بقلم الناصر بن رمضان
إنّ الأخلاق ليست قيما مجردة ومطلقة فوق-طبقية وفوق-تاريخية وهي ليست ثابتة وأبدية، بل نتاج مادي مباشر ومتحرك ولعلاقات الإنتاج والصراع الطبقي، وبالتالي هي طبقية بامتياز، وهي ليست فوق السياسة كما تسوّق البرجوازية لإخفاء طابعها الطبقي، وإنما مرتبطة أشد الارتباط بالسياسة وبل من رحمها، تعكس التناقضات الطبقية والمتناحرة والمصالح غير القابلة للتوافق. ولذلك ظلت الأخلاق السائدة وعبر التاريخ تشرعن امتيازات الطبقات الحاكمة، في حين أن الأخلاق الثورية تنبثق من النضال ضد هذه الامتيازات وتتمحور حول قيم التضامن والعدالة والكفاح ضد الظلم بهدف تحرير الإنسان في إطار مشروع تحرري جماعي يستند إلى الصدق في مواجهة الأيديولوجيا السائدة والانضباط في الفعل الجماعي والتضحية من أجل تفكيك الاضطهاد والقضاء على استغلال الإنسان للإنسان. لذلك ظلت الأخلاق على الدوام شكلا من أشكال الوعي الاجتماعي الذي يستخدم إما لتبرير الوضع القائم أو لتقويضه.
الأخلاق بين الثورة والثورة المضادة
لقد رفعت ثورة 2011 في تونس شعار الشغل والحرية والكرامة الوطنية والعدالة الاجتماعية، فبرزت أخلاق الثورة كرافعة ولقيم الإيمان بالفعل الجماهيري والتضحية من أجل انتصار الثورة، ولم تكن هذه الأخلاق مجرد شعارات سياسية، بل منظومة قيمية شاملة ولدت من قلب الشارع ومن رحم معاناة الفئات الشعبية المهمشة التي جسّدت أخلاق التضامن وحين توحّد العمال والفلاحون والطلبة والمعطلون عن العمل وصغار الموظفين خلف شعار الحرية والكرامة الوطنية، كما جسّدت أخلاق التكاتف الاجتماعي حين واجهوا كالرجل الواحد منظومة الاستبداد والفساد النوفمبري، وأخلاق التضحية حين قدمت أرواح الشهداء ثمنا للحرية، وأخلاق الفعل الجماعي الذي يؤمن أن الخلاص ليس فرديا بل جماعيا وطبقيا، وأن العدالة ليست وعدا مستقبليا بل حقا ينتزع بالنضال في الساحات والميادين.
تلك هي الأخلاق النبيلة للثورة التي دشنت منعطفا جديدا، لا محليا فقط بل قوميا وإقليميا ذا تداعيات عالمية بدون مبالغة. لكن هذه الطفرة الأخلاقية الجديدة – مع الأسف – لم تعمّر طويلا لأسباب يضيق هذا المجال لشرحها، ووقع الالتفاف عليها والغدر بها من قبل التحالف الطبقي لقوى الثورة المضادة الداخلية والخارجية والتي فرضت أجندتها وبالتالي أخلاقها وإيديولوجيتها التي جسّدها القطب الأكثر تنظيما ووعيا بمصالحه الطبقية وهو تحالف حزبي النهضة والنداء كوجهين لعملة واحدة ويفضحان ازدواجية السلطة الحاكمة وسلوكها الطبقي الانتهازي.
