الرئيسية / صوت المرأة / الصحة والنقل في أفق التحرر الاقتصادي والاجتماعي للمرأة العاملة
الصحة والنقل في أفق التحرر الاقتصادي والاجتماعي للمرأة العاملة

الصحة والنقل في أفق التحرر الاقتصادي والاجتماعي للمرأة العاملة

بقلم كوثر الباجي

المرأة العاملة بين سحق الزمن واستنزاف الجسد

في البلاد التي تُدار بعقل السوق، تخرج المرأة العاملة من بيتها كل صباح وهي تعرف أن اليوم ليس مجرد ساعات عمل، بل رحلة كاملة من العناء الجسدي والزمني. تفترش الطريق قبل الفجر، وتنتظر حافلة لا تأتي إلا مثقلة بالأجساد. تتدافع داخلها كأنها تعبر حدًّا آخر من حدود النجاة اليومية. وفي المساء، حين يتسلل التعب إلى عظامها، تقف أمام مستشفى عمومي لم يعد يرى المرض، بل يرى الطوابير. هنا، في هذا المشهد اليومي، تتحول الصحة والنقل إلى مجالين سياسيين حقيقيين: الأول يكشف كيف يتعامل النظام مع جسد الإنسان، والثاني يكشف كيف يتعامل مع زمنه. والمرأة العاملة، بطبيعة دورها الاجتماعي، مزدوجة الاضطهاد: فهي لا تملك رفاهية المرض، ولا رفاهية التأخر، ولا رفاهية الراحة. إنها في قلب طاحونة السوق، تدفع ثمن الهشاشة مرتين.

ومع ذلك، لا يمكن فهم هذا الوضع كحالة فردية أو كخلل في الإدارة؛ إنه نتاج مباشر لمنطق اقتصادي يرى أن الصحة والنقل مشاريع يجب أن “تغطي تكلفتها” وتدرّ الربح. لذلك، تُترك الحافلات لتتقادم بلا تجديد، وتُترك المرافق الصحية لتنهار بلا استثمار، ويُترك الناس ليتدبروا أمرهم وسط فوضى النقل وفوضى المرض. ولأن المرأة العاملة تقف على خطوط الهشاشة، فإنها تصبح أعمق ضحية لهذا النظام الذي يغتصب جسدها وزمنها دون أن يأبه، ويتركها واقعة بين مطرقة الاستغلال وسندان الإهمال. ومن هنا، يبرز السؤال الجوهري: هل يمكن إصلاح ما هو مبني أصلاً على الربح؟ وهل يمكن ترميم منظومة تتنفس من رئة السوق؟ أم أنّ البديل الحقيقي لا يكون إلا بقلب القواعد، ووضع حياة الإنسان قبل ربح رأس المال؟

الطبّ كامتياز والنقل كعقوبة: حين يبتلع السوق الحقوق الأساسية

للوهلة الأولى، قد يظن البعض أن أزمة الصحة وأزمة النقل منفصلتان، لكنهما في جوهرهما تعبير عن بنيان واحد: تحويل الضروري إلى امتياز. الصحة تصبح خدمة تُباع على شكل ملفات وتحاليل وزيارات، والنقل يصبح مغامرة يومية مرهونة بنقص الأسطول وتردّي البنية التحتية. في هذا السياق، ينظر النظام إلى المواطن لا ككائن له حق في الرعاية والتنقل، بل كزبون يجب أن يتحمل تكاليف العطل، والاكتظاظ، ونقص الأطباء، وغياب المعدات، وانهيار الطرق.

بهذا المعنى، يتحول الطب إلى علاقة تجارية تتم فيها مراكمة الأرباح على حساب الألم. فالمستشفيات الخاصة تنمو على أطلال المستشفيات العمومية، والعيادات تتكاثر كما تتكاثر المتاجر، وتصبح المضادات الحيوية سلعة تُباع أكثر مما توصف. أمّا النقل، فيتحول إلى عذاب يومي: تأخير، تدافع، فقدان كرامة، وتبديد يومي لساعات كان يمكن أن تذهب إلى الراحة أو التعليم أو العائلة. المرأة العاملة تعرف هذا أكثر من غيرها، لأن جسدها ينهك في الطريق قبل أن يصل إلى العمل، ولأن صحتها تتدهور وسط منظومة لا ترى في سلامتها أولوية، ولا في مشقتها مسألة اجتماعية.

إن المنظومة الحالية لا تفشل لأنها ضعيفة، بل لأنها تنفّذ منطقها الحقيقي: الربح قبل الإنسان. هي منظومة لا تُصلح بل تُستبدل. ولذلك، فإن الحديث عن البديل ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وجودية، لأن الصحة والنقل ليسا تفاصيل تقنية، بل فضاءان يحددان معنى الحياة اليومية ومعنى الانتماء إلى المجتمع.

الصحة في بديلنا : تحويل الرعاية إلى حق مُحقق لا وعود مؤجلة

في البديل الديمقراطي الشعبي، لا يُنظر إلى الصحة باعتبارها قطاعاً منفصلاً، بل باعتبارها محوراً لصياغة علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع. الرعاية الصحية تُعاد إلى أصلها: حق جماعي غير قابل للتسليع، تُموّله الدولة بشكل مركزي للفقير والغني على حد سواء ، ويُدار عبر هيئات تخطيط ديمقراطية ،هنا، يصبح وجود مركز صحي في كل حيّ جزءاً من رؤية أوسع تنشد تقليص المسافة بين المواطن والحق، وتضع الوقاية في قلب السياسة الصحية، لا في هامشها.

