تسارعت الأحداث في الأيّام الأخيرة، خاصّة بعد كلمة قيس سعيّد أمام رئيسة حكومته بتاريخ 7 أوت 2025 والتي كانت إشارة انطلاق “الحرب” ضدّ الاتحاد العام التّونسي للشّغل. لقد حمل هذا الخطاب الذي تلا بساعات محاولة بعض العصابات الموالية للانقلاب اقتحام المقر المركزي للاتّحاد ببطحاء محمّد علي، عدّة رسائل تهديد إلى قيادات المنظّمة التي كال لها، كالعادة، سيلا من التّهم من ضمنها الفساد. وقد لمّح ضمنيّا إلى أنّ مردّ هذا الفساد هو “الاقتطاع المباشر من أجور الأجراء”. وقد فهم العديد من المتابعين بأنّ قيس سعيّد ربّما يمهّد بذلك إلى اتخاذ قرار “تجفيف المنابع” أي إيقاف الاقتطاع المباشر ليحرم المنظّمة العمّاليّة من مصدر تمويلها الأساسي. وقد فهمت الهيئة الإداريّة للاتّحاد الرسالة فاجتمعت في نهاية الأسبوع الماضي وقرّرت تحرّكا احتجاجيا أوّل يوم 21 أوت الجاري بالعاصمة مع إمكانيّة اللّجوء إلى الإضراب العام إذا اقتضى الأمر ذلك.
بعد أيّام من ذلك أصدرت رئاسة الحكومة قرارا بتاريخ 11 أوت 2025 يقضي بإلغاء التّفرّغ النّقابي وهو أمر لا يهمّ في الواقع سوى عدد قليل من الكوادر النّقابية باعتبار أنّ إلغاء التفرّغ تمّ منذ 2022. لذلك فهم المتابعون للشّأن النقابي أنّ هذا القرار الذي يبدو في الظّاهر “خارج الزّمن” إنّما هو خطوة تصعيديّة تحضيرا للقرار الأهم والأخطر الذي يهمّ الاقتطاع المباشر وهو ما اتضح من خلال كلمة قيس سعيّد ليلة الجمعة 15 أوت 2025 بمناسبة استقباله، كالعادة، لرئيسة حكومته. فبعد أن أشار إلى “ألّا نيّة في تصفية حسابات مع أي جهة كانت (المقصود اتحاد الشّغل) ولكن لا مجال في المقابل للتراجع عن المحاسبة” مرّ إلى لبّ الموضوع قائلا: “لا مجال لأن يحلّ أحد محلّ الدّولة لا في الانخراط غير الإرادي ولا في التمويل غير الطوعي”. وما هذا إلّا مقدّمة لاستصدار قرار يقضي بإلغاء الاقتطاع بهدف كسر شوكة الاتحاد والتقدم خطوة أخرى نحو تدجينه بالكامل إن لم نقل حلّه مع العلم أنّ الانخراط في الاتحاد إراديّ وليس مفروضا كما أن الاقتطاع طوعي وليس قسريّا إذ أنّه لا يتم إلّا بموجب مطلب يقدّمه صاحب الحساب لإدارته. وهو ما يبيّن كيف أنّ الكذب أصبح أداة حكم. وللتّذكير فإنّ آخر مرّة ألغي فيها الاقتطاع المباشر كانت سنة 1985 وهي السنة التي شنّت فيه حكومة مزالي هجوما كاسحا على الاتحاد وقامت بتفكيك كافة هياكله. ولم يعد الاقتطاع المباشر إلا بعد انقلاب 7 نوفمبر 1987. وفوق ذلك إذا كان سعيّد لا يرضى حقّا بالاقتطاع “غير الطّوعي” فلماذا يواصل اقتطاع 2% من أجور الموظّفين منذ 2017 دون موافقتهم علما وأنّ هذا الاقتطاع أقرّ في البداية لعام فقط؟
يتزامن كلّ هذا مع احتدام الصراع “الفايسبوكي” الذي تصاعدت فيه أصوات الحشود الفاشية مُطالبة بحلّ الاتحاد والزجّ بقياداته في السجون وإلغاء حقّ الإضراب وتجميد المطلبيّة الماديّة.
