الرئيسية / صوت الوطن / في موسم الوفرة… حين تنبت الأسئلة بين سنابل القمح
في موسم الوفرة… حين تنبت الأسئلة بين سنابل القمح

في موسم الوفرة… حين تنبت الأسئلة بين سنابل القمح

بقلم كوثر الباجي

في صيف 2025، وعلى غير ما اعتاده الفلاح التونسي في سنوات الجفاف والعجز، أهدت الأرض موسمًا استثنائيًا من العطاء. تفتّحت السنابل في الحقول كما لم تفعل منذ زمن، وتدفقت خيراتها من أعالي الشمال حتى سهول الوسط والجنوب. كان المشهد في الحقول لوحة منسوجة بخيوط الذهب والأمل: زرقة السماء تعانق خضرة الزرع، وصوت الحصادات يعلو على صمت المواسم العجاف التي استوطنت ذاكرة الفلاح طويلًا.

أُعلن الخبر رسميًا: أكثر من 11 مليونًا و290 ألف قنطار من الحبوب جُمعت حتى منتصف جويلية، أي ما يعادل ثلث حاجيات تونس السنوية من القمح، في رقم لم يسجّل منذ أكثر من خمس سنوات. بشرى حملت فرحة للفلاحين، وأحيت الأمل في استعادة الثقة بتراب الوطن. لكن الحلم سرعان ما انقلب إلى كابوس، بعدما تحولت الوفرة إلى أزمة ميدانية تهدد المحصول بالخسارة، وكشفت هشاشة المنظومة الفلاحية واللوجستية في البلاد، وغياب التخطيط الاستباقي والحوكمة الرشيدة.

وفرة بلا استعداد

تدفقت الحبوب، لكن لم ترافقها الاستعدادات الكفيلة باستيعابها. اكتظت مراكز التجميع، وتكدست الشاحنات في طوابير طويلة، ووقف الفلاح الذي أنهكه الحرّ والحصاد يتأمل محصوله المهدد بالتلف. لم تكن المشكلة في الأرض، بل في غياب الرؤية لدى من يفترض أن يحسن قراءة الأرض ومواسمها.

كانت المؤشرات المناخية والزراعية منذ أشهر توحي بموسم جيد، بفضل الأمطار وارتفاع المساحات المزروعة، لكن البنية التحتية لمراكز التخزين لم تُواكب هذا التطور. لم تتجاوز الطاقة التخزينية الفعلية للدولة، ممثلة في ديوان الحبوب، 4.3 مليون قنطار، ما جعل الفائض يواجه خطر التلف. هكذا وجد الفلاح نفسه، بعد أن جازف بزرع الأرض رغم كلفة الإنتاج المرتفعة، أمام أبواب مغلقة ونداءات لا تجد من يستجيب.

أزمة إدارة قبل أن تكون أزمة إنتاج

في تونس، يبدو أن الوفرة لا تُدار، بل تُخشى. بدل استقبال الفائض بالأذرع المفتوحة، يُقابل بالارتباك والصمت والإجراءات البطيئة. وهنا تبدأ الأسئلة المؤلمة: كيف لدولة أن تبشّر بارتفاع الإنتاج دون أن توفر البنية الكافية للتخزين؟ كيف لفلاح أن يعمل طوال الموسم ثم يعجز عن بيع محصوله؟ كيف لمنظومة أن تفرح بالأرقام وتغفل عن المصير النهائي للحبوب؟

ما حدث هذا الموسم يعكس فشل التخطيط الفلاحي على المستوى الاستراتيجي. فلا توجد خريطة وطنية للتخزين، ولا منظومة رقمية تتابع تطور الحصاد، ولا خطط بديلة لتأمين المحصول. حتى الأسطول اللوجستي – من شاحنات ومعدات وعمال موسميين – كان محدودًا أمام تحديات الوفرة. ومع مرور الأيام، وتحت شمس الصيف اللاهبة، بدأت الرطوبة تسرق من السنابل نضارتها، وتحول الربح المتوقع إلى خسارة محتملة.

خلل هيكلي في المنظومة الفلاحية

هذه الأزمة ليست وليدة موسم واحد، بل هي انعكاس لاختلال أعمق في طبيعة المنظومة الفلاحية التونسية، التي ما زالت خاضعة لمنطق السوق أكثر من خضوعها لواجب السيادة الغذائية. فعندما تنتج الأرض بكثافة، يُترك الفلاح وحده، وعندما تعجز، تُستورد الحبوب الأجنبية بمبالغ ضخمة من العملة الصعبة. وهكذا، تتحول الوفرة إلى عبء بدل أن تكون فرصة، وتظل الفلاحة بندًا ثانويًا في السياسات العمومية بدل أن تكون ركيزة استراتيجية.

