الرئيسية / عربي / في التضامن الدولي مع غزة
في التضامن الدولي مع غزة

في التضامن الدولي مع غزة

بقلم كمال عمروسية

لقد عبّد وعد بلفور المشؤوم الصادر بتاريخ 2 نوفمبر 1917 الطريق أمام العصابات الصهيونية لاحتلال الأراضي الفلسطينية لاحقا وإقامة كيان استيطاني واستعماري غاشم بناء على سردية ومظلومية الهلوكوست، وهو الغطاء الذي اختبئ وراءه بلفور وبريطانيا بصفة خاصة والغرب بصفة عامة. فالوعد كان بسبب الإحساس بالشفقة تجاه معاناة اليهود وتعرّضهم للقمع والاضطهاد. هكذا يسخر ويبرّر قادة ومنظرو الدول الرأسمالية جريمتهم وانحيازهم المطلق للكيان. كما يروّجون ويدّعون جمع أقليات مشتتة عبر العالم في رقعة جغرافية موحدة، تعويضا عن معاناتهم الأزلية. وهذا يكرّس الوجه البشع والقبيح لمنظومة الرأسمالية دون خجل. يستيقظ ضميرهم كذبا وزورا أحيانا ويخرس على جرائم التقتيل والإبادة والتهجير والتجويع أحيانا أخرى. غير أنّ الشعوب المؤمنة بالحرية والانعتاق هبّت وتهبّ نصرة وتضامنا مع القضية الفلسطينية وضدّ زمجرة وعربدة آلة الحرب الصهيونية ورفضا لويلات الحرب والحصار الذي أنهك الغزاويات والغزاويين مجسّدة بذلك نقلة نوعية في التضامن، تضامن واسع ولا مشروط دفاعا عن القيم الإنسانية النبيلة في مواجهة الاستعمار والدمار الذي تكرّسه الامبريالية والصهيونية. فما هي أشكال التضامن؟ وماهي أبعادها؟ وأيّ آثار تركتها حملة التضامن الغير مسبوقة اليوم مع القضية الفلسطينية؟

أبعاد وأشكال التضامن مع غزة

إنّ الجرائم ضدّ الإنسانية التي يرتكبها الكيان المحتل في الأراضي الفلسطينية حرّكت السواكن ودفعت بالجماهير إلى رفض هذا الواقع الأليم. فمنذ عقود يقع التنكيل بسكان قطاع غزة، والحروب المتتالية أنهكت هذا الشعب الأعزل وحصيلة قوافل الشهداء في تزايد مطّرد يوميا، كما طالت آلة البطش العناصر القيادية للمقاومة وتستهدف يوميا النساء والأطفال والشيوخ وتقصف المستشفيات والمدارس والأحياء والأبراج السكنية وبذلك سقط الآلاف من المدنيين شهداء ويعيش الأحياء تحت القصف اليومي وقطع التيار الكهربائي والماء الصالح وغير الصالح للشراب ويتزايد عدد النازحين من هول قصف الدبابات والطائرات ونتيجة تدمير البنية التحتية وعجز المستشفيات عن استقبال الضحايا وافتقارها للأدوية. كذلك الحصار المضروب على القطاع يودي يوميا بالعشرات من الشهداء نتيجة انتشار المجاعة والأوبئة. أمام عربدة الاحتلال نشطت حملات تضامن واسعة دفاعا عن الحق الفلسطيني وامتدت من الأراضي العربية لتشمل جلّ القارات الأخرى.

لقد لعبت المواقع الاجتماعية (تويتر، انستغرام، تيكتوك، فايسبوك) دورا هامّا في فكّ العزلة الإعلامية التي حاول الإعلام الغربي فرضها على مجازر العدو وساهمت هذه المواقع والمنصات من خلال الناشطات والناشطين في كشف هول الدمار والتقتيل الذي مورس تجاه شعب مكلوم، وتكثفت حملات المناصرة للفلسطينيين، وبذلك ساهمت من موقع متقدم في خلق رأي عام متضامن مع الفلسطينيين. وعلينا أن نشيد بدور الصحفيات والصحفيين الذين تمسكوا بنقل الصورة والحدث من على عين المكان، وتمسكوا بحق الإعلام في كشف الحقيقة ونقل الأحداث لحظة بلحظة. وحسب المكتب الإعلامي الحكومي في قطاع غزة ارتفع عدد الشهداء الذين قتلهم الكيان في القطاع منذ 7 أكتوبر 2023 إلى 251 صحفيا بعد مقتل ثلاثة صحفيين يوم الإثنين.

