بقلم وليد المرداسي
تقع بلدة “بيت جن” السورية في الجنوب الغربي لمدينة دمشق وتبعد عن العاصمة 50 كيلومترا فقط، كما تبعد عن سفوح جبل حرمون “الشيخ” قرابة 11 كيلومترا أين تتمركز قوات الاحتلال الصهيوني، فهذه البلدة تربط بين ريف دمشق الغربي وريف القنيطرة الشمالي وهي بالقرب من قرية شبعا اللبنانية، وكما نلاحظ فإنَ هذه البلدة تتميَز بموقعها الاستراتيجي، كما أنها تمثَل جزءا مهمّا من التراث للمجتمع الدرزي في المنطقة، ما يجعلها عبر التاريخ عرضة للعديد من الصدمات والأطماع من عديد القوى الإقليمية والدولية.
واقعة “بيت جن” الأخيرة
في وقت متأخَر من ليلة الخميس 27 نوفمبر 2025 أقدمت قوَة من فرقة -210- تابعة للجيش الصهيوني على اقتحام الحي الجنوبي للقرية بينما كان أهلها يحتفلون بزواج أحد شبابهم بتعلة اعتقال مجموعة من العناصر الذين تقول عنهم الأجهزة العسكرية للكيان تابعين “للجماعة الإسلامية” وبأنهم يخططون لأعمال “إرهابية ضدَ إسرائيل”، ليتفاجئ العدو الصهيوني بمقاومة شرسة وبوقوعه في كمين محكم، وقد أسفر الاشتباك الذي كان من مسافة قريبة جداً عن سقوط أكثر من عشرة جنود وضباط بين قتيل وجريح، وقد اعترف الكيان بوجود جرحى فقط في صفوفه.
ولأنَ الاشتباك كان من المسافة الصفر، فحتى التعزيزات الجوية العسكرية للكيان لم تستطع الاشتراك في تلك المعركة إلاَ حين قدوم تعزيزات جديدة إلى المكان مكنت القوة الصهيونية من سحب القتلى والجرحى إضافة إلى اعتقال عدد من الأشخاص، وقد أسفر هذا العدوان عن سقوط 11 شهيدا من أبناء البلدة.
عملية “بيت جن” هل هو حدث أمني معزول؟
رغم تكتَم الكيان وإصراره بأنَ العملية أمنية بحتة وهي في سياق “مكافحة التنظيمات الإرهابية”، إلاَ أنَه واقعيا هناك تصاعد ملحوظ لمثل هذه العمليات في عدد من البلدات والقرى خاصة التابعة لمحافظة القنيطرة وريفها تحت تبريرات الكيان المتمثَلة في “المحافظة على الأمن القومي لإسرائيل” وبأنَ هناك قوى داخل سوريا تخطَط لاقتحام بلدات في الجولان لتنطلق في تنفيذ هجمات على بلدات “إسرائيلية” في الداخل، ولهذا تم إطلاق دعاية صهيونية بأن هناك خطر “غزو بري لشمال إسرائيل”، وهي الحجة ذاتها التي أطلقها الناطق باسم “جيش الاحتلال” حين تحدث عن عملية “بيت جن” الأخيرة وادّعى بأنَ مجموعة من “الجماعة الإسلامية” موجودة في البلدة وتخطط لعمليات في المناطق المحتلة.
وكما ذكرنا فإن عملية “بيت جن” لم تكن مفاجأة في سياقها العام خصوصاً بعد تصاعد التوغَلات للكيان في عدة مناطق للجنوب السوري تزامنا مع الخطوات التصعيدية بداية من زيارة رئيس الوزراء للكيان ناتنياهو إلى المنطقة العازلة بالجنوب. ولكن مالذي حصل وأين يكمن عنصر المفاجأة في هذه العملية الأخيرة؟ وماهي الدوافع الحقيقية للمخطط الصهيوني بالمنطقة؟
بذور المقاومة من “بيت جن”
اعتقد المخططون من “جيش الكيان” بأنَ الأمور ستجري بسلاسة في “بيت جن” كما جرت العادة في عمليات سابقة في الجنوب السوري حيث استهدفت تلك العمليات مدنيين عزّل، ولكن المفاجأة تأتي هذه المرة من بلدة تبعد فقط 11 كيلومترا من تمركز قوات الاحتلال بسفح جبل حرمون (الشيخ) حيث برزت مقاومة قتالية شرسة، ويمكن الجزم بأن ما حدث هو لأول مرة التي تشتبك فيها قوات الكيان مع المواطنين السوريين بشكل مباشر ومن المسافة الصفر، وقد أسفرت عن خسائر بشرية موجعة في صفوف قوات العدو بالإضافة إلى وقوعه في كمين محكم لا يمكن حتى لقواته الجوية العسكرية أن تتدخَل فيه، فجنّ جنونه وما اضطره لاستقدام تعزيزات عسكرية قام على إثرها بقصف وحشي ومتعمَد ضد المدنيين العزل بالبلدة، ولاقت هذه الجريمة استنكارا دوليا، فقد أدانت وزارة الخارجية السورية ما وصفته “بالاعتداء الإجرامي” إضافة إلى إدانات من عدد من الدول والمنظمات، ما اضطر الكيان إلى تبرير جريمته بأنها كانت تستهدف فقط عناصر من “الجماعة الإسلامية اللبنانية كانت تعتزم تجنيد إرهابيين من أجل أن يلعبوا دورا محوريا في المعركة الشمالية كقوة مستقلة خلال الحرب على جبهة لبنان”.