إنّ السّياق الحقيقي لهذا الهجوم على الاتحاد يتمثّل أوّلا في معاداة الشعبوية الفاشية بزعامة سعيّد كلّ “الأجسام الوسيطة” ومنها النّقابات بهدف تجريد العمّال والأجراء من أيّ سلاح تنظيمي يوحّدهم للدّفاع عن حقوقهم المادية والمعنويّة لتفرض عليهم ما تريد من السياسات المدمّرة. كما أنّه يتمثّل ثانيا في عجز منظومة سعيّد حاليّا، بسبب الأزمة الاقتصادية والمالية التي أغرقت فيها البلاد، عن الاستجابة للمطالب المادية والمعنوية الدّنيا للأجراء حتى في إطار منظومة ما يسمّى بـ”السلم الاجتماعي” التي تكرّست مع الديكتاتور بن علي منذ بداية تسعينات القرن الماضي وهي تنبني على “مفاوضات دوريّة” تتم كلّ ثلاث سنوات وتنتهي بمنح الأجراء بعض الفتات لإسكاتهم. إن الهجوم على الاتحاد ليس سوى تغطية عجز نظام قيس سعيّد حتّى عن تنظيم مثل هذه المفاوضات الشكلية والاستجابة للنزر القليل من مطالب العمال والأجراء. وهو ما يفسّر إغلاقه باب التفاوض مع النقابات من جهة وسعيه المحموم في نفس الوقت لتحييد الاتحاد العام التونسي للشغل وتدميره.
إن هذه المعطيات تعبّر في نهاية التّحليل عن واقع اقتصادي واجتماعي مأزوم بفعل تواصل نفس اختيارات التّبعية والتّفقير، كما تعبّر عن المأزق السّياسي الذي يتخبّط فيه النظام وهو ما يتجلّى في حجم الارتجال والعبث والعجز مقابل عودة قوية لمظاهر الاستبداد والفشستة عبر استمرار الاعتقالات السياسية (آخرها اعتقال القاضي المعزول مراد المسعودي إثر تدوينة) والتّنكيل بالسجناء السياسيّين وضرب حرية التعبير وتواتر ممارسات التعذيب وسوء المعاملة التي أدّت في المدة الأخيرة إلى وفاة عدة من المواطنين في السجون ومراكز الإيقاف. وفي الوقت الذي يتصاعد فيه الخطاب الشّعبوي المتباكي على “من طالت بطالتهم” يواصل هؤلاء احتجاجاتهم على مدارج المسرح البلدي بالعاصمة ولا من مجيب. كما يتواصل اعتصام الدكاترة المعطلين أمام وزارة التعليم العالي أين يصلون الليل بالنهار دون التفات من ساكن قرطاج. وفي الوقت يعاني التونسيون من قطع الماء والكهرباء فضلا عن تردي الخدمات وغلاء الأسعار ونحن على مشارف العودة المدرسية والجامعية وما تعنيه من مصاريف جديدة لا تقدر عليها أغلبية الناس المنهكة أصلا.
إن الواضح والأكيد أن منظومة حكم قيس سعيّد تريد تحميل تبعات أزمتها للطبقات والفئات الكادحة والمفقّرة وهي تستعمل من أجل ذلك كلّ أساليب المغالطة والقهر وفي مقدّمتها تجريد هذه الطبقات والفئات من كافة وسائل الدفاع عن حريتها وعن لقمة عيشها. ولكن ومهما يكن من أمر فإنّ دقّ طبول الحرب على الاتحاد لن تكون كلفته أفظع من كلفة 26 جانفي 1978 أو أزمة 1985 ومع ذلك فقد كانت الهزيمة في النّهاية للظّالم المستبدّ الذي رحل وبقي العمال وبقيت منظمتهم. وإلى ذلك فإنّ تعميق اضطهاد الشعب وطبقاته وفئاته الأكثر هشاشة لن يستمرّ إلى ما لا نهاية. إن الشعب سينهض من جديد رافضا واقعه المرّ. إن النضال ومزيد النضال الواعي والمنظم من أجل الأهداف والمطالب الحيوية لمختلف طبقات الشعب وفئاته هو الطريق الأقصر لا لافتكاك الحقوق المشروعة فحسب بل أيضا لوضع حد لمنظومة الحكم الشعبوية الفاشية التي تضع البلاد والشعب على شفا الهاوية والمجهول. فلنتصدّ لها بقوة وثبات. وليكن جميعنا يوم 21 جوان 2025 إلى جانب منظمة حشاد، فضربها يعني فسح المجال لمزيد من قمع العمال والكادحين واستغلالهم كما يعني إضعافا مؤكّدا للحركة الديمقراطية والتقدمية. وفيما عدا ذلك فإن إصلاح أوضاع الاتحاد الداخلية ليكون أكثر قوة ومتانة يبقى من مهام النقابيّين أنفسهم ولا حق لمنظومة الانقلاب في حشر أنفها في شأنهم الدّاخلي خاصة إذا كانت النوايا مبيّتة.
صوت الشعب صوت الحقيقة
