الاستعمار الخارجي،
الاستبداد الداخلي،
الهيمنة الاقتصادية،
القمع السياسي،
التمييز والحيف الاجتماعي.
حقوق الإنسان شاملة مترابطة كاملة كونية ومتساوية.
إنّ الشعوب هي المعنيّة أولًا بالدفاع عن هذه الحقوق، لأنها الضامن الوحيد لمستقبل تُصان فيه الكرامة الإنسانية. وهي التي تدفع ثمن غيابها. أما الأنظمة — سواء كانت استعمارية أو تابعة أو استبدادية — فإنّ مصلحتها تكمن في الحدّ من الحقوق، لا في توسيعها.
ولذلك، فإنّ حق تقرير المصير ليس مفهومًا سياسيًا مجردًا، بل أحد أعمدة حقوق الإنسان الأساسية، سواء في مستواه الفردي (حرية المشاركة، العدالة الاجتماعية، الحقوق المدنية والسياسية) أو في مستواه الجماعي (سيادة الشعوب على ثرواتها وقرارها الوطني ونموذجها التنموي).
رابعًا: التنمية والبيئة… امتداد طبيعي لحقوق الإنسان
لم تعد الحقوق اليوم تُختزل في الحريات السياسية فقط، بل أصبحت تشمل:
الحق في التنمية المستدامة،الحق في بيئة سليمة،
الحق في توزيع عادل للثروة،
الحق في عدالة اجتماعية شاملة،
الحق في الحماية الاجتماعية.
إنّ تقرير المصير — سواء بالنسبة للأفراد أو الشعوب — لا يمكن فصله عن نموذج تنموي يضمن العدالة بين الجهات، والاستدامة البيئية، والكفاءة الاقتصادية، وتكافؤ الفرص. وهو ما يجعل حقوق الإنسان اليوم إطارًا شاملًا لتصوّر مستقبل الدول والمجتمعات.
خامسًا: المجتمع المدني… سلطة مضادة وضمير وطني
في تونس، مثّل المجتمع المدني إحدى الركائز الأساسية للدفاع عن الحقوق والديمقراطية. فمنظمات وطنية عريقة — نقابات، جمعيات حقوقية، هياكل مهنية — لعبت دورًا محوريًا في مقاومة الاستبداد، وفي حماية الحريات، وفي بناء المسار الديمقراطي. هذه المنظمات تجسد المعنى الحقيقي لحقوق الإنسان: الممارسة والتضحية والتاريخ، لا الشعارات المستوردة.
سادسا: أبواق السلطة الجديدة كأسلافهم زمن الدكتاتورية البنعلينية يحاولون ربط النضال الحقوقي بالعمالة
وهنا تبرز معضلة خطيرة في السياق التونسي الراهن، حيث يعيد الاستبداد الجديد إنتاج نفس آليات القمع الدعائي التي اعتمدها نظام بن علي سابقًا، عبر شنّ حملات تشويه ممنهجة ضد المنظمات الحقوقية والناشطين. فقد لجأت السلطة، تحت غطاء “التصدي للتآمر” و”مكافحة العمالة”، إلى توظيف خطاب تخويني يقدّم كل صوت مستقلّ، وكل جمعية تراقب الأداء الحكومي أو تدافع عن ضحايا القمع، باعتباره امتدادًا لأجندات أجنبية. هذا الأسلوب — الذي سبق أن استخدمته منظومة بن علي لتجريم الحركة الحقوقية — يهدف إلى عزل الجمعيات الجادة عن محيطها الشعبي، وضرب مشروعيتها، وتبرير التضييق الأمني عليها. ومع تفاقم النزعة الأحادية وغياب الحوار، تحوّل التخوين إلى أداة سياسية لتكميم الأفواه وتزويق الحكم، حيث يسعى النظام إلى صناعة “مجتمع مدني” بديل، مطيع، منزوع الأنياب، يسبّح بحمد السلطة ويتبرّع بتبرير تجاوزاتها. لكنّ التجربة التونسية نفسها، قبل الثورة وبعدها، أثبتت أنّ الحقوقيين الحقيقيين — لا الموالين للسلطة — هم الذين يدفعون الثمن حين تنغلق السياسة، وهم الذين يحفظون جذوة الحرية حين يخبو أمل الإصلاح.
ولذلك، فإنّ انخراط بعض “الواجهات” المصطنعة في أجندات غير وطنية لا يمكن اعتباره دليلًا على فساد المجتمع المدني، بل هو مشكل يخصّ هذه الكيانات وحدها. أما الحركة الحقوقية الوطنية الحقيقية فهي جزء من النضال الديمقراطي ومن الدفاع عن السيادة والعدالة الاجتماعية.
