الرئيسية / صوت النقابة / اتحاد الشغل: أزمة تخفي أخرى (الجزء الثاني)
اتحاد الشغل: أزمة تخفي أخرى (الجزء الثاني)

اتحاد الشغل: أزمة تخفي أخرى (الجزء الثاني)

بقلم جيلاني الهمّامي

اتحاد الشغل: أزمة تخفي أخرى (الجزء الأول)

كان من المنتظر أو بالأحرى من المؤمّل أن تُحْدثَ الهيئة الإدارية يوم 4 ديسمبر الجاري المنعرج الحاسم باتجاه الخروج التدريجي من الأزمة رغم طبيعة الملفات المطروح عليها البتّ فيها وهي الإضراب العام والمؤتمر الاستثنائي. وقد ساد جوٌّ قبيل انعقادها يدفع إلى الاعتقاد في أن تنهي الهيئة الإدارية أشغالها بسرعة وأن تتوّجها بالاتفاق حول قرارات موحدة ترسل رسائل إيجابية للقواعد العمالية والهياكل النقابية وأخرى جريئة وصارمة للسلطة. واعتُبِرتْ السّرعة التي تمّ بها الاتّفاق حوْل قرار الإضراب والإجماع على خوضه وعلى تحديد موعده من المؤشرات المؤيدة للتوقعات آنفة الذكر. ولكن ومع مرور الساعات يتبيّن وأنّ الوضع أعقد ممّا كان الجميع يتصوّره سواء فيما يخص الإضراب أو ما يهمّ المؤتمر الاستثنائي.

الإضراب العام بين الاستحقاق النضالي والتوظيف

ينبغي التذكير بأنّ قرار الإضراب العام ليس بجديد. فقد أعلن عنه في نهاية أشغال المجلس الوطني في سبتمبر 2024. ويتذكر الجميع أنه اتخذ وقتها دون أن يحدد له تاريخ أو مطالب محددة وإنما اقتضته التطورات التي انتهى إليها المجلس الوطني آنذاك. فردّا على الأغلبية التي أفرزتها الجلسات الختامية للمجلس والتي انسحبت رأت الأقلية التي واصلت الأشغال لتنظر في 11 نقطة من اللائحة الداخلية وتشطب عنوة النقطة عدد 12 المتعلقة بالدعوة إلى المؤتمر الاستثنائي، رأت أن تركب خطاب التصعيد للظهور بمظهر المعارض للنظام وبالتالي لإضفاء نوع من الشرعية على موقفها الأقلي و”تقلب الطاولة” على الشقّ الخصم (جماعة الخمسة) وتوفر لنفسها أداة دعائية فيما سيأتي من المعركة.

ويتذكر الجميع أيضا أنّ ذلك القرار (قرار الإضراب الذي اتخذه المجلس الوطني) بقي طوال حوالي سنة في الرفوف ولم تثره هياكل الاتحاد، لا المكتب التنفيذي ولا الهيئة الإدارية الوطنية في دوراتها التي تلت المجلس الوطني رغم وجود ما يستدعي تحريكه في وجه السلطة في أكثر من مناسبة وخاصة تنقيح مجلة الشغل ومحاولة اقتحام مقر الاتحاد من قبل أتباع قيس سعيد.

العودة إلى قرار الإضراب العام هذه المرة أملته الخطوة الجديدة التي قطعتها السلطة في مسار تجاهل الاتحاد ومسعاها لتهميشه ودوس قواعد السياسة التعاقدية بين الأطراف الاجتماعية وحق النقابات في التفاوض حول المطالب المادية والمهنية وخاصة حول الزيادات في الأجور. صحيح أنّ هذه الخطوة الخطيرة قوبلت بغضب من جانب قيادة الاتحاد تماما كما كان الأمر يوم 21 أوت احتجاجا على مهاجمة دار الاتحاد ولكن هذا الغضب ظل في حدود التلويح لفظيا بالإضراب العام دون القيام بأبسط شيء يؤكد الإعداد الفعلي له قاعديا وفي صفوف الهياكل النقابية. ولكن الإسراع باستغلال هذه الظرفية للعودة إلى سلاح الإضراب العام وإن كان عبّر عن حالة الاحتقان في الأوساط النقابية بدليل إجماع الهيئة الإدارية على المصادقة عليه فإنه في نفس الوقت لا يخلو من حسابات فئوية خاصة عند شقّ التسعة.