لقد عمل وهذا التحالف البرجوازي اللقيط على إرساء منظومة أخلاقية متعفنة وملوثة بالمال السياسي حوّلت الحياة السياسية والاجتماعية والأخلاق وإلى فضاء موبوء خانق من خلال الانتخابات المتعفنة التي غدت سوقا تجارية وعكاضيات تخدم الائتلاف الطبقي الكمبرادوري العميل والدوائر الإمبريالية والامتيازات الشخصية التي وظفت الكذب في الوعود بالإنجازات التنموية والاجتماعية لتجميل صورة المنظومة رغم فشل السياسات الاقتصادية والاجتماعية. وعوّمت المشهد والسياسي المقرف بكثرة الأحزاب المصطنعة التي ذابت اليوم كالملح والفصائل الهاوية الفاقدة للبرامج وحوّلت السياسة إلى لعبة مصالح وذاتية تقودها ومقولة “الغاية تبرر الوسيلة”، والشيء الذي أضعف كل قيم الشعب الأصيلة والمثل الديمقراطية الحقيقية. من هنا انتشرت المفاهيم الجديدة للنفعية، والربح السريع و”تدبير الرأس” والبراقماتية السياسية المخضبة بالرياء والنجومية الزائفة ووظف لها إعلام “البوز” الفضائحي وظهرت علامات الإستثراء السريع والمال الفاسد.
الشعبوية تستكمل تدمير الأخلاق
مع صعود الشعبوية أخذت أخلاق السلطة المنقلبة على الحكم بعدا أكثر فجاجة في الظلم والتسلط والسطو والوقاحة بدءا بانتزاع الحكم بالدبابات ونسف ما بقي من المكاسب الديمقراطية التي تحققت وصولا إلى تعميم القمع والاضطهاد وحدة التفقير والتهميش، فتحولت أخلاق الانقلاب إلى أدوات لتشويه الحقيقة وزرع الكراهية بين المواطنين والتخوين المنهجي للمعارضة والأجسام الوسيطة، والتخفي وراء شعارات “محاربة الفساد” لتبرير انتهاك الحقوق والحريات، وأصبح الكذب سياسة دولة وأسلوب حكم رسمي ممنهج. وبات الهجوم على النخب والسياسية والنقابية ومكونات المجتمع المدني وسيلة لتعزيز السيطرة والاستبداد، وتزامن ذلك مع وحملات إعلامية مضللة لتسويق السردية الرسمية على أنها حماية للمصلحة والعليا للوطن وإنقاذ للدولة. هذه الممارسات تكشف بوضوح كيف أن سلطات الثورة المضادة وحكوماتها المتعاقبة لم تكتف بإجهاض المطالب الثورية بل عملت على إعادة هندسة المشهد والسياسي والأخلاقي لتصبح الأخلاق الجديدة و”لنظافة اليد” و”محاربة الفساد” و”حرب التحرير الكبرى” أداة للهيمنة الطبقية والقمع السياسي في حين ظلت الأخلاق الثورية المتجسدة في الاحتجاج على البطالة والاستغلال والمنتصرة لقيم التضامن والعدالة والمساواة ومهمشة، مقهورة ومحشورة في الزاوية بحكم تغير موازين القوى.
إن الشعبوية ليست مجرد أسلوب خطابي أو استراتيجية وانتخابية عابرة، بل هي منظومة سياسية اجتماعية وأخلاقية وليدة أزمة الديمقراطية التمثيلية وتتخذ من التعارض الوهمي بين “الشعب الطاهر” و”النخب الفاسدة” قاعدة لعملها، وعندما تتحول هذه المنظومة إلى نمط حكم أو إلى ثقافة سياسية وأخلاقية مسيطرة فإنها لا تهدد المؤسسات والديمقراطية وفقط، بل تحول عنفها الرمزي إلى سلوك اجتماعي ويقوّض قيم الصدق والعدل والشفافية واحترام الاختلاف، وهي تعمل عبر مجموعة متكاملة من الأدوات: خطاب سياسي بلاغي متطرف وعالي النبرة، سياسات “استثنائية” تشرعن تجاوز القواعد المألوفة وضد “السيستام”، وسائل إعلام موازية أو مستبعدة واستخدام مؤسسات الدولة كآليات لتصفية الخصوم. هذه الآليات تحول المناخ العام إلى مرحلة مستمرة من الاستقطاب والتحريض ينتج العنف المؤسسي والعنف الرمزي.
