الرئيسية / صوت الوطن / “أوقفوا التلوث” شعار يوحّد القوابسية
“أوقفوا التلوث” شعار يوحّد القوابسية

“أوقفوا التلوث” شعار يوحّد القوابسية

بقلم إلياس بن عمّار (*)

“خلّونا نعيشوا… خلونا نتنفسوا” هكذا صرخ أهالي قابس في وجه قوات الأمن المرابطة أمام الإدارة الجهوية للمجمع الكيميائي خلال الوقفة الاحتجاجية يوم 10 أكتوبر 2025. هذه الوقفة تم تنفيذها بدعوة من الحركة الاجتماعية “STOP POLLUTION” على إثر تواتر الانبعاثات الغازية من منشآت المجمع خلال شهر سبتمبر الفارط والتي أدّت إلى اختناق عدد من تلامذة إعدادية شط سيدي عبد السلام المحاذية للمنطقة الصناعية و نقلهم إلى المستشفى الجهوي بقابس ومستشفى الرابطة بالعاصمة.

هذه الوضعية البيئية المتردية لطالما نبّهت لها الفعاليات المحلية بجهة قابس وعلى رأسها حركة “STOP POLLUTION” منذ سنوات ممّا أفرز قرارا بفكّ الوحدات الملوثة سنة 2017 – لم يتمّ تنفيذه لحدّ الآن – نتيجة انتهاء عمرها الافتراضي ممّا جعلها مصدر خطر كبير على الجهة.

لمحة تاريخية

تعود فكرة إنشاء المجمع الكيميائي بقابس إلى مخططات الدولة خلال العقد الممتدّ من سنة 1962 إلى سنة 1972 الهادفة لتثمين الموارد الطبيعية للبلاد وكذلك لتجاوز التفاوت بين الشمال والجنوب على مستوى الصناعة وإحداث مواطن شغل بالجهة.

لقد كان التخطيط لهذا المشروع يعتمد بالأساس على إنشاء قطب صناعي يساهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي بالجنوب التونسي عبر تثمين الموارد الطبيعية وتوجيهها نحو الأسواق الخارجية (الدول الصناعية أساسا). وقد تزامن مع بعث منطقة صناعية بقابس وإنشاء ميناء تجاري هدفه تسهيل توجيه المواد المصنعة والثروات الطبيعية للبلاد (كالبترول) نحو الأسواق العالمية.

وفعلا بدأت الدولة في تنفيذ المشروع عبر إيجاد التمويلات اللازمة له: فبعد مفاوضات عسيرة مع الجانب الفرنسي، تمّ تعديل بعض جوانب المشروع والتفويت في 30% من رأسمال المجمع – الذي حمل اسم الصناعات الكيميائية المغاربية في ذلك الوقت – لصالح شركات أوروبية وتمّ تشغيل المرحلة الأولى للمجمع سنة 1972.

هذه الانطلاقة تلتها عديد التوسيعات التي شملت مجال المجمع وكذلك محيطه الاقتصادي المنتصب بالمنطقة الصناعية وهو ما أهّل هذا المركب ليتجاوز بُعده الجهوي إلى المستوى الوطني: فلم يعد المجمع مجرد آلية لتنمية الجنوب التونسي كما خطط له إبان فترة التعاضد وإنما تعدّاه ليصبح – خلال فترة السبعينات ولبرلة الاقتصاد التونسي – مركزا لتوفير العملة الصعبة عبر تصدير المواد الكيميائية المنتجة.

هذا النموذج المعتمد من طرف الدولة استند إلى مقاربة اقتصادية بحتة باعتبارها – من وجهة نظرها – ستكون العامل المحرك للتنمية وتمّ تجاهل أيّ مقاربات أخرى بما في ذلك البيئية والانعكاسات المحتملة لمشروع كهذا على الأهالي والجهة ككل.

الإشكاليات المطروحة

مع توالي السنوات واستكمال إنجاز وحدات جديدة للإنتاج بالإضافة لانتصاب منشآت جديدة مستغلة وجود البنية التحتية اللازمة للمشاريع الصناعية، أصبحت المنطقة الصناعية بقابس رافدا اقتصاديا مهمّا ومدرّا للأموال ولكن في مقابل ذلك تدهورت الأوضاع البيئية والصحية لدرجة نعت أحد الخبراء الفرنسيين خلال برنامج تلفزي المنطقة باعتبارها “منطقة موت”:

  • فقد تلوّث خليج قابس من جراء فواضل المجمع المتمثلة أساسا في مادة الفوسفوجيبس وهي مادة مكونة من الماء والوحل بالإضافة للمعادن الثقيلة وهي مواد ضارة جدا وسامّة تقضي على كل أشكال الحياة البرية والحيوانية في البحر.
  • ورغم عدم وجود إحصائيات دقيقة، إلا أنّ عديد المختصين بالجهة لاحظوا ارتفاعا غير مسبوق للأمراض السرطانية وأمراض التنفس بالإضافة لهشاشة العظام (بسبب التركز الكبير لمادة الفليور بالجهة).

