الرئيسية / عربي / “صوت الشعب” تلتقي الناشط اليهودي المناهض للصهيونية والأممي بيار ستامبول (الجزء الأول)
“صوت الشعب” تلتقي الناشط اليهودي المناهض للصهيونية والأممي بيار ستامبول (الجزء الأول)

“صوت الشعب” تلتقي الناشط اليهودي المناهض للصهيونية والأممي بيار ستامبول (الجزء الأول)

حاوره منصف خالدي

مقابلة مع  ناشط لا يعرف الكلل معروف بالتزامه الثابت إلى جانب الشعب الفلسطيني وحقوقه غير القابلة للتصرف، رفيقنا بيار ستامبول Pierre Stambul، أستاذ متقاعد وناشط سياسي ونقابي، يهودي فرنسي مناهض للصهيونية. وهو أحد المتحدثين باسم الاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام (UJFP)، وهي جمعية يهودية مناهضة للصهيونية تأسست عام 1994.
معه سنتحدث عن المسألة اليهودية والإبادة الجماعية والمذابح ضدّ اليهود في أوروبا والصهيونية والقضية الفلسطينية، من المشروع الصهيوني إلى الإبادة الحالية، وموقف الدول ودعم وتضامن الشعوب المحبة للحرية والعدالة مع هذه القضية العادلة في فرنسا وحول العالم.
على مدى عقود، يجوب “بيار ستامبول” فرنسا وأوروبا لإلقاء المحاضرات والمشاركة في المناظرات دفاعا عن هذه القضية الكونية، قضية الفلسطينيين. وقد قام بعدة زيارات إلى فلسطين، منها زيارتان إلى غزة، وكذلك إلى لبنان ومصر. كما ينفذ UJFP مشاريع مع المجتمع المدني في غزة. في 7 أكتوبر 2023، كان في طريقه إلى غزة، لكنه توقف في القاهرة.
وهو أيضا كاتب ألّف عديد الكتب والمقالات حول القضايا التي سنتناولها في هذه المقابلة.

هل يمكنك أن تحدّثنا عن مسارك كمناضل سياسي ونقابي مناهض للاستعمار، وعن انتقالك من رفض التواطؤ إلى الالتزام  المناهض للصهيونية؟

أنا، نوعًا ما، طفلٌ من جيل مايو 1968. لم أنتمِ يومًا إلى أي مجموعة سياسية، ولكن لديّ حساسية قريبة من الشيوعية التحررية. أنا من أصول أوروبا الشرقية وأتكلم الروسية، ولذلك لم تكن اللينينية يومًا نموذجًا مناسبًا لي. لقد ناضلتُ داخل لجان العمل، وفي حركة تحرير الإجهاض ومنع الحمل (MLAC)، وفي لجان تعمل على إطلاق سراح ضحايا الفاشية في أمريكا الجنوبية. وكان نشاطي النضالي الأساسي داخل تيار نقابي ثوري في قطاع التعليم: أولا في “École Émancipée”، ثم في “Émancipation” في ما يخص القضية الفلسطينية، كان مساري طويلًا ومتعبًا. ففي سنّ السادسة عشرة كنتُ صهيونيًا، وعملتُ في كيبوتس kibboutz ولذلك أعرف الأكاذيب من الداخل. وقد أصبحتُ بسرعة شديدة معاديًا لاحتلال الأراضي التي احتُلَّت عام 1967، ولتموضع إسرائيل في الجانب الخاطئ من الصراعات العالمية (فيتنام، جنوب إفريقيا…).

لكنّ الأمر استغرق منّي سنوات طويلة لأفهم عدم شرعية هذا الكيان، وأنّ إنشاء إسرائيل سمح لكل المعادين للسامية بأن يجعلوا الفلسطينيين يدفعون ثمن جرائمهم. إن رحلاتي إلى فلسطين، خصوصًا إلى الخليل وغزة، هي التي جعلتني أدرك فظاعة نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد) وعمليّة تدمير المجتمع الجاري هناك.