إن إحدى آليات الشعبوية الأكثر تدميرا للأخلاق والمجتمع هي وتسخير الإعلام والقضاء ولتصفية الحسابات السياسية والملاحقات الأمنية الواسعة والاتهامات المفبركة والملفقة والمحاكمات الجائرة التي تجري في فضاء عام مسموم بالتشفي والسحل الإعلامي يحول مبدأ “براءة المواطن حتى تثبت إدانته” إلى “المواطن متهم حتى تثبت براءته” ووهنا تتحول المحاكم إلى مؤسسات للانتقام والتنكيل تنهار فيها قاعدة المصداقية والعدالة والمساواة أمام القانون ويصبح الكذب والتزييف “وسيلة مشروعة” ضدّ الخصوم وهو ما يؤدي لا إلى تآكل السياسة فحسب وبل يصل إلى تآكل العلاقات اليومية العامة بين الناس.
إنّ التجربة الملموسة بيّنت وتبيّن باستمرار أن مقولة “سنطهر البلاد من الفساد” و”سنعيد الحقوق للشعب” وإن كانت مقولة حق أريد بها باطل فهي تستخدم كحجة لإعادة تشكيل الدولة على قاعدة الولاءات الجديدة التي تستبدل الفساد القديم بشبكات فساد جديدة مقربة من مركز القرار في السلطة، وبالمحصلة فإن الشعبوية تعيد إنتاج الفساد في مناخ الاستبداد ولا علاقة لها بمحاربة الفساد.
أمّا خطاب الاستئصال والتخوين وتصنيف والمختلفين علاوة عن المعارضين وكأعداء ورميهم بالعمالة والخيانة العظمى فهو عنوان لقمّة التحقير والنبذ السياسي و التدمير الاجتماعي. والشعبوية وإذ تقوم بذلك فهي تعمد إلى تحريك العواطف التي تغذي الاحتقان الاجتماعي وتحويل الخلافات إلى نزاعات هوياتية تنتج العنف اللفظي والفعلي والإحتراب الأهلي وتسرّع من دورة التطرف ولا جدال في أن لذلك أثر أخلاقي مدمر للمجتمع والذي ينقسم إلى معسكرات عدائية بدلا من التعايش على قاعدة الاختلاف.
أيّ أخلاق بديلة؟
إن استعادة أخلاق الثورة يمرّ عبر النضال الدؤوب للإطاحة بالمنظومة الشعبوية وبصفة تكتيكية مباشرة تحصين هيئات المجتمع المدني ومناعة الأجسام الوسيطة واستعادة استقلالية المؤسسات القضائية بحماية القضاة والشفافية في تعيينهم وتحرير المؤسسات الإعلامية بدعم الإعلام المستقل وكسر دورة “اليقين الزائف”، وتعزيز الثقافة المواطنية والتعليم الأخلاقي والسياسي والنقدي، وبناء المناعة المجتمعية ضد الخطاب الشعبوي، وتقوية المؤسسات الديمقراطية التي تمثل خطوط الدفاع الأساسية ضد الاستبداد، من أجل إعادة بناء الأخلاق الثورية الكفيلة لوحدها باستعادة روح ووهج الثورة وفرض مسار المقاومة والتحرر الحقيقي من الاستبداد.
إن أخلاقا ثورية تقوم على العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة والضرائب التصاعدية وحماية الخدمات العمومية والمساءلة الصارمة والرقابة الشعبية هي الأخلاق البديلة عن الأخلاق الشعبوية القائمة وعلى الاستثمار في وثقافة زرع الوهم والتغذي من الجهل السياسي. كما أن الخروج من الأزمة الأخلاقية والمستفحلة يمر حتما عبر ثورة اجتماعية وعميقة ذات بعد أخلاقي ثوري يضع العدالة والمساءلة والتربية النقدية في قلب المشروع السياسي، وهي الطريق الوحيد للخروج من دوامة الزيف الشعبوي نحو مجتمع تحكمه دولة الحق لا الشعارات.
إن الشعبوية تفسد وتدمر الأخلاق باسم الأخلاق في حين أن لا أخلاق حقيقية بدون عدالة، ولا صدق بدون محاسبة ولا حرية بلا نقد وتبعا لذلك : لا تصالح مع الشعبوية ولا مسايرة ولا انتظارية لوعودها الزائفة إذ هي لا تَصلح ولا تُصلح.
صوت الشعب صوت الحقيقة
