الرئيسية / صوت العالم / فرنسا: إضراب 10 سبتمبر وما بعده
فرنسا: إضراب 10 سبتمبر وما بعده

فرنسا: إضراب 10 سبتمبر وما بعده

بقلم زياد بن عبد الجليل

عرفت فرنسا يوم 10 سبتمبر إضرابات واحتجاجات في كل أرجاء البلاد دعا إليها لفيف من النقابات وشبكات الناشطين وأحزاب يسارية وشارك فيها ما يقارب الربع مليون متظاهر حسب النقابات. وفي ختام هذا اليوم جددت المركزيات النقابية الدعوة للإضراب والتظاهر يوم 18 سبتمبر ضدّ التقشف. وباستعراض التحركات الاحتجاجية التي جدّت في فرنسا خلال رئاسة ماكرون نلاحظ أن المشاركة في إضرابات 10 سبتمبر كانت دون التحركات الكبرى السابقة، حيث شارك 2 مليون محتجّ في أول أيام الإضراب ضدّ مشروع تخريب منظومة التقاعد في 19 جانفي 2023. ويمكن القول أن المشاركة في احتجاجات 10 سبتمبر تقارب تلك المسجلة في أول يوم لانطلاق حركة السترات الصفراء في 17 نوفمبر 2018. فكيف يمكن استقراء تطور الحركة الاحتجاجية في فرنسا في المستقبل المنظور؟

الديون والحرب، والقطرة التي أفاضت الكأس

في 15 جويلية طرح رئيس الحكومة السابق “بايرو” برنامجه التقشفي لتوفير ما لا يقل عن 44 مليار يورو سنويا لتسديد أقساط ديون الدولة الفرنسية. ومن أهمّ إجراءات برنامجه التقشفي: تجميد الأجور والحطّ من قيمة الإعانات الاجتماعية والصحية؛ تسريح آلاف موظفي الدولة والجماعات المحلية وتجميد تعويض الشغورات في الوظيفة العمومية؛ حذف يومي عطلة خالصة الأجر؛ الحطّ من تمويل الجماعات المحلية. لكن ما كشف عنه “بايرو” من أسباب لبرنامجه التقشفي لم تكن تعكس الحقيقة كاملة. في 25 جوان الفارط أذعنت فرنسا رسميا، بمعية بقية أعضاء دول حلف شمال الأطلسي، للولايات المتحدة والتزمت بتخصيص 5% من ناتجها الداخلي الخام للتسلح في أفق سنة 2035، في حين أنها تنفق حاليا 2% (أي ما يقارب 52 مليار يورو حاليا، وهو مبلغ كبير)، أي أن جزءا أكبر من الثروة التي ينتجها العمال ستذهب نحو التسلح والحرب. في الخلاصة تريد الدولة الفرنسية أن تسدد الطبقة العاملة الفرنسية بكل شرائحها الديون المتراكمة التي اقترضت لتسمين الرأسمال الفرنسي وتسدّد فاتورة شراء سلاح الحرب الشاملة التي سيلقى في أتونها العمال والشباب في فرنسا وفي العالم. إن إجراءات “بايرو” لم تكن إلا القطرة التي أفاضت الكأس هذه المرة، وماهي في الحقيقة إلا حلقة في مسلسل اعتداء البورجوازية الفرنسية وسلطتها على العمال ومكاسبهم الاجتماعية والسياسية وحقوقهم وحرياتهم، اعتداء تسارع وتعمق بشكل كبير منذ اعتلاء ماكرون السلطة.

10 سبتمبر حركة عفوية أم إضراب عمالي؟

في سياق هذه الأزمة الخانقة والمركبة قفزت إلى السطح، في منصات التواصل الاجتماعي، مبادرة “لنعطل كل شيء” للتصدي لإجراءات “بايرو”، مستعيدة نفس أسلوب وخطاب مبادرة السترات الصفراء المعادي للسلطة وللأحزاب والنقابات، وقد تداول تاريخ 10 سبتمبر على نطاق واسع تاريخا لهذا التحرك الاحتجاجي. كانت المركزيات النقابية تنظر بريبة إلى هذا الموعد فمصدره غير معلوم، وشعاره غريب عنها، وتاريخه لا يتناسب و”تقاليدها” في تنظيم الاحتجاجات، حيث يأتي مباشرة بعد نهاية موسم العطلة الصيفية، وأجهزتها وهياكلها لم تتشاور فيه ولم تحشد له بالشكل الكافي. أمّا أحزاب ما كان يسمى سابقا الجبهة الشعبية الجديدة فكانت سباقة بإعلان تبنيها لهذا التاريخ محاولة منها لتأطير الحركة شعبيا وتجذيرها (فرنسا الأبية، الحزب الشيوعي والخضر بشكل أقل) أو لتحسين شروط التفاوض مع ماكرون (الحزب الاشتراكي)، لتلتحق بعيد ذلك المركزيات النقابية مكتفية بدعوة النقابات القطاعية والجهوية والمحلية بصياغة التحركات المناسبة وفق ما هو متاح محليا وقطاعيا، ومعدلة شعاره الفضفاض “تعطيل كل شيء” إلى شعار آخر فضفاض “الإضراب من أجل العدالة الاجتماعية والضريبية”، وفي الحقيقة فإن أغلب النقابات العامة الوازنة في البلاد: النقل، الطاقة، الكيمياء، الصحة، التعليم لم تنزل بثقلها في إضراب 10 سبتمبر وخيرت التركيز على موعد 18 سبتمبر. إن إضراب واحتجاجات 10 سبتمبر كما خاضها جزء من الطبقة العاملة الفرنسية ومن الشباب التلمذي والطلابي هذا الأسبوع تحمل في طياتها بذور غضب متصاعد ضدّ الديون والحرب وضدّ الاستغلال الرأسمالي، وكذلك سمات العفوية والتشتت وتردد المركزيات النقابية بل وتواطئها في بعض الأحيان.