انطلاقًا من كتابات كارل ماركس، جان بول سارتر، ماكسيم رودنسون، إدغار موران و«المؤرخين الجدد» إيلان بابِيه وشلومو ساند، ما هو تحليلك للمسألة اليهودية، وتاريخ العنصرية ضد اليهود، والصهيونية؟

كانت UJFP في البداية “فقط غير صهيونية” مع شعار: «لا لجرائم تُرتكب باسمنا». أمّا بالنسبة لي، فمنذ البداية كانت المسألة الأساسية هي الأيديولوجيا الصهيونية، ومنذ 15 عامًا، أصبحت UJFP معادية للصهيونية. فالصهيونية جريمة ضد الشعب الفلسطيني، وهي أيضًا إهانة لتاريخنا وذاكرتنا وهوياتنا. إنها أيديولوجيا انتحارية أدّت إلى الفاشية الأكثر جنونًا.

الصهيونية هي أسوأ ردّ على معاداة السامية. فقد اعتبر مؤسسو الصهيونية أنّ معاداة السامية أمر محتوم، وأنّ الحل هو فصل اليهود عن بقية الإنسانية. لقد ارتكزت هذه النظرية الانعزالية، قبل 130 عامًا، أنّ اليهود وغير اليهود لا يمكنهم العيش معًا، لا في بلدهم الأصلي ولا في «الدولة اليهودية» التي ينوون بناؤها. ولا يمكن فهم فظاعة الإبادة الجارية في غزة إذا لم نفهم هذه الفكرة القائمة على الفصل. فاعتبار أنّ الحل للاضطهاد والتمييز هو إقامة دولة «نقية عرقيًا» هو نظرية قاتلة.

عندما ظهرت الصهيونية بين البرجوازية اليهودية في فيينا، كانت أقلية جدًا. فاليهود الغربيون كانوا يطالبون بالمساواة في الحقوق. والمتدينون كانوا ينتظرون قدوم المسيح، وطالما لم يأتِ بعد، كان الذهاب إلى الأرض المقدسة ممنوعًا. كثير من اليهود تخلّوا عن الدين لمواجهة مرتكبي المذابح، وتواجد العديد من اليهود في كل الحركات التقدمية والثورية. حتى أنه كان هناك حزب يهودي ثوري ملحد، “البوند” الذي دعا إلى «الاستقلال الثقافي»، أي المساواة في الحقوق دون الحاجة إلى أرض. وكان لـ«البوند» الأغلبية بين يهود بولندا وليتوانيا حتى سنة 1939. ونحن نعتبر أنفسنا، في UJFP، ورثة فترةٍ كان فيها أغلب اليهود يعتبرون أن تحرّرهم، كأقلية مضطهدة، يمرّ عبر تحرّر الإنسانية جمعاء.

الصهيونية هي استعمار. فقد قال “تيودور هرتزل” إنّ الصهاينة سيبنُون «حاجزًا للحضارة ضد بربرية آسيا». وهذا الاستعمار لا يهدف إلى استغلال الشعب الأصلي، ولا إلى «إرهاق السكان الأصليين» (faire suer le burnous) كما كان يقول المستعمرون الفرنسيون، بل هو استعمار إحلالي ينكر وجود وحقوق وكرامة الشعب الأصلي، ويسعى إلى طرده أو حبسه أو قتله. النموذج الذي استلهمه الصهاينة هو ما فعله الأوروبيون بالسكان الأصليين في أمريكا أو أستراليا.

لقد قلّدت الصهيونية كل القوميات الأوروبية في نهاية القرن التاسع عشر. كانت تلك القوميات تحلم بدول «نقية عرقيًا» وكانت معادية لليهود. لكن القومية الصهيونية اخترعت الشعب واللغة والأرض. فلا يوجد «شعب يهودي»؛ إنها فكرة دينية. القول بأنّ اليهودي اليمني واليهودي الليتواني ينتميان إلى «الشعب» نفسه هو بناء أيديولوجي. كان اليهود العلمانيون والمتدينون يشعرون بأنهم يهود حيث يعيشون، ولم تكن لديهم أي رغبة في الذهاب إلى فلسطين. لم  تكن اليهودية «إقليمية» طوال 2000 عام. كانت هناك لغات يهودية: اليهودية–الإسبانية (لادينو)، اليهودية–العربية، اليديش (yiddish)… أمّا العبرية فكانت محرّمة كلغة دنيوية، إذ كانت لغة الكنيس فقط.