الديمقراطية الشعبية كخيار بديل

وسط هذا الواقع المأزوم، تعود إلى الواجهة فكرة ليست جديدة، لكنها منسية: هل يمكن لنموذج اقتصادي واجتماعي قائم على الديمقراطية الشعبية أن يشكل بديلاً عمليًا لإنقاذ الفلاحة وتحقيق الاكتفاء الذاتي والسيادة الغذائية؟

في هذا المنظور، تتحول الأرض من سلعة إلى قيمة وطنية، ومن حقل خاص إلى مورد مشترك. تُعاد صياغة العلاقة بين الفلاح والدولة على أساس الشراكة والمسؤولية، لا التهميش والإهمال. تُبنى السياسات الزراعية على أساس دعم الفلاحين الصغار والتعاونيات، ومنع الاحتكار العقاري، وربط الإنتاج بالحاجيات الوطنية قبل متطلبات السوق الخارجية.

في إطار الديمقراطية الشعبية، لا تُترك السنابل تموت في الحقول. تُبنى مراكز التخزين في قلب الأرياف، حيث يبدأ الحصاد، وتُرسم خطة وطنية لا للإنتاج فقط، بل أيضًا للتوزيع العادل، والتسعير المنصف، والتصدير المنظم، وصولًا إلى الاكتفاء الذاتي. فالسيادة الغذائية لا تُقاس بعدد الأطنان المنتَجة، بل بمدى التحكم في الدورة الكاملة من البذرة إلى الرغيف.

لا معنى لموسم وفير إذا كانت البلاد ما تزال تستورد خبزها من وراء البحار، ولا جدوى من أرقام قياسية إذا كان الفلاح فيها خاسرًا، والقمح مهدورًا.

دروس من تجارب ناجحة

تؤكد التجارب الدولية أن الفلاحة القائمة على العدالة الاجتماعية والتعاونيات ليست حلمًا طوباويًا، بل خيار واقعي. ففي فيتنام، وبعد عقود من الحرب والفقر، اعتمدت الدولة إصلاحًا زراعيًا اشتراكيًا ركز على الفلاح الصغير والتعاونيات، ونجحت في تحقيق الاكتفاء الذاتي بل وأصبحت من كبار المصدّرين.

أما كوبا، فرغم الحصار الاقتصادي، استطاعت عبر تنظيم الفلاحين في تعاونيات وتوزيع الدعم بشكل وطني، الحفاظ على توازن غذائي داخلي دون تبعية للخارج. وفي البرازيل، خلال عهد لولا، دعمت برامج “فومي زيرو” و”التعاونيات الاجتماعية” التنمية الريفية، ورفعت دخل الفلاحين، وربطت الإنتاج بحاجات المجتمع.

من موسم الأزمة إلى مشروع وطني

إن أزمة وفرة الحبوب في تونس تكشف أن الأرض قادرة على العطاء، والفلاح مستعد للعمل، لكن الدولة لا ترافق هذا الجهد بالسياسات العادلة أو التخطيط المسبق. المطلوب اليوم ليس إدارة موسمية للأزمات، بل بناء مشروع فلاحي وطني يجعل الأمن الغذائي أولوية سيادية، ويحول الإنتاج إلى مخزون استراتيجي يحمي البلاد من الجوع والتبعية.

السؤال الحقيقي بعد هذا الموسم ليس: كم حصدنا؟ بل: كيف سنستثمر هذا الخير؟ هل سنخزنه ليكون ضمانة للغد، أم سنتركه يضيع كما ضاعت مواسم كثيرة قبله؟

إما أن نعيد للفلاحة موقعها في قلب المشروع الوطني عبر إصلاح جذري قائم على العدالة والديمقراطية الشعبية، أو نستمر في الدوران داخل دوامة الإنتاج بلا سيادة، والوفرة بلا إدارة، والتبعية بلا نهاية.

فالغذاء ليس سلعة، بل حق شعبي، والسيادة تبدأ من حبة قمح تُزرع في أرض الوطن، وتُخزن في صوامعه، وتوزع بعدل على أهله. فمن لا يملك خبزه، لا يملك قراره، ومن لا يحترم فلاحه، لا يستطيع حماية أرضه.

ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يأتي يوم نقول فيه بفخر إننا نزرع ما نأكل، ونأكل ما نقرر نحن… لا ما يُفرض علينا؟

إلى الأعلى
×