بقلم مها عمروسية
تعتبر الهجرة ظاهرة مركزية في التاريخ الإنساني وقد تكون إلى حدّ كبير الخيار الوحيد المتاح أمام الملايين من البشر، غير أنّ جزءا كبيرا من الناس يعتبر الهجرة خطرا داهما وتهديدا مباشرا. هذا التصوّر جعل من الهجرة أداة سياسية بيد التيارات اليمينية المتطرفة، سواء في الولايات المتحدة أو في أوروبا حيث أصبحت الهجرة محورًا رئيسياً في الحملات الانتخابية لليمين وباتت “مطاردة” المهاجرين موضوعا قارًا يطرح بشكل شبه يومي في وسائل الإعلام والمنابر السياسية.
ومن اللافت أنّ هذا الخطاب العدائي لم يَعُد حكرًا على بلدان الشمال، بل انتقل في العقود الأخيرة إلى دول الجنوب حيث تصاعدت الحملات في لبنان ضدّ السوريين والفلسطينيين وتزايد اضطهاد السودانيين في مصر، وارتفعت بشكل غير مسبوق الكراهية ضدّ المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء في بلدان المغرب العربي.
الهجمات ضدّ المهاجرين في كل هذه البلدان تشترك في الخلط المتعمّد بين الوقائع والتعميم والتهويل والاستنتاجات غير المدعومة بأيّ أساس علمي أو واقعي. فكثيرا ما تمّ توظيف الهجرة في فترات مختلفة من التاريخ بهدف خلق عدوّ خارجي وهمي تتوحد ضدّه الشعوب بهدف توجيه الأنظار بعيدًا عن القضايا السياسية الجوهرية والمسؤولين الحقيقيين عن الأزمات. نظام قيس سعيّد ليس استثناءً في هذا السياق. فقد لجأ إلى استثمار قضية المهاجرين وتضخيمها بهدف التغطية على فشل سياساته الاجتماعية والاقتصادية من خلال بثّ خطابات تُغذّي الخوف الجماعي وتؤجج التوترات الداخلية.
لقد تأثّر التناول الإعلامي لهذه المسألة بالتضييق على المجتمع المدني والاستبعاد الممنهج للأصوات المعارضة للخطاب الرسمي منذ انقلاب 25 جويلية. وقد مهّد هذا المناخ الطريق أمام تصاعد خطابات الكراهية ونظريات المؤامرة التي انتشرت بقوة على وسائل التواصل الاجتماعي، فرأس السلطة ثابر على ترديد نفس المزاعم (خطاب 21 فيفري 2023 ) صحبة طيف واسع من الوجوه السياسية، مثل النائبة فاطمة المسدّي التي تكرر تقريبًا نفس “الحجج” التي يسوّقها اليمين الأوروبي ضدّ مواطنينا المهاجرين في الخارج.
إنّ المنطق يقتضي الإسهام النشيط في الجدل حول موضوع الهجرة بهدف إعادة طرح النقاش على أرضية أكثر عقلانية وموضوعية، والقطع مع الخطاب الشعبوي العنصري الخطير الذي يلقى رواجا واسعا في تونس، الأمر الذي يغذي مشاعر الخوف والكراهية ويرفع من منسوب الاحتقان الاجتماعي.
هل الهجرة ظاهرة جديدة؟
يعتبر علماء التاريخ والأنتروبولوجيا أنّ تاريخ النوع البشري هو تاريخ هجرات. فالأبحاث تظهر أنّ أول موجة هجرة كبرى في التاريخ هي هجرة الإنسان العاقل (Homo sapiens) عبر إفريقيا وخارجها قبل 200 ألف و50 ألف عام، ليصل إلى أوروبا نحو 40 ألف عام قبل الميلاد، ثم إلى القارة الأميركية بين 20 ألفًا و15 ألف سنة قبل الميلاد. أسباب مختلفة تقف وراء هذه التنقلات منها تغيّر المناخ والتضاريس وعدم كفاية الإمدادات الغذائية. وتوفر اليوم البيانات الجينية المستخلصة من الحمض النووي البشري دلائل قوية على وقوع هذه الهجرات الكبرى عبر التاريخ.