ماذا بعد 10 سبتمبر؟

إن سقوط حكومة “بايرو” في البرلمان يوم 8 سبتمبر، وتعيين ماكرون لوزير حربه خلفا له، ومناورات الحزب الاشتراكي الذي التزم بعدم إسقاط الحكومة الجديدة مع العودة البرلمانية لن تغير شيئا من سياق الأزمة في فرنسا منذ سنوات: أزمة الرأسمالية العالمية والديون. وقد دفعت هذه الأزمة المطبقة على فرنسا منذ سنوات عديدة الطبقة العاملة والطبقات الشعبية للتظاهر والإضراب والاحتجاج والمقاومة فيما قبل. والمعطى الجديد اليوم هو نذر الحرب الشاملة التي تلوح في الأفق وانخراط دولة البورجوازية في عسكرة الإنتاج والمجتمع. إن المهمة المباشرة اليوم حسب النقابات هو التصدي لبرنامج التقشف وإجراءاته المعادية للشعب. في هذا الصدد ورد في بيان الس.ج.ت. بتاريخ 10 سبتمبر أنها تدعو الشغيلة والمتقاعدين والشباب والمعطلين للإضراب والتظاهر يوم 18 سبتمبر من أجل: التصدي للتقشف، والعدالة الجبائية، وإلغاء قانون تخريب منظومة التقاعد، والزيادة في الأجور والمنح، وضمان تغطية اجتماعية راقية. ويبدو أن النقابات المؤثرة والوازنة تعدّ العدة ليكون يوم الخميس المقبل أسودا على الحكومة والأعراف. كما أن المزاج الشعبي العام اليوم في فرنسا ساخط على الحكومة وعلى الرئيس ماكرون، ومن المرشح أن تنخرط شرائح واسعة في الاحتجاجات هذا الخريف. ومن المرشح أن يأخذ تطور الاحتجاجات العارمة في فرنسا منحى تصاعديا، مثل ما حدث خلال الإضرابات ضدّ قانون تخريب منظومة التقاعد. ومع بلوغ الاحتجاجات والإضرابات أوجها، ستقع مسؤولية حينها على النقابات العمالية وعلى الأحزاب السياسية للانتقال: إمّا صهرها وتجذيرها للانتقال بها إلى طور الإضراب العام الشامل ضدّ النظام القائم وضدّ الحرب المدمّرة لمكتسبات الطبقة العاملة والمجتمع عموما؛ أو تبديد نضالات الطبقة العاملة وإرهاقها في “أنشطة” متفرقة ومنفصلة وإغراق الحركة بقائمة مطالب متعددة وفئوية حتى تذهب ريحها.

إن السنوات الأخيرة في فرنسا كانت شاهدة على أزمات اجتماعية وإضرابات واسعة ضدّ سياسات حكومات ماكرون. ولقد تطورت خصائص هذه الأزمة نوعيا بانخراط البورجوازية الحثيث في الإعداد للحرب الشاملة. ولقد استشعرت الطبقة العاملة الفرنسية والطبقات الشعبية الخطر مع برنامج التقشف المقترح وانخرطت منذ 10 سبتمبر في الاحتجاج عليه. من المرشح أن يتطور هذا الاحتجاج ليصبح أكثر جماهيرية خاصة مع تعنت النظام وإصراره في تقويض مكتسبات الطبقة العاملة وإقحامها في حربه الشاملة. إن مسؤولية الأحزاب اليسارية والنقابات كبيرة في تطوير الحركة، أو إحباطها أو جنوحها نحو شعبوية يمينية لا تخدم مصالح الجماهير الشعبية.

إلى الأعلى
×