الرئيسية / صوت الوطن / في عيد الفلاحة: الفلاحة تحتضر
في عيد الفلاحة: الفلاحة تحتضر

في عيد الفلاحة: الفلاحة تحتضر

بقلم حسين الرحيلي

القطاع الفلاحي في تونس، لا نتذكره إلا يوم 12 ماي من كل سنة في إطار الاحتفال فيما سمّي بالجلاء الزراعي. هذا القطاع الذي تمّ الاتفاق غير المُسبق والغير مبرمج بين كل الحكومات التي تعاقبت على تونس منذ أواخر الستينات على تدميره وتهميشه بشكل تدريجي وممنهج. وبالتالي تدمير طبقة الفلاحين والمزارعين الصغار، الذين يمثلون 85 % من القطاع الفلاحي، لكنهم لا يملكون إلا 20 % من الأراضي الزراعية، في إطار انخرام عقاري موروث عن الاستعمار من ناحية، وتكريس من السلط المتعاقبة لـ”الإقطاع” بكل أشكاله الجائرة من ناحية أخرى على القطاع الفلاحي.

تهميش القطاع الفلاحي خيار استراتيجي

ولكن تهميش القطاع الفلاحي ليس من باب ندرة موارده أو أنّ تونس لا تملك المقومات الطبيعية لتكون فلاحتها فلاحة عصرية ومتطورة ومنتجة، بل هو خيار استراتيجي من حكام تونس منذ سياسة الانفتاح بداية السبعينات، لتحويل تونس إلى مجرّد حديقة خلفية لإنتاج ما يحتاجه المستهلك الغربي أو ما يريد إنتاجه لاستهلاكه كميات كبيرة من الماء والطاقة والتربة. هذا إضافة إلى ارتباطنا بهم فيما يخصّ الموارد الأساسية من حبوب وأعلاف وزيوت نباتية وغيرها من الزراعات الاستراتيجية وذات القيمة الاقتصادية الكبيرة والحياتية الأساسية، أي اختاروا أن يتحكّموا في غذائنا واختير لنا أن ننتج لهم ما يريدون وقت ما يريدون وحيثما يريدون.
فهل يمكن لبلد يملك موارد مائية متوسطة و5.3 مليون هكتار من الأراضي القابلة للزراعة، تتنوع تربتها وأنساق مناخها، أن يستورد ثلثي (2/3) حاجياته من الحبوب، وثلاثة أرباع (3/4) من الأعلاف والزيوت النباتية، وأن يبقى شعبه رهين تقلب الأسواق العالمية في مجال الغذاء، ممّا عمّق عجز الميزان التجاري الغذائي طيلة أكثر من 40 سنة؟

الشحّ المائي يعمّق فشل الخيارات

كما تعمّقت الأوضاع في القطاع الفلاحي خلال الخمس سنوات الأخيرة تحت تأثير الجفاف المتواصل وتقلص التساقطات وارتفاع درجات الحرارة بفعل التغيّر المناخي.
فتراجعت مخزونات السدود من 63 % سنة 2019 إلى 19.6 % في نوفمبر 2024. كما تواصلت الضغوطات على الموارد المائية الجوفية والتي وصل استغلالها في بعض المناطق إلى 220 % في مؤشر خطير على الاستنزاف الكبير للموارد الجوفية التي لم تعد قادرة على التجدد بفعل انحباس الأمطار وتواصل سنوات الجفاف.
وأمام كل هذه الأوضاع، إضافة إلى تعمق نتائج فشل الخيارات الاقتصادية المرتبطة بالقطاع الفلاحي، تراجعت نسبة النمو بالقطاع إلى -11 % سنة 2023 ممّا أثر على نسبة النمو الوطنية والتي لم تتجاوز 0.4 %. وهو ما يعني أنّ القطاع الفلاحي بكل نقائصه يبقى قاطرة للتنمية الاقتصادية.
وإذ قامت جلّ دول العالم بإعداد برامج ومخططات لمساعدة قطاعاتها الفلاحية على التكيف مع التحولات المناخية وتقلبات المناخ على مستوى التساقطات وارتفاع درجات الحرارة، إضافة إلى مساعدة فلاحيها ماديا وتقنيا على سياسات التكيف والتأقلم من ناحية، واعتبار الجفاف والتحولات المناخية جائحة طبيعية تتطلب التعويض للفلاحين وخاصة الصغار، فإن السلطة القائمة في تونس، وبعد سنوات جفاف متواصلة، وما أفرزته من نتائج كارثية على القطاع الفلاحي والفلاحين بشكل عام والصغار منهم بشكل خاص، لم تعلن حالة الطوارئ المناخية وحالة الجفاف وما يتطلبه ذلك من حق الفلاحين في التعويض ولو جزئيا على ما لحق نشاطهم من ضرر وتراجع في مواردهم وخاصة في مجال الأعلاف والزراعات الكبرى وتربية الماشية. فتراجع القطيع من الماشية بحوالي 30 % والأبقار بحوالي 40 %. وهو ما كان له التأثير الكبير على أسعار اللحوم الحمراء والتي وصلت إلى 55 د. وهو ما جعل أغلب العائلات التونسية تنسى رغما عنها هذا النوع من اللحوم خلال السنوات القليلة الماضية.