يتمّ بناء شبكة صحية متكاملة تشمل عيادات قريبة من الأحياء، مستشفيات مختصة، وحدات إسعاف مبنية على الجهوزية، وأطباء موزّعين حسب حاجات السكان لا حسب جاذبية المناطق. ويجري تحويل الطبّ من سلعة إلى خدمة اجتماعية تُقدّم مجاناً، دون تمييز، ودون مراجعة الفواتير. وفي هذا التصور، تصبح المراكز الصحية أماكن تُدار فيها الحياة الجماعية: رعاية، متابعة، دعم نفسي، حملات وقاية، وتثقيف صحي. وتصبح بيانات المرض والأوبئة جزءاً من تخطيط عام يربط بين الصحة، وظروف العمل، والنقل، والبيئة.
وهكذا، لا يكتفي البديل الديمقراطي الشعبي بإعادة تمويل الصحة، بل يعيد تعريفها: ليست علاجاً بعد وقوع الضرر، بل منظومة متكاملة تمنع المرض، تخفف أسبابه الاجتماعية، وتمنح الجسد ما يستحقه من احترام. بالنسبة للمرأة العاملة، هذا التحول يعني استعادة السيطرة على جسدها، والقدرة على التفرغ للحياة بدل الانشغال الدائم بالخوف من المرض ومن تكلفته ومن طول الانتظار.

ولمن يشكّ في هذه الإجراءات ويظنّ أنها مجرد نظريات غير قابلة للتطبيق، ينبغي أن يدرك أنّها طُبّقت فعليًا في عدد من البلدان التي اعتمدت، في فترات مختلفة، نموذج سيماشكو (Semashko). فقد كان النظام الصحي السوفييتي من أوائل الأنظمة في العالم التي فرضت المجانية الكاملة والرعاية الشاملة منذ عشرينيات القرن الماضي، مُثبتًا أنّ ما يُقدَّم اليوم كـ”خيال” كان بالأمس إنجازًا واقعيًا حقّقته دولة ثورية وضعت مصلحة الشعب قبل منطق الربح.

النقل العمومي في بديلنا : تحرّر الزمن لا تنظيم الحركة فقط

إذا كانت الصحة تعالج الجسد، فإن النقل يعالج الزمن. وبديلنا ينطلق من هذا الفهم: حرية الحركة هي حرية اجتماعية. لذلك يقوم على تمويل عمومي كامل لقطاع النقل، يجعل الحافلة والقطار جزءاً من الحق المشترك في التنقل. الهدف ليس مجرد تحسين الأسطول، بل إعادة تشكيل علاقة الناس بمدنهم وأحيائهم ومساراتهم اليومية. النقل العمومي يصبح خدمة مجانية، متاحة، متواترة، مصممة حسب حاجة السكان وليس حسب حسابات الربح.

تُحدث الدولة نظاماً موحداً للنقل: خطوط واضحة، ممرات محمية للحافلات، مترو خفيف كهربائي يربط الأحياء البعيدة بالمراكز الاقتصادية، وتغطية ريفية تمنع عزل المناطق النائية. ويشارك المواطنون — وخاصة النساء العاملات — في لجان تراقب جودة الخدمة وتقترح مسارات جديدة. بذلك يتحول النقل من مساحة للفوضى إلى مساحة للمواطنة. وتتحول الحافلة من صندوق مكتظ إلى فضاء آمن يحفظ الكرامة، ويضمن الوصول في الوقت، ويحمي الجسم من الإعياء والتدافع وساعات الانتظار.

هذا التصور لا يهدف إلى تحسين ظروف العمل فحسب، بل إلى تحرير الوقت. فالمرأة العاملة التي كانت تقضي ثلاث ساعات يوميًا في الطريق تستعيد تلك الساعات لتستثمرها في حياتها، تعليمها، صحتها، أو أسرتها. وفي هذا المجتمع، الزمن ليس ملكاً لرأس المال، بل ملكاً للناس، يُعاد توزيعه كما تُعاد توزيع الثروة.

نحو ديمقراطية شعبية: حين تتكامل الصحة والنقل لاستعادة الكرامة

حين ننظر إلى بديلنا المطروح في الصحة والنقل، ندرك أنه ليس برنامجاً تقنياً، بل رؤية لتحرير الإنسان. الصحة تعيد للجسد قيمته، والنقل يعيد للزمن معناه، والمرأة العاملة تقف في قلب هذا التحول، لأن حياتها اليومية أكثر من غيرها تكشف القبح العميق للنظام القائم، وتكشف في الوقت نفسه الإمكانيات الهائلة للتحول حين تصبح الدولة في خدمة المجتمع لا في خدمة السوق.

إنّ الديمقراطية الشعبية تُبنى في المستشفى والحافلة، في المركز الصحي القريب الذي يداوي دون شروط، وفي الخط الجديد للنقل الذي يصل الأحياء المهمشة ببقية الوطن. هناك، في تفاصيل الحياة اليومية، تُكتب الكرامة من جديد. وفي هذا المشروع، لا يتم إصلاح القديم، بل يُهدم ويُعاد بناؤه على أسس المساواة والعدالة. وحين تُصبح الصحة حقاً مكتملاً والنقل حرية محترمة، يتحول البديل المطروح من فكرة إلى واقع، وتتحول المرأة العاملة من ضحية إلى فاعلة، ومن متلقية إلى شريكة في صناعة حياتها.

إلى الأعلى
×