بقلم سليم بوخذير
وأنا أهرع إلى عيادة أيقونتنا العابقة بعطر الخلود، راضية النصراوي، مساء الأحد الماضي كان يسبقني في الطريق إليها مع شعور الحنين والشّوق إلى قامتنا المديدة التي منعتني عنها مسافات الجعرافيا طوال الفترة الماضية، شعور الأسف الجارف على الحالة الصحيّة لهرمنا الكبير ومنارتنا العملاقة.
وحسبي غِبْطَةً فقط أنها لم تستسلم للمرض بل لم تأبه به، كعادتها دائما هي لا تأبه بالخصوم.
كان هذا هو الشعور الذي يلازمني دائما حين أكون بعيدا عن الأستاذة منذ بداية مرضها وإلى غاية لحظات قبل أن أصل إليها في أي زيارة سابقة.
أمّا حين أصل إليها.. أمّا حين تقع عينايا عليها.. أمّا حين تقع عيناها هي عليّ خاصّة فتلك مسألة أخرى.
هل تدرون ما الذي يحدث لي؟ هل تدرون ما الذي يحدث لها؟ هل تدرون ما الذي يحدث لثالثنا حمّه الهمّامي؟
ندخل ثلاثتنا في حالة ضحك حتى قبل أن نتكلم ولا تسألنَّ عن السبب؟
وأضيف لكَ من الشعر بيتا: كان هذا هو المشهد الثلاثي الغالب على ثلاثتنا منذ ما يزيد عن 20 سنة من صداقتنا الحميمة.
نعم حتى في أحلك الظروف زمن كان ثلاثتنا ملاحقين مطاردين مقموعين مهرسلين محاصرين من بوليس الدكتاتورية ولظاها الحارق.
وها قد ظلّ هذا هو نفسه مشهدنا الثلاثي الآن حتى وراضية تكاد تعجز عن النّطق بسبب المرض.
فهي تسارع إلى الضحك تلقائيا معنا فور أن نلتقي.
أجل نضحك ثلاثتنا دفعة واحدة هكذا دون برمجة، إلى درجة أنّ رفيقي في زيارتي الأخيرة لراضية وهو الصديق هشام العجبوني لم يفهم ما الذي يُضحِك ثلاثتنا؟
وهنا تعالى معي أحدّثك عن سرّ ضحكي وضحك راضية وضحك حمّه، بل تعالى معي أحدثك عن الجانب الذي لا يعرفه إلا القليلات جدا والقليلون جدا عن أيقونة تونس الأولى راضية النصراوي. ومنه تتعلم درسا نادرا ستحتاجه جدا وسينفعك جدا إذا كانت قدماك تنوي أن تأخذك يوما في غمار المسالك الوعرة والدروب الصعبة الممتلئة أشواكا وفِخاخا وظلمات وأنواء وعواصف، وأنت تواجه استبدادا وظلما ومظالم.
فأنت يا من تقرأ كلماتي هذه، أكيد أنك سمعت عمّا يسمّى في الحروب بالقوة المعنوية.
القوة المعنوية هذا السلاح العظيم الذي قهر به المقاومون والثوار الفيتناميون الجيش الأمريكي زمن تجرّأ على محاولة الدوس على أرض بلادهم.. وهو نفسه السلاح المعنوي الكبير الذي أسقط به ثوار وطني الدكتاتور بن علي بصدور عارية وحناجر صدّاحة بالحقّ في مواجهة رصاص الدكتاتورية وترسانتها الأمنية المدجّجة بالأسلحة.. وهو نفسه السلاح المعنوي الكبير الذي يواجه به بطلات وأبطال غزة ترسانة القتل الصهيوني الغاشم منذ سنين ويقدم الشهداء تلو الشهداء وسيكون النصر حليفهم حتما ولو تأخر.
القوة المعنوية وما أدراك ما القوة المعنوية هي أكبر بكثير من كل القوى في الكون مهما بلغت من التطور التكنولوجي، لأن الإرادة والاصرار والإيمان بالمبدأ والثبات قوة جبارة تكسر أيّ قوة.
وإذا كانت النفوس كبارا
تعبت في حملها الأجساد
(المتنبي)
يحضرني هذا وأنا يمرّ أمامي الآن شريط طويل مثير من الذكريات الكبيرة بيني وبين راضية وحمّه زمن الدكتاتورية حين كان قول الحق ثمنه باهظا باهظا باهظا.