عديد المؤشرات تؤكد ذلك نذكر منها خاصة غياب أدنى تحضير لإنجاح إضراب بهذا الحجم في ظرف تعلم قيادة الاتحاد صعوبته. فأن يتّخذ قرار الإضراب ثم لا نرى أثرا لعمل في صلب القواعد العمالية والهياكل النقابية التي تحاصرها الدعاية الشعبوية المعادية وتزرع فيها الشك والإحباط فمعنى ذلك أنّ قرار الإضراب ليس غير مزايدة وعملية رتق لشرعية أصبحت بالية ومطعون فيها لدى كل الأوساط تقريبا داخل الاتحاد وخارجه. ومن المؤشرات أيضا على أنّ قرار الإضراب هو مجرد أداة لاقتلاع تسويات داخلية ما يروج حول طلب عضو المكتب التنفيذي الذي يتزعم “كتلة التسعة” التعجيل بالاتفاق حول قائمة المكتب التنفيذي القادم والأمانة العامة كمقدمة ضرورية بل كشرط لحل كل عناصر النزاع داخل المكتب التنفيذي.

والأمر الأكيد أنّ قرار الإضراب لم يُتّخذ لينفّذَ، لقد اتُّخِذ ليكون أداة ضغط وضغط مضاد بين شقّي البيروقراطية. فكما استخدمه جماعة التسعة لاقتلاع تسوية في علاقة بالمؤتمر استخدمه الأمين العام ومن ورائه الأربعة الآخرون للضغط المضاد إذ تشبث الطبوبي بعدم إمضاء التنبيه بالإضراب إلا بالاتفاق على تثبيت موعد المؤتمر في مارس القادم.

ويبدو الآن في ضوء ما ساد في اجتماع المكتب التنفيذي الأخير (18 ديسمبر) أنّ فعالية هذا السلاح، سلاح الإضراب العام، قد نفذت وما عاد يصلح للضغط على الطرف المقابل وبدأ يتأكد أكثر فأكثر أنّ قرار الإضراب العام سيظل مجرد حبر على ورق لأنه بكل بساطة سيقع إلغاؤه وعلينا أن ننتظر المسوغات التي ستقدمها القيادة لتبرير الإلغاء.

وحتى في هذه الحالة ستستمر المناورات إذ سيكون “قرار الإلغاء” موضوع معركة أخرى في سلسلة معارك شقوق البيروقراطية ومادة لتبادل الاتهامات وتسجيل نقاط. والأمر الأكيد أنّ شقّ التسعة سيحمّل الأمين العام الطبوبي مسؤولية “الإلغاء” وقد بدأت بعض الإشاعات في الرواج. كل شيء أصبح جائزا في حرب كسر العظام بين حلفاء الأمس أعداء اليوم.

ونحن على مشارف الذكرى 47 للإضراب العام في 26 جانفي 1978 لا يسعنا أن نقول سوى شتان بين ذلك الإضراب العام وهذا وبين اتحاد ذلك العهد واتحاد اليوم وبين قيادات تلك الفترة والقيادات الحالية.