لقد اخترعت الصهيونية رواية قومية قاتلة. كان مؤسسو الصهيونية ملحدين أو لادينيين استخدموا التوراة -التي لم يؤمنوا بها – ككتاب للغزو الاستعماري، وكأنها سجلّ عقاري. نعلم اليوم أنّ العبرانيين كانوا شعبًا محليًا. لم تكن هناك «غزوة كنعان»، وربما لم يكن هناك «مملكة موحّدة لداود وسليمان». أمّا يهود اليوم فهم في الغالب أحفاد لمجموعات اعتنقت اليهودية في فترات مختلفة وفي مناطق متعددة. وأحفاد يهود يهوذا القدامى هم أساسًا الفلسطينيون. لقد اُخترعت نظرية «المنفى والعودة» لتبرير غزو استعماري.

هل كان استعمار فلسطين ومنطقة المشرق / المغرب مشروعًا إمبرياليًا – رأسماليًا يهدف إلى تفتيت العالم العربي والسيطرة عليه قبل أن يكون مشروعًا صهيونيًا (1)؟

لقد تداخل المشروعان والتقيا لأن لديهما مصالح مشتركة. كانت أوروبا غارقة في معاداة السامية حوالي سنة 1900. أمّا الاستعمار، فلم يكن يُنتقد إلا نادرًا، حتى في الأوساط اليسارية. كانت لويز ميشيل Louise Michel استثناءً؛ في منفاها التقت بالكاناك Kanaks  وفهمت قضيتهم. لكن بالنسبة لمعظم الاشتراكيين، كان الاستعمار – كما كتب ليون بلوم Léon Blum عام 1925 – بمثابة «شعوب بلغت مستوى العلم والصناعة، تتولى جلب الحضارة لشعوب قاصرة». وكانت عصبة الأمم (SDN) تصف شعوب الشرق الأدنى بـ«القاصرين» عندما منحت فرنسا والإمبراطورية البريطانية انتدابًا على هذه المنطقة.

الصهيونية لم تحارب أبدًا معاداة السامية، بل كانت تعتبرها أمرًا لا مفر منه. وقد اعتمدت عليها. ذهب “هرتزل” لزيارة كل زعماء تلك الفترة من المعادين لليهود، شارحًا لهم أن مصالحهم ومصالح الصهاينة واحدة: أن يغادر اليهود أوروبا.
من بين هؤلاء المعادين، هناك المسيحيون الإنجيليون. ففي القرن السابع عشر وُلدت في العالم الأنغلو-ساكسوني أيديولوجيا دينية تقول بأن اليهود يجب أن «يعودوا إلى الأرض المقدسة»، وأن يطردوا «الشر»، أي العرب، ثم يعتنقوا «الإيمان الحق»، وإلا فسيُبادون. وكان كثير من هؤلاء من بين المستوطنين الذين ذهبوا إلى أمريكا.

كان “آرثر بلفور” واحدًا منهم. ففي عام 1905، عندما كان رئيسًا للوزراء، أصدر قوانين ضد اليهود البولنديين الذين جاءوا لنشر الثورة في لندن. وفي عام 1917، أرسل إلى الصهاينة «تصريح بلفور» مانحًا إياهم فلسطين – التي لم تكن حتى ذلك الحين محتلة. لا وجود لأي تناقض بين بلفور المعادي لليهود وبلفور المؤيد للصهيونية.

ووفقًا لما كتبته حنّه أرندت Hannah Arendt، كان المعادون لليهود يعتبرونهم «منبوذين آسيويين غير قابلين للاندماج». وبذهابهم إلى فلسطين، أصبحوا مستوطنين أوروبيين في خدمة «جلالة الملكة».

لقد أتاح الصهاينة للإمبريالية امتلاك مستعمرة استيطانية. لكن يجب ألا ننسى أبدًا أن المشروع الصهيوني كان قادرًا على التحرر من حُماته: فقد أعلن الصهاينة الحرب على الإمبراطورية البريطانية عام 1939، واستأنفوا هذه الحرب بين 1945 و1948. ثم في عام 1967، خلال ما يسمى «حرب الأيام الستة»، أغرقوا عمدًا المدمرة الأمريكية ليبرتي. وقد حصلوا بذلك على دعم سياسي وعسكري غير محدود من الولايات المتحدة.

