بقلم الناصر بن رمضان
صادق البرلمان الوظيفي في نقاش ميزانية 2026 على قانون “توريد السيارات العائلية”. ومن خلال الاطلاع على القوانين السابقة التي مرّرت، ولفصول هذا القانون تحديدا، يتضح لنا أن المنظومة الشعبوية تعمل باستمرار، وفي كل المناسبات، على تحويل المطالب الاجتماعية الملحّة إلى واجهة شكلية تقدم للشعب كمنحة أو هبة أو مكرمة رئاسية، في حين تفرغها من محتواها على مستوى التطبيق. وللتدليل على ذلك جاء قانون توريد السيارات العائلية في ظاهره استجابة لطلب شعبي مشروع يهدف لترميم القدرة الشرائية المتدهورة وتحسين مستوى عيش الفئات الشعبية والمتوسطة حتى تجابه غلاء الأسعار الخيالية للسيارات وتحدّ من مشاكل النقل المستعصية علاوة على تشجيع الشباب على الاستقرار وثنيه على الهجرة المتفاقمة.
والمتمعن في فصول النسخة الثانية من هذا القانون لا يجد عناء كبيرا في الاستنتاج القاضي بتحويل السيارة العائلية بسعرها الأصلي دون معاليم ديوانية منهكة من حاجة عائلية إلى سلعة مضاربة وريع تحتكره البنوك وشركات التأمين وكبار أصحاب رؤوس الأموال المتحكمين في سوق السيارات. كما لا يغيب عن كل متابع للحياة البرلمانية في مثل هذه الفترات، أن برلمان الدمى، بعد إسقاطه النسخة “السخية” الأولى والمتحررة نسبيا، دفع نحو صياغة نسخة ثانية لمشروع القانون يظهر السلطة وكأنها “منحازة للشعب”، في حين غلفته هذه الأخيرة بشروط تقنية وقانونية تجعله شبه مستحيل التحقيق. ذلك أنه حصر التمتع بهذا الامتياز في السيارات ذات سعة اسطوانة لا تتجاوز 1700 صم3 ، أي سيارات ذات محرك 1.3، وذات أداء على القيمة المضافة 7%، وألا يتجاوز عمرها 8 سنوات ثم زادها القانون تضييقا وتجييرا بتحديد نسبة التوريد بـ10% من مجموع السيارات الموردة، وهي تقريبا في حدود 80.000 سيارة في السنة، أي 8000 سيارة لعدد من العائلات يتراوح بين 3 و3.5 مليون عائلة مع مدة انتظار لسنتين عند الموافقة على رخصة الشراء بعد المصادقة والتسييج أكثر بالنصوص الترتيبية (6 أشهر) ثم مروره للرفوف البيروقراطية الإدارية ليتمتع المواطن بمزاياه بعد انتظار يصل إلى 3 سنوات على الأقل. في المقابل تعفى السيارات الهجينة الباهضة الثمن (بين 100 و140 ألف دينار) للميسورين والأغنياء من المعلوم على الاستهلاك، أي منح امتياز شراء السيارات للبرجوازية الكبيرة وحرمان الطبقات الشعبية من ذلك.
نحن إذن أمام قانون يمثل المرآة العاكسة لعلاقة المنظومة الشعبوية بالجماهير: تقدم وعودا كبيرة ثم تسحبها وتتركها في مواجهة السوق والمضاربين والمحتكرين. وهذا النمط من تفريغ القوانين هو آلية مركزية للثورة المضادة الناعمة: تحويل كل مكسب محتمل إلى شكل بلا مضمون ثم تسويقه إعلاميا كإنجاز يثبت حرص “الدولة الاجتماعية” على مصالح الشعب بينما يعيش الشعب الأوهام وخيبة الانتظار.