مع بداية العصر النيوليتي قبل نحو 10 آلاف عام، أخذت الهجرات أبعادًا جديدة، مدفوعة بنموّ سكاني سريع نتيجة ظهور الزراعة وتدجين الحيوانات، ثم الاستقرار.. في هذه الفترة، برزت أولى أشكال التبادل التجاري، الذي ساهم بدوره في تسريع تراكم الموارد وتحقيق تقدم اقتصادي واجتماعي داخل المجتمعات الأولى. فظهرت أولى الكيانات السياسية مع تطور هذه التجمعات البشريّة: الإمبراطوريات والممالك، التي أصبحت مراكز إشعاع اقتصادي وثقافي وجذبت إليها شعوبًا أخرى. وفي العصور الوسطى، ساهمت تنقلات الشعوب في نشأة العديد من الدول والإمبراطوريات كالعرب والمغول والفيكنغ الذين أسّسوا إمبراطوريات كبرى بعد أن استقروا في مناطق جديدة واندمجوا مع السكان المحليين، ما أدّى إلى نشوء مجتمعات مزدهرة ومؤثرة عبر العصور.
ثم جاء فصل السود في تاريخ الهجرات البشرية مع توسّع الاستعمار الأوروبي. حيث تمّ بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر اختطاف وتهجير أكثر من 12 مليون أفريقي من رجال وأطفال ونساء إلى المستعمرات الأوروبية الناشئة في الأمريكيتين للعمل كعبيد في المزارع والمناجم والمصانع.
وفي القرن العشرين، أعادت الحربان العالميتان رسم خريطة الهجرة من جديد. فقد دفعت الصراعات والاضطهادات العرقية بملايين البشر إلى النزوح القسري من بينهم الأرمن واليهود والغجر. وقد غيّرت هذه الهجرات الجماعية وجه العالم، وساهمت في بروز مفاهيم جديدة مثل اللجوء السياسي والهجرة الجماعية وحقوق اللاجئين.
التركيبة الديموغرافية لتونس نتيجة موجات الهجرة المتتالية
شهدت تونس مثل أغلب دول العالم موجات هجرة عبر فترات تاريخية مختلفة ووفق أشكال متعددة. فموقعها الجغرافي جعلها نقطة التقاء شعوب من أفريقيا وأوروبا والجزيرة العربية، استقبلتهم أرضها وساهموا في تشكيل نسيجها الحضاري والاجتماعي.
بدأت هذه الموجات منذ العصور القديمة، عبر تنقل القبائل الأفريقية والعربية إضافة إلى الغزوات والحروب وظواهر أخرى كتجارة الرقيق. نتيجة لذلك، احتضنت تونس شعوب متنوعة من فينيقيين ورومان وبيزنطيين ووندال ثم القبائل العربية والأندلسيين فالأتراك. وفي العصر الحديث، شهدت البلاد تدفقًا لمستوطنين أوروبيين من فرنسا وإيطاليا ومالطا، خاصة مع الاحتلال الفرنسي والحروب العالمية.
تركت هذه الهجرات بصمتها على الهوية التونسية وساهمت في إثراء التراث الثقافي على مستويات عدة تشمل العادات والتقاليد، فنّ العمارة والفنون والموسيقى فضلا عن الأطباق الشعبية والمشروبات. وقد أكدت الدراسات الحديثة في علم وراثة المجموعات الإنسانية هذا التاريخ المركّب والتنوّع الجيني للتونسيين. فهم يحملون مثل غيرهم من شعوب شمال أفريقيا تراكمات جينية تعود إلى ملايين السنين تجمع مكوّنات إفريقية من جنوب الصحراء وشمال أفريقيا إلى جانب مكونات أوروبية وشرق أوسطية. وتتناقص هذه النتائج العلمية مع المزاعم التي يروّج لها مناصرو نظرية “تغيير التركيبة الديموغرافية” العنصرية التي تدّعي وجود تركيبة جينية نقية خاصة يجب الحفاظ عليها.
ظاهرة الهجرة، التي أصبحت اليوم موضوعًا للنقاش وأحيانًا محورًا لاستهداف المهاجرين في بعض الخطابات السياسية، تمثل في جوهرها امتدادًا طبيعيًا لمسيرة البشرية منذ نشأتها. ففي كل مرحلة من مراحل التاريخ، تطوّرت الهجرات وتغيّرت أشكالها ولكنها ظلت رمزًا للتبادل والتفاعل بين الشعوب ورافدًا أساسيًا لنقل المعارف والخبرات والمهارات ما يجعلها عنصرا أساسيا لتطور الإنسانية.
صوت الشعب صوت الحقيقة