من ناحية أخرى تعالت ردود الفعل الشعبية السورية الرافضة لأطماع العدو وأكدوا بأنهم جاهزون للدفاع عن وطنهم وهو أمر قد برز بوضوح لدى أهالي “بيت جن” والقرى المجاورة حيث بدأ الحديث عن المقاومة الشعبية السورية بأنها أمر حتمي وهو كابوس آخر ينتظر الكيان لم يحسب له حساب، وهو ما قد يفتح مجالات لإعادة تركيبة وتحالفات جديدة تعود فيها قوى المقاومة بالمنطقة مع تيار المقاومة الشعبية السورية ولا سيما أَن الجذور التاريخية لروح المقاومة منغرسة في وجدان وذاكرة الشعب السوري.
ماهي الدوافع الحقيقية لهذا المخطَط الصهيوني؟
كما نعلم جميعاً فمطامع الكيان الصهيوني بالتوسع في اتجاه الأراضي السورية قد زاد منسوبها خاصة مع سقوط نظام بشار الأسد وتحجيم تواجد حركات المقاومة بالتراب السوري تزامن مع تنصيب “الشرع” في دفة الحكم كمقاول من أجل وضع سكة أمام قطار التطبيع والسلام مع الكيان المحتل، لبسط السلام الموعود، في المقابل فلناتنياهو رؤية واضحة حيث يريد إقرار “السلام بالقوة” من خلال تكريس احتلاله للمواقع السورية مع فرض سيطرته الجوية والأمنية على عموم مناطق الجنوب السوري وبأن هذا أمر الواقع وغير قابل للتفاوض.
وقد طلب “الإسرائيليون” بوضوح من السوريين التنازل عن جميع الأراضي التي تم احتلالها في عام 1967 ويكون ذلك بشكل رسمي عبر اتفاق سلام أو إبرام اتفاق أمني مؤقت ينص على بقاء “جيش الكيان” في 10 مواقع تمّ احتلالها خلال هذا العام وتمتد من جبل “الشيخ” حتى الحدود الجنوبية، وينظر الكيان إلى هذه اللحظة بالفرصة التاريخية لفرض الرؤية “الإسرائيلية” مقابل أي سلام مع سوريا” وتكون يده هي العليا والمطلقة تماما في سوريا من دون أي مقابل، وهذا ما عبر عنه فعلا وزير الحرب للكيان “يسرائيل كاتس” في جلسة مغلقة للجنة “الخارجية والأمن” في الكنيست قبل أيام وبأن لا وجود لـ”اتجاه سلام” في سوريا وأن دمشق تطلب المستحيل بوجوب إعادة الجولان إلى السيادة السورية”، وهنا فمن الواضح أن الكيان يسعى في المرحلة الراهنة إلى فرض أمر واقع جديد على السوريين عبر بسط سيطرته على المناطق التي توغلت داخلها وبالإضافة إلى رفع سقف مطالبها في المفاوضات الجارية بين الجانبين.
وكما هو معلوم فإن لناتنياهو حسابات سياسية داخلية أولا من ناحية زمنه السياسي فهو مقترن بمدى تواصل الحرب، وهي تلعب دورا مهما في سلوك ناتنياهو الذي يسعى للهروب إلى الأمام مع إبقاء الجبهة في جنوبي سوريا ولبنان مفتوحة لأجواء الحرب، فكلما ازداد منسوب التصعيد العسكري فإن زمن السياسي لناتنياهو الداخلي يطول أكثر وبذلك ينأى بنفسه عن المساءلة والمحاكمة التي يواجهها داخليا.
الرسائل المباشرة ومآلات هذا الوضع
من الواضح أن أول رسالة للكيان هي أن المنطقة لم تعد تحتضن مقاومة منظمة ولذلك نراها تتدخل وبشكل سافر بما يوحي بغياب الرد أو الردع الذي يمكن أن يزعزع “أمنها القومي”، وفي نفس الوقت هناك رسائل أخرى جانبية، الأولى لحليفها الاستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث أبدى الكيان انزعاجه من سياسة ترامب في تعامله مع الحاكم الجديد لسوريا حيث اعتبر الكيان أن استقبال “الشرع” ورفع أو تعليق العقوبات عنه هي خطوات متسرعة قبل أن يتمّ توقيع اتفاق سلام يشبع رغباته.
أمّا الرسالة الجانبية الثانية فهي امتعاض “إسرائيل” من وجود التسيير الدوري المشترك “الروسي – التركي- السوري” وبالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية بالجنوب السوري، فالكيان الصهيوني بطبعه لا يقبل بوجود توجه سياسي دولي تكون نتيجته اتفاقيات أمنية جديدة خارج رغباته أو تعديل لاتفاق أمني سابق لا يقدَم خطوات لواقع جديد، فالكيان يريد اتفاق سلام شامل فقط حسب رؤية ناتنياهو عبر “السلام بالقوة”، وعليه فإنَ عملية “بيت جن” تشير إلى أن الملف السوري ذاهب في التعقيد وبأن التصعيد العسكري في المنطقة أصبح مسألة وقت لا غير، فكل المؤشرات تدلّ على أن الكيان يدرس بجدية تحضير عمليات واسعة داخل التراب السوري خاصة إذا تبين مشاركة قوات سورية تابعة للحكومة في مقاومة توغل جنوده في “بيت جن” وهذا ما ذكره إعلام المحتل والقاضي بأن الجيش يبحث عن تقليص عمليات الاعتقال الميدانية ضد ما يسميه “عناصر إرهابية” قرب الحدود مقابل زيادة الضربات الجوية.
وأخيرا، فكلَما استمعنا إلى رواية ناتنياهو حول “الحرب الوقائية من أجل الحفاظ على الأمن القومي للكيان”، تقرع طبول الحرب والتصعيد على الأبواب، فهل ستكون جبهة سوريا الجنوبية ولبنان هي محاور الحرب التوسعية القادمة للكيان على المدى القريب؟
صوت الشعب صوت الحقيقة