المافيا المالية تتحكم في سوق السيارات
إن اللوبي المسيطر على سوق السيارات يبتلع ما يزيد عن 90% من حركة بيع وشراء السيارات في تونس، ويتحكم في أسعارها ويفرض إيقاع السوق عبر خلق الندرة المصطنعة واحتكار قطع الغيار والتحكم في آجال التسليم وصناعة الانتظار كأداة للربح. وبالتالي فقانون توريد السيارات العائلية صُمّم ليس ليفتح الباب، بل ليغلقه، ليس ليحرر السوق من الاحتكار، بل ليعيد تكريس ذات البنية الريعية التي تسيطر على هذا القطاع منذ عقود، إذ الأغلبية الساحقة لن تنتفع به لشروطه المجحفة، بينما القلة القليلة القادرة على استيفاء شروطه ستنتفع به بسهولة. إنه قانون طبقي بامتياز، وضع ليبدو اجتماعيا، لكنه في جوهره تقنية بيروقراطية محكمة لإبقاء الامتياز في يد نفس الشبكات التي تتحكم في الوكلاء وفي سوق الاستيراد وفي مسالك التوزيع. ومن هذه الزاوية فهو يجسد التقاء مصالح المنظومة الشعبوية مع مصالح منظومة الرأسمال المالي الطفيلي، وهو عيّنة من عيّنات الفساد الجديد في سياسة المنظومة الشعبوية. ولا ننسى أن هذا النمط من الرأسمالية الطفيلية هو استمرار لما كان يعرف بـ”عائلات الطرابلسية” التي احتكرت هذا القطاع بالكامل في عهد المخلوع بن علي. والفارق الوحيد هو أن سلطة الاستبداد الحالية لا تجرؤ على تسمية الأشياء بأسمائها، بل تختبئ وراء سرديات شعبوية تجعل من كل نقد “استهدافا للدولة” و”مؤامرة” ومن كل فضح للفساد “هجوما على السيادة الوطنية”، بينما السيادة الوطنية الحقيقية تسلم يوميا لوكلاء الاستعمار وشبكات التوريد وعصابات الاقتصاد الموازي، وبالتالي تتحول الدولة من خلال هذا القانون إلى وسيط لمصالح رأس المال الطفيلي لا إلى أداة لخدمة المجتمع. والحديث عن “مافيا سوق السيارات” ليس مبالغة سياسية أو شطط في التوصيف، بل تشخيص دقيق لبنية رأسمالية طفيلية تمكنت عبر عقود من الاستحكام في واحد من أكبر القطاعات ربحا واستراتيجية. إذ أن أصحاب البنوك وشركات التأمين وكبار الوكلاء ليسوا مجرّد فاعلين اقتصاديين، بل هم الطبقة المالية الحاكمة الفعلية. هذه القوة المالية الضخمة هي التي تعيد إنتاج نفسها في كل مرحلة سياسية قبل الثورة وبعدها، مع أي نظام ومع أي سلطة، لأنها تملك ما يخشاه الجميع: المال والقدرة على خلق الأزمة أو إيقافها.
برلمان الدمى يخرج المسرحية
إن عصابة المافيا المالية لا تتحكم في قطاع السيارات فقط، بل تتحكم أيضا في القانون نفسه: فالبرلمان الوظيفي الذي لا يمتلك لا مبادرة تشريعية حقيقية ولا إرادة سياسية مستقلة، يتحول في النهاية – رغم التهريج والمزايدة في مثل هذه الأوقات – إلى غرفة تسجيل لما تمليه البنوك وشركات التأمين وعصابات التوريد، والدليل على ذلك أن النسخة الأولى الخجولة والأكثر انفتاحا قد أسقطت عنوة وبكل أريحية لأنها تتعارض كليا مع التوريد بأسعار معقولة وهو تهديد مباشر لأرباح هؤلاء السماسرة، أي دخول سيارات أرخص وأكثر تنوعا. الشيء الذي بموجبه تنهار منظومة الحصص التي تسمح ببيع القليل بأغلى الأسعار. كما تسبب خسارة لأصحاب البنوك إذ أن تخفيض الأسعار يعني قروضا أقل وأرباحا أقل، وبالتالي يفقد هؤلاء أداة الضغط المالي على الطبقات المتوسطة والشعبية، كما هو أيضا تهديد لشركات التأمين التي تخشى تجديد الأسطول: فالسيارات الجديدة تعني مخاطر أقل وأقساطا أقل وأرباحا أقل.
أما النسخة الثانية الأكثر شروط مجحفة فقد جاءت بعد أن أعادت كل القوى المالية هندسة القانون بما يحافظ على ريعه، فتم التشديد لتضييق الخناق على الفئات المسموح لها ورفع المعايير البيروقراطية وتقليص حجم الامتيازات. لقد مرت هذه النسخة بسهولة لأنها لا تهدد مصالح الكبار، وضمنت أن البنوك ستربح أكثر وكذلك شركات التأمين، وسيبقى الوكلاء في موقع السيادة والدولة الراعية ستواصل جباية الضرائب العالية.
