الرئيسية / صوت النقابة / 26 جانفي بين الأمس واليوم (الجزء الثاني)
26 جانفي بين الأمس واليوم  (الجزء الثاني)

26 جانفي بين الأمس واليوم (الجزء الثاني)

بقلم سها ميعادي

الدّروس والعبر

ما من شكّ في أنّ تاريخ 26 جانفي 78، يُعتبر مفصليّا في تاريخ المنظمة الشغيلة والطّبقة العاملة والشّعب التونسي عموما بما انطوى عليه من قضايا تجاوزت المطالب المهنيّة إلى مطالب تشمل الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتردّي والمتعلق بالخيارات الاقتصادية للدّولة وإلى قضايا سياسية تهمّ نظام الحكم والصّراع الدّائر بين شقوق النّظام وعلاقة المنظمة بالسّلطة وتهمّ الحريات السياسية والحريات العامة والفردية. وكان للعمّال ومختلف فئات المجتمع دور مهمّ في أحداثه من خلال تعبيرها عن غضبها ورفضها للاستبداد والتّفقير ومن خلال فرض المواجهة مع العدوّ الطّبقي وحصول الانفجار الاجتماعي المعبّر عن الحيف الطّبقي الذي كانت تعيشه من جهة، وإجبار البيرقراطيّة النّقابيّة آنذاك على مسايرة هذه الحركة وتبنّي مطالب المنتفضين. لقد مكّنت أزمة 26 جانفي الحركة النقابية التّونسيّة ولأوّل مرّة من بلورة أرضيّة نقابيّة جديدة تنادي باستقلالية قرار المنظمة النقابية وبالدّيمقراطية الدّاخلية وبالنّضالية، الأمر الذي جعل منها حركة نقابية نموذجية لها أسلحتها في خوض الصراع الدّاخلي مع البيرقراطية النقابية ومع السّلطة. وأصبحت هذه الشعارات حاضرة وبشكل قويّ خاصّة في الأزمات التي تلت أزمة 26 جانفي إلاّ أنّها مع ذلك بقيت شعارات عامّة ومحلّ تجاذب بين البيرقراطية التي تسعى إلى إفراغها من محتواها وتطويعها حسب مصالحها الضيّقة وخاصة في علاقة بالسّلطة وبين القاعدة النقابيّة السّاعية إلى تجذير الوعي بركائز هذه الشعارات.
أمّا السّلطة السياسية وبعد جملة الهزّات التي شهدتها علاقتها بالمنظمة الشغيلة والتي كانت لها انعكاسات مباشرة على الوضع العام بالبلاد، واستفادةً من درس 26 جانفي ارتأت تغيير تكتيكها في اتّجاه تجنّب الصّدام وأيقنت أنّ التدخّل السّافر المباشر في اتحاد الشغل لا يُجدي نفعا ولا يحقّق أهدافها في تدجين المنظمة وجعلها طيّعة ليّنة في يدها من أجل تمرير خياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. واعتمدت مقابل ذلك سياسة “القلاع لا تؤخذ إلاّ من الدّاخل”. ولئن فشلت في تحقيق مختلف انقلاباتها النّاعمة على القيادات الشّرعيّة فإنّ ذلك بفضل يقظة النقابيين وتطوّر الوعي لديهم في محطّات كثيرة من تاريخ الحركة النّقابيّة. إلاّ أنه بمجيء بن على على رأس السلطة السياسية تمكّن من إحكام قبضته على المنظمة بشكل غير مباشر من خلال تحقيق الوئام التام بينه وبين البيرقراطية النقابية ومساعدة هذه الأخيرة في محاولة التّخلّص من كلّ المناوئين لها وللسّلطة.

شعارات 26 جانفي وراهنيّتها اليوم

لعلّه لا يختلف اثنان أنّ شعارات الاستقلالية والدّيمقراطيّة والنّضاليّة التي شكّلت أرضيّة الحركة النقابية في تونس خلال أزمة 1978، مازالت تحافظ على راهنيّتها وذلك لعدّة أسباب:

أ. في مسألة الاستقلالية:

