بقلم حبيب الزموري
تواترت في الأسابيع الأخيرة الاجتماعات العمالية والندوات والهيئات القطاعية وبرقيات الإضراب لا سيما في القطاعين الخاص والعام في ظل تعثر الانطلاق الجدي للمفاوضات الاجتماعية، هذا التعثر الذي أصبح سمة مميزة للسلطة الحاكمة وللرأسمالية المحلية والأجنبية المنتصبة في تونس في ظل السياسة الشعبوية التي لم يعد عداؤها للتنظم والحق النقابي خافيا على أحد.
حيث سجّلت الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل المنعقدة يوم الثلاثاء 01 جويلية 2025 “تعثر المفاوضات الجماعية في القطاع الخاص وانعدام الجدية في التعاطي معها، محمّلة الأطراف الاجتماعية من حكومة والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية مسؤوليتهم في استمرار توتّر المناخ الاجتماعي” كما دعت كافة الشغالين إلى “الاستعداد للدفاع عن مطالبهم الشرعية بجميع الوسائل النضالية المشروعة وضبط روزنامة التجمعات وندوات الإطارات وكافة أشكال التعبئة للتصدّي للمماطلة ولضرب حقّ التفاوض”.
لئن أصبح هذا الخطاب النقابي التصعيدي نوعا ما قبيل جولات المفاوضات تقليدا نقابيا مميزا لسلوك القيادة النقابية تقوم بالتصعيد والتخفيض من وتيرته حسب تقدم جولات المفاوضات فإن الظروف التي تمر بها المنظمة النقابية وظروف إدارة دواليب الدولة في ظل حكم قيس سعيد تجعل من هذه الجولة من المفاوضات الاجتماعية، إن كتب لها أن تنعقد بطبيعة الحال، مختلفة بشدة عن كافة المفاوضات السابقة.
فعلى مستوى الوضع النقابي الداخلي لم يدخل الاتحاد مفاوضات اجتماعية وهو في مثل هذه الحالة من الانقسام والتشرذم وتبادل الاتهامات بين قياداته وهياكله مما أثر فعليا على قدرته على التعبئة وتأطير القواعد العمالية، هذا بالإضافة إلى انطلاق العد التنازلي لانعقاد المؤتمر الاستثنائي في مارس 2026 بتشكيل اللجان وانطلاق النقاشات غير المعلنة حول المواقع في المكتب التنفيذي الوطني القادم وهو ما من شأنه التشويش على الاستحقاقات الاجتماعية والوطنية التي تواجهها المنظمة. أما على مستوى الوضع العام بالبلاد فيعتبر قيس سعيد ومشروعه الشعبوي الاستبدادي أكبر مستفيد من الوضع الذي تردت فيه المنظمة الشغيلة وعجزها عن التأثير في الشأن العام والتوجهات الكبرى التي تسير فيها البلاد والتي أصبحت تنذر بالخطر ناهيك عن عجزها عن الدفاع عن الحق النقابي والهرسلة التي طالت العشرات من النقابيين.
اصطلح النقابيون و المتابعون للشأن النقابي بشكل عام على تسمية هذا السلوك النقابي للقيادة النقابية الذي يسبق عادة أي استحقاق اجتماعي مع الحكومة “بسياسة التسخين و التبريد”، و لئن برعت المركزية النقابية في مناسبات سابقة في ممارسة هذه السياسة بفضل قدرتها على التعبئة و التحشيد و على التأثير في الرأي العام فإن الوضع هذه المرة يختلف رغم مكابرة القيادة النقابية في الاعتراف بتراجع قدراتها التعبوية و عجزها عن المحافظة على وحدة الممارسة النقابية حتى داخل الهياكل و الأطر و الوصول بالمنظمة إلى حافة الانقسام و الانهيار مما أجبرها على القبول بمبدأ تقديم تاريخ المؤتمر العام عسى أن يتوقف هذا النزيف. و من ناحية أخرى فإن سلوك قيس سعيد و حكومته في علاقة بملف المفاوضات الاجتماعية و أوضاع الشغالين تؤكد تماديه في تهميش دور المنظمة الشغيلة و انفراده بالقرار سواء في تنقيح مجلة الشغل أو في الزيادة في الأجور منفردا بكل قطاع على حدة معوّلا على سحب البساط من تحت أقدام المنظمة الشغيلة شيئا فشيئا. و رغم خطورة هذه السياسة على المنظمة و على الحق النقابي و الحقوق و الحريات الأساسية، فإننا نلاحظ أن ردة فعل المركزية النقابية مازالت بعيدة كل البعد عما يتهدد المنظمة جراء هذه السياسات الشعبوية، و لا يعود ذلك في تقديرنا إلى غياب الوعي بخطورة هذه السياسات بقدر ما يعود إلى عجز المنظمة في ظل وضعيتها الحالية عن تعديل موازين القوى و إجبار السلطة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بالإضافة إلى جوهر العقيدة النقابية التي تأسس عليها الاتحاد و هي تجنب الوصول بالصراع مع السلطة القائمة إلى مرحلة الصراع الوجودي فحتى في ذروة الصراع مع السلطة سنوات 1978 و 1985 لم ترفع القيادة النقابية شعار إسقاط النظام رغم مساعي النظام إلى اسقاطها، بوصفها جزء من هذا النظام القائم منذ سنة 1956 و تتولى دور الوساطة بينه و بين عموم الشغالين في البلاد إلى أن تربع على عرش هذا النظام المحافظ على جوهره الطبقي من لا يؤمن بهذا الدور و لا يريد وسيطا بينه و بين الشعب.
الاستحقاقات الداخلية للمنظمة وعلى رأسها الاستعداد للمؤتمر العام في مارس القادم ستلقي بظلالها على الاستحقاقات الاجتماعية والنقابية رغم سلسلة الندوات والهيئات القطاعية والإضرابات التي شرع الاتحاد في تنظيمها. إن أولوية الأولويات اليوم هي الانكباب على توفير أفضل الظروف لنجاح المؤتمر القادم بإدخال التنقيحات الضرورية على فصول النظام الداخلي التي شكلت طيلة السنوات الفارطة عنوانا للأزمة الديموقراطية داخل الاتحاد و تكريس الشفافية في المعاملات المالية و الإدارية داخل المنظمة التي ظلت طيلة عقود مرتعا لمختلف العلاقات الزبونية و الإشاعات و تبادل الاتهامات رغم ما قد يعنيه ذلك من تضحية بالجولة القادمة من المفاوضات الاجتماعية إن تم عقدها و لكن حتى في صورة انعقادها فإننا لا نعتقد أن المنظمة في ظل موازين القوى الحالية و بالأداء القيادي الحالي قادرة على تحقيق مكاسب ذات بال للشغالين في القطاعين العام و الخاص و في الوظيفة العمومية.
صوت الشعب صوت الحقيقة
