بقلم شيراز بن حسين
رغم سلمية وجماهرية التحرّكات الاحتجاجية التي شهدتها مدينة قابس في الفترة الأخيرة للمطالبة بإنقاذ مدينتهم من شبح الموت والأمراض الخبيثة التي تسبّب فيها التلوّث والتسمّم الناتج عن المجمّع الكيمائي بالجهة منذ سنوات رغم القرار الحكومي القاضي بإيقافه منذ جوان 2017، إلاّ أنّ هذا الحراك الذي وحّد جميع المواطنين جوبه بالغاز المسيل للدموع والعنف وتفريق الحراك بالقوّة ولاحقا الإيقافات والترهيب والتخويف وجملة من الانتهاكات الجسيمة في حقّ المحتجّين.
ورغم أنّ التحرّكات الاحتجاجية التي شهدتها المدينة كانت ردّة فعل طبيعية أمام الوضع البيئي والصحي الكارثي والخطير بسبب الغازات والتسرّبات الملوثة المنبعثة من المجمّع الكيمائي، آخرها تتالي حالات الاختناق وتكرّرها في صفوف المواطنين والأطفال ونقلهم بشكل عاجل إلى المستشفيات والأمراض الخطيرة المنتشرة في صفوف مواطني الجهة (هشاشة عظام، سرطان…)، إلاّ أنّ سلوك المنظومة لازال قائما على التسويف والمماطلة حتى وإن كان الملف والمطلب بيئي بحت، وكلّ ما يحصل خير دليل بأنّ الأنظمة الشعبوية الفاشية ستلجأ إلى الترهيب والممارسات الأمنية لمجابهة أيّ مطالب مهما كان مضمونها أو عنوانها.
من بينهم قصّر: المحتجّون في قفص الاتّهام
لمجابهة جماهرية هذه التحرّكات الاحتجاجية، عمدت منظومة الحكم إلى المعالجة الأمنية كعادتها للتخويف والترهيب، حيث وإثر انطلاقة الزخم النضالي للمطالبة بحلّ الوحدات وتطبيق القرار الحكومي المعلّق منذ سنة 2017، تمّ منذ البداية إيقاف 89 شخصا من بينهم نحو 20 قاصرا (في انتظار بقية الأرقام المتعلّقة بالموقوفين من المحامين المتابعين للملفّ)، كما صدرت في حقّ عدد منهم بطاقات إيداع بالسجن وإحالة آخرين على أنظار النيابة العمومية. كما عمدت هذه المنظومة إلى الترويج إعلاميا عبر الناطق الرسمي باسم الإدارة العامة للحرس الوطني أثناء حضوره في النشرة الرئيسية للأنباء بالقناة الوطنية الأولى بأنّ التشكيلات الأمنية (وحدات تدخّل والأمن العمومي وفرق كشف الشغب) قد تمركزت لحماية مقرّ المجمّع الكيمائي، كما قامت وحدات الحرس الوطني بتأمين وحماية حوالي 100 ألف طن من المواد الخطرة، محذرا بأنّه لو حصل أيّ اختراق لوقعت الكارثة في الولاية وأحوازها، كما “عمدت مجموعات إلى استغلال الملفّ البيئي لأغراض معيّنة من الداخل والخارج وهم معروفين لدى الوحدات الأمنية والأجهزة القضائية وقد تمّ فتح بحث تحقيقي ويتمّ إجراء التحرّيات وسيتمّ إحالتهم على القضاء” (وطبعا المقصود هم المحتجون).
ورغم أنّ الحقّ في بيئة سليمة هو حقّ “دستوري” ومكفول وفقا للمعايير الدولية لحقوق الإنسان وأنّ أيّ تجاهل في معالجة ملفّ بيئي هو إخلال جسيم لالتزامات الدولة تجاه مواطنيها، إلاّ أنّ منظومة قيس سعيد الشعبوية لازمت الصمت مع انطلاق التحرّكات الاحتجاجية واتخذت خيار المعالجة الأمنية والترهيب كخطوة أولى، وأمام تواصل الحراك والإسناد له في عدّة ولايات وهي متواصلة إلى اليوم، أصدرت رئاسة الجمهورية في خطوة ثانية بلاغا آثار ردة فعل الرأي العام لمضمونه الشعبوي كالعادة والذي لم يحمل أو يعلن أيّ قرارات ملموسة وواضحة لحماية متساكني قابس من خطر المجمّع الكيمائي.
وقد أثارت المعالجة الأمنية للتحرّكات الاحتجاجية احتجاج الرأي العام ومكوّنات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، وسارعت إلى التنديد والإدانة لكلّ أشكال القمع والاستعمال المفرط للقوة ضدّ المحتجّين، إضافة إلى المطالبة بإيقاف جميع التتبّعات ضدّ المواطنين الذين مارسوا حقّهم في الاحتجاج السلمي والإيقاف الفوري لأنشطة المجمع الكيمائي الملوّثة وتنفيذ القرار الحكومي الصادر سنة 2017 القاضي بتفكيك الوحدات المسبّبة للتلوّث والشروع في تطبيق حلول بيئية سليمة وتنموية تراعي صحة وسلامة متساكني الجهة.
مواصلة دعم التحرّكات ضرورة لوضع حدّ للمأساة البيئية
لقد أصبح من الواضح أنّ التصعيد الأمني في قابس لم يكن نتيجة للقدرة على ضبط الأمن كما يروّج فحسب، بل كان نتيجة لتراكم العديد من القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي لم تجد حلولاً حقيقية على مستوى الجهة من قبل منظومة الحكم. بل عجزت عن إيجاد برامج تنموية حقيقية على مستوى بقية الجهات أيضا لمجابهة المطالب الاجتماعية والاقتصادية والبيئية المتواصلة أو حتى تنفيذ الوعود الواهية التي أطلقها رأس هذه المنظومة منذ سبع سنوات وإلى اليوم، ورغم حجب زخم هذا الحراك من جانب بعض المؤسسات الإعلامية خاصة منها العمومية إلاّ أنّ المعالجة الأمنية وحّدت أغلب الطيف الحقوقي والسياسي في اتجاه مواصلة دعم التحركات الاحتجاجية المشروعة آخرها الإضراب العام بالجهة وإسناد مطالب المواطنين. حيث انطلقت في عدة ولايات من بينها العاصمة وقفات احتجاجية وشعارات مساندة لأهالي قابس ورفضا للانتهاكات التي مورست ضدّهم والمطالبة أيضا بإطلاق سراح الموقوفين وإيقاف التتّبعات القضائية والملاحقات الأمنية ضدّ المحتجّين. وأصبحت هذه القوى الوطنية والديمقراطية والمنظّمات ومختلف مكوّنات المجتمع المدني مطالبة أكثر من أيّ وقت مضى بتبنّي ودعم مطالب المواطنين لوضع حدّ لهذه الكارثة البيئية وإيجاد بدائل اقتصادية على مستوى قابس وبقية الجهات التي تعاني من التلوُّث والكوارث البيئية بدرجات مختلفة باعتبار أنّ قضية التلوّث ليست قضية جهوية فقط، خلافا لما يروّجه مفسّرو انقلاب 25 جويلية وبتعّلاتهم الواهية دفاعا عن منظومة اقتصادية أثبتت ولا زلت عجزها وفشلها في خدمة المواطنين وتلبية انتظاراهم وحقوقهم المشروعة.
صوت الشعب صوت الحقيقة