هذا وقد تحركت الشعوب العربية رغم القيود المضروبة عليها من قمع للحريات وحاولت في عديد الأقطار والعواصم والمدن من إقامة تحركات إسناد ارتباطا بإرثها التليد وتقاليدها المعهودة باعتبارها في طليعة المناصرين للقضية الفلسطينية وتكثفت المظاهرات، أحيانا حاشدة وأخرى ذات طابع رمزي ولم تكتف بالشوارع والاعتصامات وإضرابات الجوع بل شملت حملات التبرع وإرسال المساعدات الطبية والغذائية. كما انطلقت موجة عارمة من التحركات في العواصم الأوروبية واجهتها حكومات اليمين في الغرب بالمنع والتضييق والإيقافات ولم تخف هذه الحكومات طابعها المعادي للإنسانية والفلسطينيين من ناحية ودعمها للكيان الاستيطاني من ناحية ثانية، لكن إصرار الأحزاب التقدمية في العواصم الغربية ودور النقابات والجمعيات الحقوقية ومساهمة الحركة الطلابية العالمية وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية عزز دائرة التضامن مع الشعب الفلسطيني بل إنه خلق معادلة جديدة قوامها عزل الكيان شعبيا. فكلّما ازداد بطش العدو إلا وازدادت نقمة الشعوب عليه فتكثفت حملات مناهضة التطبيع والمقاطعة الأكاديمية وتعددت مبادرات مساءلة الشركات وتدعّمت حركة المقاطعة للبضائع والسلع الداعمة للكيان كما ارتفعت الدعوات المطالبة بسحب الاستثمارات الموجهة لكيان الاحتلال. ومن مآثر ذلك أن أعلنت كارفور عن بيع عملياتها والتي تشمل أكثر من 1188 متجرا متخلية بذلك عن السوق الإيطالية. واللافت للانتباه تحوّل العديد من الملاعب الرياضية العربية والأوروبية وفي أمريكا اللاتينية إلى مسارح دعم لغزة ونشطت الأهازيج الداعمة للقضية الفلسطينية من ناحية والمناهضة للحكومات العربية العميلة والحكومات الغربية المتسترة عن الجرائم من ناحية أخرى. ومن أجل فك الحصار المضروب على غزة تمّ تنظيم القوافل المساندة للشعب الأعزل منها البري ومنها البحري. ويتمّ هذه الأيام تنظيم أسطول الصمود الذي انطلق من عديد العواصم (اسبانيا/إيطاليا/تونس/اليونان) بمشاركة مناضلين قادمين من أكثر من أربعين دولة والمئات من الناشطات والناشطين والعشرات من السفن في اتجاه غزة في محاولة جريئة متحدّين الخطر الإسرائيلي الذي لا يتوانى في منع هذه المبادرات وقمعها وهو الذي قصف سفينة مافي مرمرة سنة 2010، هذا الاعتداء الذي راح ضحيته عشرة مناضلين أتراك وتسبّب في نشوء أزمة ديبلوماسية بين الكيان وتركيا. إنّ مساندة القضية الفلسطينية اجتاحت أروقة البرلمانات في العالم وتعالت أصوات النواب الشرفاء تنديدا بالمجازر المرتكبة يوميا وحوصر النواب الداعمين للكيان، بل إنّ أغلبهم بات عاجزا عن القيام بمهامه وذلك تحت طائلة المنع الشعبي في بلدانهم. وتبقى مبادرة دولة جنوب إفريقيا من أهم المبادرات التي أحرجت سلطة الاحتلال إذ أنها رفعت دعوى قضائية إلى محكمة العدل الدولية في لاهاي/هولندا وذلك في 29 ديسمبر من سنة 2023 متهمة الكيان الصهيوني بخرق وانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لسنة 1948.