صغار المزارعين: المتضرّر الأول من سياسات الدولة

وأمام تراجع مياه الري أو قطعها في بعض المناطق (المنطقة السقوية لخماس بسليانة)، فلم يبق لعدد كبير من الفلاحين الصغار إلا التخلى عن أراضيهم الصغيرة والنزوح إلى المدن القريبة منهم مع عائلاتهم للبحث عن مصادر رزق أكثر أمانا من الفلاحة بعدما تمّ التخلي عنهم ولسنوات طويلة من طرف الحكومات المتعاقبة والتي لم تتفق إلا على نفس سياسات التجويع والتهميش وتحويل الأراضي الوطنية إلى حديقة خلفية للأجانب ينتجون فيها وبواسطة مياهنا ما لا يريدون إنتاجه ببلدانهم أو ما لا يستطيعون إنتاجه.
أمّا على المستوى المالي، فإن القروض الفلاحية التي كانت صمام أمان مادي للفلاح ليتمسك بالأرض وبالنشاط الفلاحي، فقد أصبحت من الأماني لأغلب الفلاحين الصغار أمام تعقّد الإجراءات وشروط البنوك وخاصة البنك الوطني الفلاحي الذي أحدث من أجل الفلاحة والفلاحين، لكن ومن خلال تقرير نشاطه لسنة 2024 والذي تمّ تقديمه أمام جلسته العامة خلال شهر أفريل الماضي، فقد نصّ على أن نسبة القروض الفلاحية لم تتجاوز 7.5 % من جملة القروض الممنوحة من طرف هذا البنك سنة 2024. وهو تعبير صادق على مواصلة تخريب القطاع الفلاحي على كل المستويات: المالية والعقارية والمائية.
إنّ اقتصادا يفقد أحد قطاعاته المنتجة والأساسية، لا يمكن له أن يكون اقتصادا منتجا للثروة والمراكمة. وبالتالي فإنه لن يكون قادرا على خلق مواطن الشغل وتحقيق الرفاه الاجتماعي والسيادة الغذائية وبالتالي السيادة الوطنية. فالسيادة الوطنية ليست مجرد شعارات تردد لبيع الوهم للشعب المهمش والبائس والرازح تحت وطأة البطالة والفقر والتغييب والحصار، بل هي رؤية واستراتيجية وطنية شاملة ومخططات عملية تكون إفرازا منطقيا لحوار مجتمعي شامل لا إقصاء فيه لأحد. لأن التنمية لا تقوم إلا على المشاركة الواسعة للناس في القرار والفعل وبالتالي الاستفادة من مراكمة الثروة.

هل من بديل لهذه الأوضاع المزرية؟

إن إصلاح القطاع الفلاحي في تونس، وجعله قاطرة أساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية من ناحية، ومدخلا حقيقيا لتحقيق السيادة الغذائية والتي من خلالها يمكن الحديث عن السيادة الوطنية من ناحية أخرى، لا يمكن أن يكون إلا من خلال مشروع وطني متكامل مرتكز على النقاط التالية:

  • إعادة النظر في منوال التنمية القائم على وهم التصدير.
  • إعادة النظر في خارطة الإنتاج الفلاحي برمتها بشكل يجعلها مطابقة للتحديات المائية الجديدة من ناحية، ومرتبطة بالخصوصيات المحلية والجهوية من ناحية أخرى.
  • استعمال الماء لتوفير الحاجيات الأساسية للشعب قبل التفكير في التصدير.
  • إدراج البصمة المائية في المعادلة الاقتصادية وخاصة في المبادلات التجارية.
  • منع زراعة وإنتاج كل المواد المستهلكة للماء والمعدة للتصدير.
  • منع غراسة أيّ نباتات هجينة تتطلب كمية مياه كبيرة مهما كانت تعلة الإنتاجية والمردودية، لأنه لا مردودية مالية أمام الهدر المائي وتصديره.
  • إعادة الاعتبار لثقافة التكيف والتأقلم التي مارسها الإنسان التونسي على هذه الأرض (الفسقيات والمواجل والمسقاط وطرق الزراعة المتطابقة مع طبيعة المناخ والتربة وتوفر الماء)، وبشكل عام إعادة إحياء ثقافة الماء لدى الإنسان.
  • عدم تحويل مواردنا المائية إلى مناطق لإنتاج الهيدروجين الأخضر للدول الغنية لتبييضها من التلوث وجعلها تصل إلى الحياد الكربوني على حساب سيادتنا المائية.
  • الاستثمار في تهيئة المناطق السقوية لتلافي الهدر المائي الكبير، خاصة وأنّ هذه المناطق تستعمل 77 % من مواردنا المائية السنوية.
إلى الأعلى
×