هذه المعطيات والاستنتاجات يدعمها تقرير مهمة التدقيق البيئي والاجتماعي الصادر عن المجمع الكيميائي التونسي في جويلية 2025 والذي كان هدفه القيام بتدقيق شامل لمنشآت المجمع حتي يستجيب “للمعايير البيئية والاجتماعية للبنك الإفريقي للتنمية” ونلاحظ هنا أنّ الدافع هو الاستجابة للمؤسسات المالية العالمية وليس النظر في مطالب الأهالي.

هذا التقرير كشف عن إخلالات كبيرة تمثلت في عدم مطابقة معايير التشغيل مع المواصفات الوطنية والعالمية المعتمدة والتي تمثلت أساسا في:

  • الـتأثير الجسيم لتصريفات المجمع على النظم الإيكولوجية البحرية.
  • تلوث الهواء بانبعاثات الأمونياك، حامض النيتريك، ثاني أكسيد الكبريت وغيرها من الغازات الأخرى مع وجود روائح كريهة تؤثر على المتساكنين.
  • غياب برامج للتكوين المستمر في الصحة والسلامة المهنية للعاملين بالمجمع.

كما أشار التقرير إلى عدم وجود آلية لتلقي شكاوي الأهالي أو معالجتها مستخلصا إلى أنّ “الحوار المجتمعي يكاد يكون منعدما، والمؤسسة لا تعتمد نظاما إداريا بيئيا واجتماعيا متكاملا”.

بالإضافة لكل ذلك، فإن مؤشرات التنمية بجهة قابس لم تكن بالمستوى المطلوب والمأمول، وهو ما فاقم التوتر الاجتماعي عبر تحركات الأهالي منذ سنة 2011 بما فيها الاحتجاجات ضدّ التلوث والانبعاثات الغازية للمجمع الكيميائي والتي أفرزت الحركة الاجتماعية “STOP POLLUTION”.

في المقابل، فإن السلطة السياسية المتمثلة في الحكومات المتعاقبة منذ المسار الثوري 17-14 ولحدّ لآن تجاهلت هذه الوضعية البيئية الكارثية بالإضافة لعدم تحقيق آمال الشباب وخاصة المعطلين بجهة قابس وهو ما فاقم تدهور المناخ الاجتماعي وساهم في بروز ظواهر اجتماعية عديدة لعلّ من أبرزها – على غرار عدة جهات أخرى – ظاهرة “الحرقة” والنزوع نحو ترك البلاد باتجاه الضفة الشمالية للمتوسط.

والأغرب من ذلك أنّ سلطة الإشراف، علاوة على عدم تجاوبها مع مطالب الحركة الاجتماعية وتجاهلها لها خلال السنوات الفارطة، فإنها تتخذ قرارات إضافية بنفس التوجهات القديمة التي لا تعتمد سوى على المقاربة الاقتصادية الضيقة ولصالح الاستثمارات الأجنبية المباشرة من أجل تلبية طلبات الأسواق الأوروبية دون اعتبار للكلفة البيئية والاجتماعية وحتى الماكرو اقتصادية للبلاد، وذلك ببرمجة مشاريع للهيدروجين الأخضر بالجهة وإقامة الندوات الداعمة لها بجهة قابس بحضور ممثلين أجانب وإقصاء الأهالي وفعاليات المجتمع المدني المحلي.

المطلوب

في مقابل احتجاجات الأهالي المتواصلة مع تواتر الانبعاثات الغازية المضرّة وتنامي عدد الضحايا خصوصا من الأطفال، وأمام عجز سلطة الإشراف عن إيجاد حل جذري أو بعث رسائل إيجابية يمكن من خلالها بلورة حلول مستقبلية، ينبري البعض للتبرير وانتقاد مطلب الأهالي المركزي المتمثل في “فكّ الوحدات” والذي يترجم القرار الصادر سنة 2017 عن الحكومة. ويعتمد هؤلاء على كون المجمع يمثل مكسبا وطنيا لا بدّ من الحفاظ عليه وكذلك يستندون للكلفة الكبيرة التي ستتحملها الدولة من جراء فكّ أو نقل منشآت المجمع.

هذه التبريرات تعبّر عن وجهة نظر تكنوقراطية مفصولة عن الواقع المعاش الذي يعانيه متساكنو جهة قابس، كما أنها تتماهى مع منطق السلطة في إنجاز هذا النوع من المشاريع بطريقة مسقطة دون الأخذ بموقف الأهالي التي ستتحمل تبعاتها وهذا ما يمثل المشكل الرئيسي: إذ لا يمكن التعلل بالأرباح وتحسين معدلات النمو الاقتصادي في ظل استبعاد النقاش مع المجتمعات المحلية، فالمبدأ الأساسي هو الإقناع والنقاش وتقديم الحجج وترك حرية الاختيار لها.

أمّا بخصوص الكلفة المالية لفكّ الوحدات أو تحديث آليات الاستغلال بهدف التقليص من التأثيرات البيئية ومعالجتها، فالأمر مرتبط بإرادة الماسكين بزمام القرار لأن الموارد المالية وطرق الحصول عليها موجودة ومتوفرة لكن المهم هو كيفية تقديم هذا النوع من المشاريع وإدراجها ضمن المخططات الاستراتيجية للدولة واعتبارها من الأولويات العاجلة.

(*) نقابي، عضو مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة

إلى الأعلى
×