المؤتمر الوطني وبدعة التحصين

لقد اكتشف شقّ التسعة “تحصين المؤتمر” الوسيلة الأكثر فعالية لاستئناف كل شيء من نقطة الصفر. فبعد أن قررت الهيئة الإدارية في دورة سابقة عقد المؤتمر في شهر مارس القادم “تفطن” مجموعة التسعة بقيادة سامي الطاهري إلى ثغرة في القرار وصار لزاما معالجتها بما من شأنه تفويت الفرصة على قيس سعيد في إثارة لا قانونية المؤتمر وبالتالي اتخاذ ما يمكن أن يتخذه من إجراءات ضدّ الاتحاد. لهذا السبب وجب إذن إما إيجاد صيغة لسدّ هذه الثغرة أو تأجيل موعد المؤتمر وبكل بساطة عقد المؤتمر في أجله القانوني في بداية 2027.

طرحت المسألة في البداية “بشكل بريء” وبغاية لفت الانتباه إلى ثغرة غفلت عنها الهيئة الإدارية. وعندما قوبلت هذه الفكرة بالرفض لا فقط من قبل الخصم المباشر أي مجموعة الأربعة ومعهم الأمين العام (الخماسي في ثوب جديد) اتضحت المبررات الجدية والنوايا الحقيقية.

يتذكر الجميع الصراع الحاد الذي عرفته الهيئة الإدارية بتاريخ 23 سبتمبر 2025 حول إصدار قرار عقد المؤتمر الاستثنائي وتاريخه والذي انتهى برفع أشغالها واجتماع المكتب التنفيذي على الهامش والعودة بعد وقت وجيز بوثيقة أمضاها كافة أعضاء المكتب التنفيذي احتفظ بها الأمين العام كوديعة لديه نصّت آنذاك على عقد مؤتمر عادي أيام 25 و26 و27 مارس 2026 بتونس العاصمة.

عندما تمت إثارة مسألة “تحصين المؤتمر” كان مستند هذه الدعوة هو عبارة “مؤتمر عادي” ما يعني أنّ مؤتمر مارس ليس مؤتمرا استثنائيا. والمؤتمر العادي لا يمكن عقده بتقديم أجله بسنة كاملة ما يستوجب تحويل مؤتمر مارس من مؤتمر عادي إلى مؤتمر استثنائي، وهو قرار يجب أن يصدر وجوبا عن المجلس الوطني (سواء كان عاديا أو استثنائيا).

هكذا تمت هندسة الانقلاب على قرار الهيئة الإدارية بدعوة المؤتمر الاستثنائي والاستمرار في الكرسي القيادي حتى مستهل سنة 2027.

إنّ فكرة “تحصين المؤتمر” في ظاهرها بدافع الاحتياط ممّا يمكن أن يستغله قيس سعيد لإبطال المؤتمر أو إبطال نتائجه وبالتالي ضرب المنظمة وفي عمقه حسابات أخرى لا يقع التصريح بها علنا في اجتماعات هياكل الاتحاد ولكنها تطرح كشروط في “المفاوضات” التي تجري في الغرف المغلقة. وقد أكد أكثر من مصدر أنّ شرط مجموعة التسعة (غير المعلن) بقيادة سامي الطاهري هو الاتفاق المسبق على تركيبة المكتب التنفيذي القادم والأمانة العامة.

هذه هي أقصر السبل إلى المؤتمر القادم. وفي غياب ذلك لن تتقدم الأمور ولو قيد أنملة.

ويتضح ممّا سبق أن المؤتمر القادم تقرر مثله مثل الإضراب العام لكي لا يقع. ويتأكد كل يوم أكثر أنّ موعد مارس القادم ليس غير أداة من الأدوات التي تستخدم في المفاوضات من أجل تأمين مواقع يوم غد لا أكثر.

في الأثناء جرت مياه كثيرة تحت الجسر وإلى أن يحل ذلك الموعد، 25 – 27 مارس 2026، ستتدفق مياه وسيول أكبر قد تجرف الاتحاد العام التونسي للشغل إلى مآلات لم يكن أحد يتوقع في يوم من الأيام أن تهدد وجود منظمة حشاد.

يتبع

إلى الأعلى
×