هل الصهيونية حركة أو أيديولوجيا عسكرية، عنصرية، تفوّقية، استعمارية ومؤيدة للإمبريالية؟ كيف استطاعت أن تساهم في تلاعب هائل بالتاريخ والذاكرة والهويات اليهودية المتنوعة؟

ابتداءً من عام 1880، بدأ تهجير اليهود من أوروبا الشرقية، وكان يتجه أساسًا نحو الولايات المتحدة. في مواجهة معاداة السامية، كان اليهود يبحثون عن ملجأ، عن مكان آمن، ولم تكن فلسطين هي ذلك المكان. عند صدور تصريح بلفور، كانت نسبة اليهود في فلسطين أقل من 10% من مجموع السكان. ابتداءً من 1920، أغلقت الولايات المتحدة حدودها. بين الحربين، لم تكن هناك في الواقع سوى إمكانية واحدة أمام من يفرّون: فلسطين الخاضعة للانتداب.

في عام 1944، بينما كانت إبادة اليهود في أوجها في أوروبا، جرت انتخابات بين اليهود في فلسطين المنتدبة. وقد صوّت 45% ضد القائمة الصهيونية ولصالح دولة ثنائية القومية. قبل النكبة بأربع سنوات، كان ما يقارب نصف من سيصبحون إسرائيليين لاحقًا غير موافقين على طرد الفلسطينيين. لكن الصهاينة كانوا قد خططوا لهذا الطرد منذ 50 عامًا.

في عام 1945، وجد مئات الآلاف من الناجين من “الييديشلاند” Yiddishland ومن معسكرات الإبادة أنفسهم في مخيمات عبور في بافاريا Bavière والنمسا وتشيكوسلوفاكيا. كانوا يطلبون تأشيرات لأوروبا الغربية أو للولايات المتحدة. لكنهم رُفضوا، وقيل لهم: «لديكم بلد، اذهبوا متى شئتم». لقد دفع الفلسطينيون ثمن معاداة المسيحية لليهود، ومعاداة السامية العنصرية، والإبادة النازية، رغم أنهم لم يكن لهم أدنى مسؤولية في تلك الجرائم الأوروبية.

لطالما عملت الصهيونية بالإنكار وفرض الأمر الواقع والإفلات من العقاب. الإنكار، هو تصريح بن غوريون: «لم نطرد أحدًا، العرب هم الذين رحلوا بأنفسهم ». الأمر الواقع، هو تدمير مئات القرى الفلسطينية في 1948 – 1949 رغم تصويت الأمم المتحدة على القرار 194 الذي يقضي بعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم. الإفلات من العقاب، هو قبول عضوية “إسرائيل” في الأمم المتحدة رغم أنها كانت تنتهك القانون الدولي عمدًا.

لماذا انخرط عدد كبير من اليهود في هذا المشروع الإجرامي؟

هناك أولئك الذين كانوا يبحثون عن ملجأ ولم يكن أمامهم أي وجهة أخرى ممكنة. وهناك تنظيم هجرة اليهود من العالم العربي. لنذكر مثال العراق: فمن المعروف أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية هي التي فجّرت الكنيس الكبير في بغداد عام 1950، ما أدى إلى هجرة 130 ألف يهودي عراقي. وفي اليمن، كانت هناك أسطورة يهودية تقول إن المسيح سيأتي ويحملهم على أجنحته. جاء الصهاينة ونقلوهم بالطائرة، فأفرغوا مجتمعًا عمره أكثر من 2000 عام. ويجب القول أيضًا إن معظم الأنظمة العربية لم تفعل شيئًا للاحتفاظ باليهود.

في “إسرائيل”، تهدف التربية إلى تشكيل «الإنسان الجديد». في رياض الأطفال، يصنع الأطفال دبابات من لفائف ورق المرحاض والورق الجفاف. وفي المدرسة الابتدائية، يكتبون رسائل للجنود. وفي الإعدادية، يُشرح لهم أن العالم كله يريد قتل اليهود، وأنهم إذا لم يدافعوا عن أنفسهم «فسيُلقون في البحر». والنتيجة: مجتمع يهودي إسرائيلي عنصري – حتى داخليًا – عسكري ومُفْرَط في التطرّف. 90% من اليهود الإسرائيليين صهاينة ويعتقدون أن «الفلسطينيين غزاة».