الأكيد أنّ الثّورة بما حقّقته من حرية في التّعبير والتّظاهر والاحتجاج والتّنظّم وما شهدته الأوضاع العامة للبلاد خلال العشريّة الأولى للثّورة جعلت علاقة السلطة بالاتّحاد بعيدة نسبيّا عن الهيمنة ومحاولات وضعه تحت سيطرتها، وإن اعتمدت تجاه المنظّمة خطاب الشّيطنة والتّشويه والتّرذيل للعمل النّقابي. ولكن بعد انقلاب 25 جويلية 2021، شهدت علاقة الاتحاد بقيس سعيّد توتّرات حادّة. ويمكن القول أنّ سعيّد نجح في تهميش وتحييد دور الاتحاد سواء على المستوى الوطني (رفض مبادرته للإنقاذ الوطني)، أو النقابي من خلال سحب البساط من تحته في كل الملفات المتعلقة به (المنشور 20 و21، إيقاف المفاوضات الاجتماعية، الالتفاف على الاتفاقيات الممضاة، سحب التفرغات والرخص النقابية، الزيادة من جانب واحد في السميغ وللمتقاعدين، عدم اعترافه بمحاضر الجلسات، إدخال تعديلات في مجلة الشغل من طرف واحد…). دون أن ينسى تسديد ضربات موجعة لنقابيين من مختلف الهياكل باستعمال القضاء تحت مسوّغات متنوّعة بعضها نقابي مهني (الصد عن العمل) وبعضها تحت يافطة مقاومة الفساد التي تستهوي طيفا واسعا من المجتمع المتقبّل لفكرة تطهير الاتحاد من بيرقراطية فاسدة تعيش في أرغد العيش من أموال منتسبيها ولا همّ لها إلاّ الإثراء الفاحش. لقد نجح فعلا سعيّد في خلق حالة من الفراغ حول الاتحاد من خلال السّطو على أدواره، علّة وجوده، ومن خلال مزيد تهرئة صورته والقضاء على حاضنته الشعبية تمهيدا لإلغاء دوره والقضاء عليه نهائيّا. فسعيّد لا يؤمن بالأجسام الوسيطة بل هو يسعى إلى القضاء عليها حتّى يتسنى له تركيز حكمه الاستبدادي بشكل مطلق وتمرير خياراته الاقتصادية. هذا إضافة إلى أنّ سعيّد تمكّن من اختراق المنظمة في مختلف الهياكل واستطاع أن يشتري الذمم وأن يساهم عبر زبانيته في تأجيج الصراع الدّائر حاليّا صلب المنظّمة دون أن يظهر بشكل مباشر في المشهد، استعدادا للانقضاض عليها في الوقت المناسب.

ب. في مسألة الدّيمقراطيّة:

ظلّ النّضال من أجل دمقرطة الحياة الدّاخلية، منذ أزمة 78، من أبرز أوجه الصّراع ضدّ مختلف التشكيلات البيرقراطية المتعاقبة على قيادة المنظمة. وهو صراع له ما يبرّره بما أنّ نهج التّسيير البيرقراطي مازال قائما ومستمرّا. ويُقرّ عموم النقابيّين والمهتمّين بالشّأن العام أنّ المسألة الدّيمقراطيّة من بين أهمّ الأسباب في الأزمة النّقابيّة التي يمرّ بها الاتحاد العام التونسي للشغل اليوم. فقد خيّرت هذه القيادة الانقلاب على القانون الأساسي والنظام الداخلي وخاصة الفصل 20 المتعلّق بتحديد المدة النيابية بدورتين لأعضاء المكتب التنفيذي رغم ما شهده هذا المسعى من معارضة. إلاّ أنّ البيرقراطية النقابية أصرّت على المضيّ فيه قدما وجيّشت خبراءها لتجاوز الثغرات القانونية فيه. وتمكّنت من عقد مؤتمر استثنائي غير انتخابي غيّرت بمقتضاه الفصل 20 المكسب الدّيمقراطي الذي ناضلت من أجله مختلف هياكل الاتحاد وعموم النقابيّين التّقدّميّين ضاربة عرض الحائط بوحدة الصفّ النقابي وبما يمكن أن يمثّل مدخلا لتصدّع الجبهة الدّاخلية للمنظمة. لقد جنت قيادة الاتحاد على نفسها بدوسها على القوانين وبشراء الذّمم وتزوير إرادة الهياكل القاعديّة والتّدخّل السّافر في تشكيل الهياكل النّقابيّة وبمزيد تكريس ثقافة الزّبونيّة والمحسوبيّة التي سادت المنظمة منذ عقود متتالية. ولم تدرك بسبب تشبّثها الأعمى بمواقعها وسعيها المحموم للمحافظة على امتيازاتها الخاصةّ ومصالحها الضيّقة وبما قامت به من أخطاء جسيمة أنّ وحدة الصّف النقابي وحده الكفيل بمواجهة مؤامرات السّلطة المتربّصة بالاتّحاد. لذلك بات ملحّا أكثر من أيّ وقت مضى التّفكير في تحويل شعار الدّيمقراطيّة الدّاخلية إلى ممارسةٍ تكرّسه إجراءات عمليّة ملموسة تقطع مع المركزة المشطّة ونمط التّسيير الفوقي والبيرقراطي.
مهمّة بقدر ما تبدو على درجة من الصّعوبة بقدر ما تمثّل المدخل الحقيقي للخروج بالمنظمة من أزمة تسبّب فيها القائمون عليها في ظل واقع سياسي واقتصادي يتّسم بالكثير من الغموض وفي ظل حاجة الطبقة العاملة إلى منظمة موحّدة قويّة قادرة على الدّفاع عن مصالح منظوريها وعن عموم الشعب التّونسي.

