بقلم شيراز بن حسين
رغم ما يمثّله الدور الهام لوسائل الإعلام في نقل مشاغل المواطنين والمعلومة وذلك باحترام أخلاقيات المهنة وعدم الانحياز الأعمى للسلطة، فإنّ الإعلام التونسي أصبح يعيش أسوأ حالاته، فكلّ متابع للمضامين الإعلامية المقدمة سواء من الإعلام العمومي أو الخاص يلاحظ بشكل واضح أنّ مربّع الحرية التي تمتعت بها وسائل الإعلام والصحافيون بعد الثورة قد انعدمت ونسفت. كيف لا وقد أصبحت أخبار بلادنا تتابع عبر القنوات الأجنبية أو عبر صفحات التواصل الاجتماعي.
إنّ المشهد الإعلامي في تونس وخاصة بعد الانقلاب قد شهد تراجعا كبيرا خاصة بعد نسف دور الهيئة العليا المستقلة للاتّصال السمعي البصري “الهايكا” ورفض أيّ إصلاح حقيقي للإعلام، حتّى أنّ بعضها قد أغلق تماما (إذاعة شمس أف أم المصادرة، حقائق أون لاين… الخ) وتعمّد آخرون من مالكي أصحاب المؤسسات إلى طرد الصحفيين وانتهاك أبسط حقوقهم وفي المقابل أغرقت بعض البرامج سواء الإذاعية أو التلفزية بمعلقين ومؤثرين لا علاقة لهم بالإعلام أو الصحافة ساهموا في بثّ ثقافة “البوز” وغيرها من السلوكات المنافية لميثاق شرف المهنة وأخلاقيات المهنة الصحفية. كما ساهمت التعيينات الفوقية على رأس المؤسسات الإعلامية العمومية في تفاقم الأزمة وذلك باستبعاد منشطين (الإذاعة التونسية مثالا) ورفض استضافة أيّ صوت معارض لقيس سعيد (التلفزة التونسية مثالا)، حتى أنّ المتابع لم يعد يسمع سوى صوت الموالين والمفسّرين دون غيرهم، فيما عمدت برامج تلفزية في الإعلام الخاص إلى ثلب وسبّ والتحريض علنا ضدّ المعارضة وكل رافض لسياسات الانقلاب (برنامج رونديفو 9 بقناة التاسعة الخاصة). أمّا البرامج الإذاعية السياسية في الإعلام الخاص فإنها لم تخرج عن سياق ما ذكرناه، فبعد ما شهده برنامج “ميدي شو” بإذاعة موزاييك أف أم، انتقلت عدوى الصنصرة والتغييب إلى برامج إذاعية أخرى آخرها البرنامج الإذاعي الذي يقدمه الصحفي زهير الجيس بإذاعة جوهرة أف أم.
جيهان اللواتي: تراجع المكتسبات التي سالت من أجلها دماء الثورة
في تصريحها لـ”صوت الشعب” اعتبرت الصحفية وعضوة المكتب التنفيذي للنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين جيهان اللواتي، أنّ غياب البرامج السياسية في الإعلام التونسي ليس مجرّد عثرة عابرة بل هو جرح نازف في قلب الديمقراطية وصرخة مدوّية تعلن تراجع الفضاء العام وانهيار المكتسبات التي سالت من أجلها دماء الثورة. مضيفة بأنّ هذا التراجع المغذّى بضغوط سياسية خانقة وتشريعات جائرة وأزمات اقتصادية مدمرة يهدد بإغراق المواطن في مستنقع الاغتراب السياسي ويُعري الإعلام من دوره كمنارة للحقيقة وسيف المساءلة.
كما أكّدت اللواتي بأنّنا نقف على مفترق طرق: إمّا أن ننتفض لاستعادة صوتنا أو نترك الحلم الديمقراطي يذوي تحت وطأة الصمت فاغتيال الفضاء العام تلك الساحة المقدسة التي تتشكل فيها إرادة الشعب يتعرض لهجوم منهجي. فقد كانت البرامج السياسية مجالا للنضال الفكري حيث يتصارع المواطنون بالحجة والمنطق. لكن اليوم يُخنق هذا الفضاء بأيادٍ سياسية تُحكم قبضتها وتشريعات كالمرسوم 54 الذي يكبّل حرية الكلمة واستقطاب يحوّل الإعلام إلى ساحة لتصفية الحسابات بدلاً من منبر للحوار. إنها ليست أزمة بل مؤامرة ضد الشعب!
أمّا في علاقة بالجانب الاقتصادي وهو سلاح التجويع الإعلامي، اعتبرت محدّثتنا بأنّ وسائل الإعلام التونسية تُعاني من نزيف مالي يُحيلها إلى أشباح بلا روح. فالإيرادات الإعلانية تتلاشى أمام جبروت المنصات الرقمية، فتُجبر القنوات على التخلي عن البرامج السياسية لصالح ترفيه رخيص يُغري الجماهير ويملأ الخزائن. أمّا الدعم المؤسساتي فقد تحوّل إلى وهم. فالإعلام المستقل يُترك ليصارع وحيدًا تارة تحت رحمة رجال الأعمال وتارة أخرى تحت ضغط السلطة. وإنّ هذا الخناق الاقتصادي ليس صدفة بل استراتيجية لإسكات صوت الحقيقة. كما أنّ الشعب يُهمش نتيجة غياب البرامج السياسية. فيُلقي بالمواطن في هاوية الاغتراب السياسي حيث يشعر بأنه غريب في وطنه منفصل عن مصيره. وعندما يتحوّل الإعلام إلى أداة دعاية أو مهرج ترفيهي يفقد المواطن ثقته فيه ويصبح فريسة للشائعات وفوضى وسائل التواصل الاجتماعي وإنّ هذا الاغتراب ليس مصادفة، بل نتيجة ممنهجة لتفريغ الديمقراطية من محتواها.
ومع اقتراب العودة السياسية خلال الشهر الحالي واستعداد البرامج الإعلامية للعودة للبثّ تظلّ التخوّفات من تواصل الانتكاسة موجودة، خاصة أمام ما تنشره النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين من بيانات متتالية تحذّر من استهداف الحريات الصحفية عبر الرقابة المسلّطة والصنصرة والتجميد والاستبعاد، ولا يمكن الإصلاح إلاّ عبر وحدة الجسم الصحفي وحماية الحقوق والحريات والتصدّي للأصوات التي أصبحت تدعو علنا إلى إنشاء وزارة للإعلام دفاعا عن صورة تونس أمام ما تبثّه قنوات أجنبية من أخبار عمّا تعيشه بلادنا من تدهور على جميع المستويات ودون أن تتحدث مثل هذه الأصوات عن واقع البرامج الإعلامية السياسية التي تحوّلت إلى برامج الصوت الواحد لا غير.
صوت الشعب صوت الحقيقة