إنّ قوى المجتمع المدني تدافع عن الحرية وفق مقاربة وطنية تتأسس على العدالة والكرامة الإنسانية. والحرية هنا ليست مجرّد قيمة أخلاقية أو مطلب شكلي، بل هي شرط وجودي لأي مشروع وطني حقيقي. فالحرية هي التي تتيح للشعب أن يكشف، بوضوح وبالاعتماد على الحجة والبرهان، طبيعة السياسات التي تنتهجها السلطة، ومدى خضوعها أو استقلالها، ومدى انسجامها مع المصالح الوطنية أو تناقضها معها. ومن دون فضاء حرّ يتيح النقاش العمومي والتداول والصراع والمواجهة والمساءلة والنقد، تصبح خيارات السلطة محجوبة خلف خطاب دعائي، وتتحوّل «الوطنية» إلى شعار أجوف يُرفع للتغطية على خيارات لا وطنية في جوهرها.
إنّ توصيف السلطة باللاوطنية أو بالعمالة لا ينطلق — كما قد يدّعي الخطاب الشعبوي — من شتائم أو تعبئة عاطفية، بل من تحليل موضوعي لجوهر السياسات المعتمدة: منوال التنمية، التشريعات الاقتصادية، طبيعة الارتباط بالمؤسسات المالية الدولية، مضمون القوانين، ووجهة القرارات الكبرى. وعندما تتطابق هذه السياسات مع خيارات التبعية الاقتصادية والارتهان للخارج، وتُصاغ القوانين بما يخدم مصالح الدوائر المالية الدولية وفئات اجتماعية قليلة مرتبطة بها، فإنّ توصيفها بالعمالة يصبح نتيجة تحليلية، لا حكمًا أيديولوجيًا.
وفي هذا الإطار، يمثّل نظام قيس سعيّد تجسيدًا واضحًا لهذا النمط من التسلّط التابع: فهو يتبنّى نفس منوال التنمية النيوليبرالي القائم على ضرب دور الدولة الاجتماعي، ويفرض نفس القوانين والخيارات الاقتصادية التي عمّقت التبعية، ويعتمد نفس الممارسات الإقصائية والقمعية التي تخدم إعادة إنتاج هيمنة البرجوازية العميلة، لا مصالح الطبقات الشعبية. هذه الخلفية تجعل من السلطة القائمة استمرارًا لبنية التبعية ذاتها، مهما كانت الشعارات التي ترفعها أو اللغة التي تعتمدها.
ولأنّ هذه السياسات لا تخدم الشعب، بل تخدم الخارج وفئة ضيقة مستفيدة من ارتباطاتها، فإنّ السلطة تجد نفسها مضطرة إلى انتهاج القمع وتقييد الحريات لتأمين التمرير القسري لهذه الخيارات. فالتسلّط ليس انحرافًا طارئًا، بل آلية ضرورية لحماية مشروع لا وطني لا يمكن قبوله ديمقراطيًا.
لهذا، فإنّ المعادلة الجوهرية لأي مشروع تحرّر وطني تقوم على ثلاثية لا تنفصل:
حرية سياسية تكشف الخيارات،
وسيادة وطنية تقطع مع التبعية،
وعدالة اجتماعية تعيد توزيع الثروة لصالح الشعب.
فلا سيادة دون حرية، ولا حرية دون عدالة، ولا عدالة دون قطيعة مع كل أشكال التبعية والارتهان. هذه الثلاثية هي وحدها القادرة على تأسيس مشروع وطني مستقل، يضع مصالح الشعب فوق مصالح القوى الخارجية وقوى العمالة الداخلية.
خاتمة: حقوق الإنسان… جسر بين السيادة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية
إنّ حقوق الإنسان، في بعدها الكوني والشامل، لا تُناقض السيادة الوطنية، بل تعزّزها. فالشعب الحرّ هو القادر على حماية وطنه، والدولة التي تحترم مواطنيها هي وحدها القادرة على مواجهة الهيمنة الخارجية.
تخدم الحقوق الشعوب لا الأنظمة،
وتُحرّر الإرادة الوطنية لا تُقيّدها،
وتبني المستقبل ولا تهدم الماضي.
حقوق الإنسان ليست مشروعًا غربيًا أو استعماريا بل مشروع البشرية في سعيها الطويل نحو الحرية والعدل والكرامة. وهي الجسر الذي يربط بين طموحات الأفراد وتطلعات الشعوب، وبين السيادة الوطنية والديمقراطية والعدالة الكونية والاجتماعية.
*محمد الحباسي، باحث جامعي، نقابي ورابطي
صوت الشعب صوت الحقيقة