فالمعركة لم تكن سهلة ولا الطريق كان مُعَبَّدًا ولا السير كان يسيرا ولا معارضات ومعارضو الدكتاتورية كانت موازين القوى لصالحهم البتة، ولكن كان هناك شيء كبير انفردت به طليعة نيّرة من الثائرات والثائرين على الاستبداد، وراضية وحمّه كانا في مقدمتهم، قلب المعادلة لصالح مطالبتهم بالحرية والكرامة لهذا الشعب في نهاية المطاف.
هذا الشيء العظيم اسمه القوة المعنوية المتمثلة في الثبات والمثابرة والصمود في طريق النضال من أجل فرض حق الشعب التونسي في الحرية والكرامة مهما كانت ماكينة القمع قوية.
فلولا تلك الإرادة والثبات على المبدأ لزمرة من المناضلات والمناضلين لسنوات ولأشواط طويلة من مصارعة الدكتاتورية، لمّا أتى الشوط الأخير من المواجهة بين 17 ديسمبر – 14 جانفي الذي تحوّلت معه مصارعة الدكتاتورية إلى سلوك جماهيري كبير بعد أن كان في السابق سلوكا أقليّا.
إنّ أيقونتنا راضية لم تكن تملك فقط كلّ عناصر تلك القوّة المعنويّة التي تحلّى بها كلّ أحرار وحرائر تونس في مصارعة الاستبداد من ثبات وصمود وعفّة وتمسك بالمبدأ، بل كان لها أيضا سلاح عظيم آخر له فعله الخاص والسحري في المعركة.
هل تدرون أنّ هذا السلاح العظيم هو الضحك..
أجل، الضّحك كان سلاحا جبّارا في الجانب المعنوي من معركتها ومعركة رفيقاتها ورفاقها مع الدكتاتوريّة.
راضية كانت تؤمن بأنّ الضحك والسّخرية من كل القتامة التي كانت تتلبّد بحياتنا وسبيلنا في مواجهة الدكتاتورية، تقوّينا في المعركة وتجعل من أحزاننا صغيرة وتحوّل حجم القوة المادية الجبارة لأجهزة عتيّة إلى ضئيلة أمام إرادة الشجعان.
لو تعلمون أثر الضحك من المأساة والسخرية منها ووقعه على صاحبه، لانتهجتموه سلوكا عند الكبوات.
اسألوني وسأجيبكم عن أثَر الضحك من المأساة وكيف يغلبها..
وهذه واحدة من حكايات راضية مع مواجهة المأساة بالسخرية منها والضحك عليها...
في 28 أكتوبر 2009 وبعد أن خرج بن علي بخطابه الشهير بعد ما أسماه بالانتخابات الرئاسية الذي هدّد فيه بـ“التصدي بكل حزم للمشككين في شفافية وسلامة الانتخابات“، بدأ تنفيذ الوعيد باختطافي من أمام بيتي بباردو ليلا إلى غابة البلفيدير من قبل أعوان عُتاد من البوليس السياسي وتعذيبي تعذيبا شديدا هناك تحت جنح الظلام، نُقلت على إثر ذلك من قبل محمد عبو ومحمود الذوادي وأم زياد وأنا ملطخ في دمائي إلى مستشفى محمود الماطري بأريانة، فزارني عديد المناضلات والمناضلين لشدّ أزري وكانت علامات الحزن الشديد بادية على الجميع من هول الإصابات البالغة التي خلفها لي التعذيب، إلى أن حلّ ركب راضية النصراوي في حدود الحادية عشرة ليلا بغرفة العلاج، راضية كانت من أكبر المتألّمات لما لحق بي وذرفت دمعا خارج الغرفة قبل أن تدخل عليّ وأنا لم أكن أعرف، ولكن حين دخلت عليّ هل تدرون كيف تصرفت وماذا قالت لي؟
دخلت وهي ترسم ضحكة متسعة على شفتيها مع قهقهة ولسان حالها يغنّي لي بصوت عال مطلع أغنية “يا أم العوينة الزرقة يا أم العوينة الزرقة” (بما أنّ عينيّا المصابتين كانتا محاطتين بقروح زرقاء من فرط التعذيب واللكم).