ويتضح بالتالي أن البرلمان الصوري ليس سلطة تشريعية مستقلة بل ساحة نفوذ اللوبيات المالية. فالقوانين تمر أو تغرق حسب من يستفيد، والتشريعات في مثل هذه الحالات لا تكتب في لجان البرلمان، بل تصاغ في مكاتب كبار الوكلاء وفي مجالس إدارة المؤسسات المالية ثم تمرر جاهزة تحت غطاء “الإصلاح الاقتصادي” أو “تعصير القطاع”، لذلك لا عجب أن كل قانون يهم قطاع السيارات سواء كان متعلقا بالتوريد أو بالتأمين أو بالتمويل أو بالديوانة يخرج دائما على مقاسهم تماما، بينما يقدم للعامة على أنه “قانون اجتماعي”.
تدمير قطاع النقل العمومي
إن تقييد قانون توريد السيارات العائلية له انعكاس مباشر على قطاع النقل العمومي من سيارات أجرة وحافلات. والتحالف المالي الطفيلي المشار إليه أعلاه هو المسؤول المباشر عن تدمير قطاع النقل وتهرم أسطول السيارات عامة. فمتوسط أعمار السيارات وصل إلى 20 سنة وهو رقم كارثي، إذ يحرم الفئات الشعبية من تجديد سياراتها ويمنع تدفق السيارات بأسعار ميسرة، والنتيجة بقاء السيارات القديمة في الشوارع لأنها الخيار الوحيد لمئات الآلاف للعائلات الشعبية. ناهيك وأنه كلما وقع تشديد هذا التقييد، عرقلت الدولة عملية تجديد الأسطول، فترتفع أسعار السيارات القديمة، وحتى أصحاب سيارات الأجرة والتاكسيات يعجزون عن تجديد سياراتهم بسبب نفس القانون. وكلما تهرّمت السيارات زاد استهلاك قطع الغيار.
ويتضح بالتالي أن هذه المافيا المالية الاحتكارية لا تحتاج إلى سوق مزدهرة وسيارات حديثة، ولا نقل عمومي فعال، بل تحتاج إلى أعطاب وانهيار أسطول وندرة مفتعلة وتضخم دائم في أسعار الجديد والمستعمل لأنها تربح من استمرارية الأزمة نفسها. وبهذا المعنى، يمكن القول أن مافيا السيارات ليست مجرد قطاع منفلت، بل هي رأس حربة الرأسمالية الكمبرادورية التي تسير الاقتصاد التونسي وتتحكم في القرار السياسي وتمنع أي إمكانية لبناء دولة اجتماعية. إنها الدولة الحقيقية داخل الدولة والدستور غير المكتوب الذي يحكم البلاد منذ عقود.
زيف الخطاب الشعبوي وشعار”الدولة الإجتماعية”
إن كشف زيف خطاب “الدولة الاجتماعية” هي مهمة سياسية طبقية: فالدولة التي تحرم مواطنيها من سيارة بحجة “الاختناق المروري” أو ندرة قطع الغيار أو التلوث البيئي كما تدعي وزيرة المالية التي لا علاقة لها بالدولة الاجتماعية، بل تتحدث باسم منظومة أعمال جشعة، تتغذى من الريع وتخشى أي ديمقراطية اقتصادية قد تمنح المواطنين الحد الأدنى من الحرية في اختيار سيارة دون إذلال أو ابتزاز. إضافة إلى أن هذه الدولة التي يريدونها زيفا “دولة اجتماعية” هي نفسها الدولة التي أسقطت قانون الضريبة على الثروات الكبرى، وهي نفسها التي صادقت على العفو الجبائي لصالح الأغنياء، وهي التي تراجعت عن القانون 38 للمعطلين عن العمل، ثم هي نفسها تركت القطاعات العمومية تنهار، وهي التي تقتل العشرات من الفئات الشعبية في عديد الجهات المصنفة عالميا “مناطق سوداء” من جراء التلوث الحاد والخطير في قابس والحوض المنجمي وصفاقس والقلعة الصغيرة والهوارية وغيرها. وهي إذ تدّعي “الخوف على الميزانية” هي نفسها التي عوّضت الفساد القديم بفساد جديد، والدولة التي ترفع زورا شعار “السيادة الوطنية” هي نفسها التي تغرق البلاد بالديون السالبة للسيادة. نحن إذن أمام دولة تعيد إنتاج بنية الاستغلال نفسها وتغطيها بخطاب شعبوي يحمّل الشعب مسؤولية الأزمة.
صوت الشعب صوت الحقيقة