منذ ولادة المشروع الصهيوني وصولًا إلى الإبادة الجارية اليوم في فلسطين، حدّثنا عن الاستعمار الاستيطاني وعن المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال الصهيوني، وما هي آفاق تقرير المصير والتحرّر الوطني للشعب الفلسطيني بعد قرن من التضحيات والمعاناة والمقاومة للاضطهاد والنضال ضد ظلم لا يُسمّى؟

يجب أن نعلم أنّ المؤسسات الصهيونية التي قامت بطرد الشعب الفلسطيني من بلده سبقت قيام “إسرائيل” الرسمي بعدة عشرات من السنين. فالبنك الاستعماري اليهودي أُنشئ عام 1898، وكان يشتري الأراضي من الإقطاعيين الغائبين لطرد الفلاحين القاطنين فيها. والصندوق القومي اليهودي (JNF) أُنشئ عام 1901 بهدف «تهويد الأرض»، وكان يزرع الأشجار فوق مواقع القرى الفلسطينية.

كان من المستحيل استعمار فلسطين عبر استعمار فردي، بل كان لا بدّ من استعمار جماعي. ومنذ عام 1920، أصبحت الجناح الاجتماعي-الديمقراطي بقيادة دافيد بن غوريون هو الأغلبية داخل الحركة الصهيونية. وقد أسس “الهستدروت” Histadrout (الاتحاد العام  للعمال اليهود) الذي ينصّ أول بند من نظامه الداخلي على «الدفاع عن العمل اليهودي». كان هذا الاتحاد مخصّصًا لليهود فقط، وأوّل نشاط له كان مقاطعة المتاجر العربية. وقد أسّس الهستدروت شركة “ميكوروت” للمياه (التي تسرق المياه اليوم في الضفة الغربية) وشركة “زيم” للملاحة وشركة “سوليل بونيه” للأشغال العامة (التي ستبني المستوطنات)، والبنوك الكبرى وصناديق التقاعد والتأمين الصحي، والكيبوتسات (المحرّمة على العرب) والوكالة اليهودية (التي تستقبل المستوطنين الجدد)، ومنظمة “الهاجاناه” التي كانت نواة الجيش المُتهم اليوم بالإبادة. قبل عقود من النكبة، كان هناك فعليًا دولة يهودية تحت حماية الاستعمار البريطاني.

كان الشعب الفلسطيني يتمتع بتقاليد استقبال. وصل إلى فلسطين أرمن (Arméniens) وشركس Tcherkesses وسودانيون وأصبحوا فلسطينيين. حتى إنّ هناك مجتمعًا يهوديًا محليًا عاش بلا أي مشكلة مع جيرانه المسلمين والمسيحيين. لكن الفلسطينيين فهموا بسرعة أن الهجرة الصهيونية كانت مختلفة، وأن لا نية لها في الاندماج، وأنها تخطّط لطردهم. فاندلعت ثورات في 1920 ثم 1929.

أشعلت ثورة وإضراب عام 1936 البلاد كلها. وقُمعت بوحشية من قبل الجيش البريطاني والميليشيات الصهيونية (الهاجاناه والأرغون). سقط آلاف القتلى، ونُفي القادة الفلسطينيون الرئيسيون، بينما كان الصهاينة «يرسمون خرائط» البلاد كلها وهم يعرفون بدقة من يمكنه مقاومتهم.

في عام 1945، استفاد الصهاينة من ميزان قوة ملائم عسكريًا وسياسيًا. وكان اليمين الصهيوني المتطرف يرتكب العديد من الاغتيالات ضدّ المدنيين. واقترحت اللجنة العربية العليا على الأمم المتحدة إقامة دولة ثنائية القومية، لكنّ الاقتراح سُحق بسرعة مع التصويت على خطة التقسيم. ومرة أخرى، لم يُسمح لفلسطين بالكلام.