فكان أن ضحكتُ أنا رغم هول ما كنت فيه، بل وصار كل ما كنت فيه، صغيرا في لحظة وأنا أتزوّد بجرعة أوكسيجين منعشة من السخرية من الحال القاسي صادرة من سيدة كبيرة المقام والمسيرة وهي تحمل على كتفيها أعباء وعذابات تزن أطنانا وأطنانا نالتها لسنين هي وزوجها وبناتها ومع ذلك رفعت القهقهة عالية في حضرة جراحي وسخرت في لحظة من كل ذلك السواد الذي كان حولنا ورمته وراء ظهرها غير عابئة به، هكذا حتى نكون جديرين بمواصلة الطريق.
ألم أقل لك إن وقْع الضحك والسخرية من الألم هو كبير على صاحبه ويجعل هذا الألم يخف ويهون قبل حتى أيّ أدوية.
وراضية كانت تعي هذا جيدا ولذلك كانت تمارس الضحك والسخرية كسلاح سحري.
بل أكثر من ذلك، راضية كانت تعرف أنّ الضحك مُعْدٍ، نعم مُعدٍ..
ولذلك كانت تمارسه عسى أن تمرّ عدواه إلى من حولها فيسعدون رغم جراحهم.
وإليك حكاية أخرى عن سلاح راضية النصراوي العجيب..
في 3 ماي 2005، كان قد انقضى 28 يوما من إضراب جوع كنت خضته احتجاجا على طردي من عملي صحفيّا بجريدة “الشروق” بقرار رئاسي وحرماني من جواز السفر، وبما أنّ 3 ماي من كل سنة يوافق اليوم العالمي لحرية الصحافة فقد رأيتها فرصة لأتوجه من بيتي بضاحية خزندار وقتها إلى مقر الصحيفة بشارع جون جوريس لأداء وقفة احتجاجية على النيل من حقي في التعبير والعمل والسفر.
أقفلوا شارع جون جوريس برمته عن الحركة بالحواجز ومنعوا كل من كان معي من مرافقتي رغم حالتي الصحية المنهارة وقتها ونشروا أعدادا كبيرة من أعوان البوليس على طول الشارع، ثم انفرد بي أعوان البوليس السياسي الذين مارسوا عليّ الضرب المبرح في قلب الشارع إلى أن سقطتُ مغشيا عليّ، وحين حاول الرفاق محاولة اللحاق لمعرفة ماذا حدث لي منعوهم، فما كان من أيقونتنا راضية إلا أن امتطت سيارتها البسيطة البيضاء ورافقها عبد الرؤوف العيادي وداست أحد الحواجز بسرعة رغم ملاحقتهم لها ومرّت عبر الرصيف إلى أن بلغتني وأنا مُغمى عليّ مرميا على قارعة الشارع، لتنقلني بسرعة هي وعبد الرؤوف إلى استعجاليّ مستشفى شارع نيكول وهناك تمكن أحد فقط من اللحاق بنا هو حمّه الهمامي وكان الدكتور خليل الزاوية هناك في انتظارنا، أمّا البقية فمنعوهم.
الخلاصة أنه وبعد فترة من إسعافي وتزويدي بكمية من مصل السكر، عدت قليلا إلى الوعي (نزل مستوى السكّر في الدّم إلى حدود 0.38 غ، أي أنني كنت على مشارف الموت لولا شجاعة وجسارة راضية).
المضحك في الأمر ليس في كل هذا..
إليك المضحك:
كانت هناك ريبة من راضية وحمّه وعبد الرؤوف في سلوك المستشفى معي بعد التكاثر الهائل لأعوان البوليس بالمستشفى ورفض الأطباء تسليمنا تقريرا طبيا، فقرّروا إخراجي ونقلي إلى مصحة خاصة، وبالفعل تمّ نقلي رغم محاولات البوليس منع سيارتنا من مغادرة المستشفى.
وقبل التوجه إلى مصحة خاصة تقع بهضبة الهيلتون اتجهت راضية بي أنا وحمة وعبد الرؤوف إلى بيتي لاقتناء أدباش لي، وقتها كانت سيارتنا محاطة من كل جانب بسيارات البوليس وعدد فائق من الدراجات النارية..