نتائج التضامن الواسع مع غزة

لن نجانب الصواب إذا أكدنا أنّ حملة التضامن الدولي مع القضية الفلسطينية اليوم غير مسبوقة. فالشوارع غصت بالشعوب من جنسيات وعرقيات وأديان مختلفة رفعت عقيرتها بالصياح ضدّ المحتل ومعلنة أنّ الحرب الاستيطانية مرفوضة لتؤكد أنّ القضية الفلسطينية ليست مجرّد كوفية بل هي عنوان لإنسانية الشعوب ورفضها للظلم والجور والاحتلال واغتصاب الأراضي. وساهم الزخم النضالي في إعادة القضية الفلسطينية إلى واجهة الأحداث العالمية وتصدرها قائمة أعدل القضايا الإنسانية. وليس خافيا اليوم أنّ حملات التضامن الدولي عمّقت وجذّرت الوعي العالمي براهنية القضية الفلسطينية وساهمت بشكل كبير في تبليغ أفكار وصوت الفلسطينيين. إن هذا التضامن المنقطع النظير ساهم في خلق ضغوطات على الإعلام المصطف مع الكيان، وضيّق الخناق على الحكومات والهيئات الدولية ما جعل بعض الدول تستدعي سفراءها أو تخفض تمثيلها الدبلوماسي كشكل من أشكال الاحتجاج على عنجهية الصهيونية. كما أنّ العودة للحل القديم الجديد حلّ الدولتين بقطع النظر عن جدواه والموقف منه فإن مواقف الحكومات التي تبنته مؤخرا أو أعادت تبنيه لم يكن إلا نتيجة مباشرة للتحركات المتواترة والتي عرّت الأنظمة وكشفت جوهرها المعادي للإنسانية والمتعطش للحرب. إن الامبرياليات الغربية الفرنسية والانقليزية وغيرهما ما انفكت تعدّل من خطابها الرسمي تحت وطأة ضغط الجماهير. هناك في الولايات المتحدة الأمريكية راعية الإرهاب الدولي وداعمة الصهيونية تغيّرات كبيرة بصدد الاعتمال في المجتمع، فالمظاهرات المليونية في عواصم أمريكا وكندا وغيرها تشير إلى أنّ التضامن مع غزة هذه المرة لن يكون عابرا بل سيترك بصمته على الأجيال القادمة ولعل الاستطلاع الذي أجرته جامعة هارفرد ومؤسسة هاريس يؤكد ذلك. إذ جاء في هذا الاستطلاع أنّ 60 % من جيل أمريكا الجديد يفضّلون حركة حماس على كيان الاحتلال. يمكننا أن نجزم أنّ القضية الفلسطينية قد حققت مكاسب كبيرة في ضوء الصراع المحتدم وفي الوقت الذي يتعاظم فيه التعاطف والتضامن مع شعب فلسطين شرعت الرواية الاستيطانية في التآكل شيئا فشيئا.

ويظل المكسب المباشر الأهم لهذا التضامن الواسع هو حالة المعنويات التي عليها الفلسطينيون، فكل أشكال المناصرة تعزز لديهم الثقة في قضيتهم وتبعث فيهم شعورا بعدم العزلة وحافزا من أجل الصمود ومقارعة جبروت وبطش العدو، وتعزز القناعات أنّ خيار المقاومة هو الأنجع وهو السبيل الرئيسي والوحيد لتحقيق الانتصارات. إنّ الملاحم التي تجسّدها المقاومة تتحد مع حركات التضامن العالمية. إنّ صبر الفلسطينيين وشجاعتهم وتمسكهم بحقهم وأرضهم يزداد عنفوانا مع الصخب الذي تحدثه الجماهير الشعبية المساندة للقضية في كل أصقاع المعمورة.

إنّ القضية الفلسطينية في حاجة ماسة أن يتحوّل الغضب الشعبي الحالي إلى مناصرة سياسية دائمة ومتواصلة وتؤسس إلى حراك طويل الأمد وهذا التضامن الدولي من الواجب أن يستمر ولا بدّ من مواصلة الضغوط الجماهرية وتكثيف النضالات ضدّ الحكومات الغربية والأمريكية الداعمة للكيان، كما هو ملحّ على شعوب الأقطار العربية أن تكشف عمالة حكامها وأنظمتها وتعزز من دعمها للشعب الفلسطيني. أمّا في بلادنا فإنه يلقى على عاتق شعبنا كمهمة آنية فرض قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني كخطوة جدية وفاعلة وواقعية على درب دعم الفلسطينيين عوضا عن الترهات والمزايدات التي تتشدق بها الشعبوية وبديلا عن التوظيف الرخيص للقضية الذي تكرّسه.

إلى الأعلى
×