لم يعد هناك أي نقاش تاريخي حول النكبة. فقد بيّنت شهادات الفلسطينيين أنّ ما يجري هو عملية تطهير عرقي مخططة مسبقًا. كان الخيار أمامهم بين المنفى أو الموت. 800 ألف فلسطيني غادروا، وأصبح عدد أحفادهم اليوم 10 ملايين. وكانت خطة “دالِت” Dalet (الحرف د بالعبرية) تنص على طرد الجميع. من بقي كان من الناجين بالصدفة. هؤلاء الفلسطينيون الذين بقوا عام 48 يمثلون اليوم 22% من المواطنين الإسرائيليين. وهم يعيشون منذ البداية تحت نظام أبارتايد مؤسساتي يُمنع فيه عليهم معظم الأراضي والوظائف.

منذ هدنة 1949، بينما كانت الأمم المتحدة تطالب بعودة اللاجئين الفلسطينيين، كانت “إسرائيل” تدمّر مئات المدن والقرى الفلسطينية وتغيّر أسماء المدن والأنهار والجبال. كان الهدف «مَحْو» أثر الشعب الأصلي. بل إن كلمة «فلسطين» لم تكن موجودة في الخطاب الإسرائيلي. أمّا الـ22% المتبقّية من فلسطين التاريخية والتي لم يسيطر عليها الصهاينة فقد ضمّها الأردن أو احتلتها مصر. اختفت فلسطين، وكان الإسرائيليون مقتنعين بأنها ستذوب في العالم العربي.

غيّر الانتصار العسكري الإسرائيلي عام 1967 كل شيء. فأصبح نصف السكان بين البحر والنهر فلسطينيين. صارت فلسطين محتلة ومفككة. تأسست منظمة التحرير الفلسطينية. حاولت الكفاح المسلح دون نجاح، وطُردت من الأردن ثم من لبنان.

ثم جرّبت الدبلوماسية. كانت اتفاقيات أوسلو خدعة هائلة. فقد نوقشت كل الملفات الأساسية: المستوطنات، الأسرى، القدس، الدولة الفلسطينية، اللاجئون. لكن الشيء الوحيد المُوقع كان «التنسيق الأمني» أي التزام الشعب المحتلّ بضمان أمن المحتلّ. بين توقيع أوسلو واغتيال “رابين”،قام هذا الأخير بتوطين 60 ألف مستوطن جديد. طوال 30 عامًا، كانت “عملية السلام” المزعومة أداة لتوسيع آلة الاستعمار. هناك اليوم 900 ألف مستوطن، أي 12% من السكان اليهود الإسرائيليين. وأسفر أوسلو عن الانقسام الفلسطيني.

حاول الفلسطينيون اللاعنف. خلال مسيرات العودة في 2018–2019 كان سلاح أهل غزة مجرّد طائرات ورقية، النتيجة كانت: 350 شهيدًا و10 آلاف مصاب بإعاقات دائمة في غياب تام لأي ردّ من طرف “المجتمع الدولي” المزعوم.
ورغم كل المعاناة، لا يزال الفلسطينيون موجودين وهم بعدد مساوي لعدد المحتلين. مُجزّأون، مُهجّرون، مُحاصرون، مقتولون، لكنهم يعيشون، وبالتالي يقاومون. مطلبهم واحد لم يتغير: أن يُطبّق عليهم القانون الدولي: الحرية، المساواة، العدالة.

(1) في تقرير كُتب عام 1907، قبل عشرة أعوام من صدور “وعد بلفور”، كتب رئيس الوزراء البريطاني هنري كامبل بانرمان:
«إن الشعوب العربية-الإسلامية التي تُسيطر على أراضٍ شاسعة غنية بالثروات المعروفة أو المخفية، وتقع عند مفترق طرق التجارة العالمية، تُشكّل تهديدًا لأوروبا وعائقًا أمام توسعها…
وإذا قدّر لهذه الأمة أن تتوحّد في دولة واحدة، فسيكون مصير العالم بين يديها، وستكون قادرة على قطع أوروبا عن بقية العالم.
وبالنظر جديًا، ينبغي زرع جسم غريب في قلب هذه الأمة كي نمنعها من الاتحاد».

إلى الأعلى
×