سيارات البوليس لم تكن كلها السيارات المعتادة بل كان بينها سيارات مرفهة رباعية الدفع وسيارات مراسم رئاسية لنلمح من الشباك في مفترق باب سعدون مدير الأمن الرئاسي علي السرياطي في إحداها كان يشرف على تتبعنا بنفسه.
المهم وصلنا إلى خزندار فتوقفت راضية لتقتني لي ماءً من أحد المحلات، عندها اكتشف أحد جيراني وجودي بالسيارة فسألني: ما كل العدد من السيارات الأمنية والدراجات التي ترافقني وتتوقف وراء سيارة راضية حيث توقفت؟
قبل أن أحاول إجابته سارعت راضية إلى إجابته بصوت عالٍ: هذة سيارات ودرّاجات الأمن الرئاسي ترافق سليم.. سليم أصبح رسميا رئيس الجمهورية وهؤلاء كلهم لحماية الرئيس الجديد بعد أن سقط بن علي..
ضحكت فورا وضحك حمة وعبد الرؤوف من هذه الإجابة رغم ما كنا فيه من كَدَرٍ.
وكيف لا نضحك وإجابة راضية لا تترك لك غير الضحك سبيلا..
***
وفي الذاكرة حكايات وحكايات كثيرة عن ردود فعل مشابهة لراضية تطفح سخريةً وضحكا على مآسٍ عديدة لنا زمن الدكتاتورية، وهي حكايات تستوجب صفحات طويلة لأرويها لك ولا تكفيها هذه السطور.
ولكن عديد القريبات والقريبين من أيقونتنا يعرفونها ويعرفون جيدا أن سلاح راضية السحري هذا ساهم في مرات ومرات في تخفيف أحزانهم وأعباء معركتهم المترامية الأطراف في تلك السنوات الحالكة مع الدكتاتورية ومخالبها الفتاكة.
وكما قلت لكَ: راضية نجحت في أن تجعل الضحك رغم الأحزان مُعديا لمن حولها، ولذلك لحقتني شخصيا العدوى (ولحقت آخرين ولحقت قبلنا رفيق عمرها حمّه).
وانتقل الضحك والسخرية والأسلوب الكاريكاتوري من كتاباتي الناقدة لنظام بن علي في تلك السنوات، إلى أسلوب لي أيضا في الحديث مع شركائي في تلك المعركة، وصارت راضية وحمّه حين كان يدعواني إلى مأدبة الكسكسي أحيانا قبل عودة حمّه إلى السرية في 2009 ينتهزانها فرصة لنتبادل أحاديث الضحك والسخرية ممّا كان يسلّط علينا وعلى غيرنا من قمع..
وحتى من بعد الثورة ظل هذا أسلوبنا في لقاءاتنا الحميمة، بل وصرنا أحيانا نضحك حتى قبل أن نتحدث من فرط ما تكتض ذاكرتنا بلذيذ الحكايات الساخرة، مثلما حدث لنا أول ما وصلت الأحد الماضي إلى غرفة علاجها بالمصحة حين ضحك ثلاثتنا حتى قبل التحدث..
فوجدت راضية الآن التي لا تقوى على الكلام ما زالت تحتفظ بقدرتها العجيبة هذه على الضحك..
الضحك كان سلاحها الدائم وسيظل لمواجهة أيّ خصم، وهي دائما تقوى على خصمها وتنتصر عليه في النهاية مهما كان هذا الخصم عتيًّا، حتى ولو كان هذا الخصم إسمه المرض، هي تنتصر عليه بالضحك والسخرية منه لأنها أقوى منه بكثير.
وحين ضحكت لي طويلا أنا وحمّه وهشام في زيارة الأحد الماضي كان لسان حالها يقول لنا ولكم جميعا بأعلى صوت:
اضحكوا تصحوا..
اضحكوا تنتصروا
اضحكوا تستمرّوا في الوجود وقوفا وشموخا وانطلاقا وانعتاقا
…
دامت ضحكتك الأبيّة السّاحرة المُعدية سيّدتي الكبيرة، ناشرة في كوننا نورا وعطرا وحرية يا أيقونة الحرائر والأحرار.
وإلى الشّفاء
بقلم الصّحفي والسجين السياسي السابق سليم بوخذير
صوت الشعب صوت الحقيقة