ت. في مسألة النّضاليّة:

سعت قيادة الاتحاد بعد رفض سعيّد لمبادرتها حول الإنقاذ الوطني إلى أن تكون بياناتها وتصريحاتها ذات نبرة تصعيدية فأدانت وبشدة تنكّر السلطة لاتفاقاتها وهجومها على النّقابييّن ومحاكمتهم بتعلاّت مختلفة كما ندّدت بسياسات سعيد وانتهاكه لحقوق المواطنين والحقوق النقابية. إلاّ أنّ طريقة تعاطيها مع سياسة سعيّد تجاهها لم تكن متماهية مع هذه النّبرة واتّسمت ممارستها بالعجز التام وبعدم القدرة على صياغة خطط نضاليّة تعبّئ لها العمّال. فكان أن فشل، على سبيل الذّكر لا الحصر، إضراب الوظيفة العمومية والقطاع العام في 16 جوان 2022. ومنذ تاريخ 04 مارس 2023، دخل الاتحاد في صمت مريب أثار جدلا كبيرا واستغرابا من عجزه عن ردّ هجومات سعيّد تجاهه. لقد صمت الاتحاد بشكل مفضوح مخيّرا “النضال الصامت” الذي أصبح محلّ تندّر داخل الاتحاد وخارجه. لقد رسّخت قيادة الاتحاد في الأذهان بهذا السلوك ضعفها ووهنها في صراعها مع السّلطة وعجزها عن إيجاد حلول وأساليب نضالية تواجه بها سلطة الاستبداد. وكان لابدّ من انتظار سنة من الصّمت لتعود البيرقراطية إلى تحشيد قواعدها في تجمّع 02 مارس 2024 ردّا على تأزم الوضع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وحقوقيا… وبينما كان ينتظر الجميع أن يكون هذا التجمّع بداية مسار نضالي ميداني إلاّ أنّ التوقعات خابت وعادت المنظمة إلى صمتها وإلى مشاكلها الداخلية وتركت عموم الشغالين يواجهون شظف العيش والفاقة والخصاصة نتيجة الارتفاع المشطّ في الأسعار وتدهور مقدرتهم الشرائيّة وفُسح الجمال على مصراعيه لأرباب العمل للنّيل من العمّال وتعريضهم للطّرد والتّسريح. كلّ هذا في ظلّ انقطاع الحوار مع السّلطة التي وجدت في التّضييق على العمل النقابي والتّعدّي على الحقوق النّقابيّة فرصتها السّانحة لتمرير خياراتها الاقتصادية والاجتماعية.. خيارات عمّقت الفوارق الطّبقية والتّفاوت بين الجهات.
لقد بدا الاتحاد بفعل تخبّطه في صراعاته الدّاخلية عاجزا عن صياغة برامج نضالية تعود بالنّفع على الطبقة العاملة وعموم الشعب التونسي، وهو ما من شأنه أن يُفقد الثقة فيه أكثر وأن يكون على هامش الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الأمر الذي لن تقبل به قواعد المنظّمة عاجلا أم آجلا.

ختاما

إنّنا في حاجة اليوم، أكثر من أيّ وقت مضى، إلى أن نستلهم الدروس من أزمة 26 جانفي 1978، وأن نقف على مواطن الضعف والقوّة فيها علّنا بذلك نتسلّح بما يمكّننا من تجاوز الأزمة التي تعصف بالمنظمة اليوم ونهتدي إلى الحلّ الملائم لمعالجتها.

26 جانفي بين الأمس واليوم (الجزء الأوّل)

إلى الأعلى
×